سلسلة إشراقات إيمانية في شهر الصيام | المقالة السادسة | د. محمد أبو بكر باذيب

رمضان شهر التضحيات


          الحمد لله الذي خصص شهر رمضان بالمزايا، وأكرم عباده المؤمنين بالتحف والعطايا. والصلاة والسلام على سيد سادات البرايا، الحبيب المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه مقتفياً أثره وأخلص في النوايا.

          رمضان شهر التضحيات، وشهر العبادة والمكابدة والصبر والاحتساب. وقد يتعجب البعض من مصطلح التضحيات، ومدى ملاءمته لعبادة المسلم في رمضان. فلنلق نظرة على معناها في اللغة العربية، ليتضح لنا مقصودها. 

      • التضحية:

في اللغة: هي التبرع بالشيء دون مقابل. وهذا تعريف لغوي مادي في عرف البشر.

أما في الشريعة الإسلامية: فالتضحية بالشيء إذا اقترنت بالنية الحسنة فإنها تقابلُ بالثواب من الكريم الوهاب. وهذا هو معنى الاحتساب الوارد في السنة.

           إن الاحتساب الوارد في الشريعة الإسلامية على لسان النبي المصطفى هو التضحية عينها، ذلك أن المسلم يحتسبُ عند ربه تعالى في الآخرة ثواب عمله الذي قدمه في الدنيا، فالاحتسابُ بحسب تعريف اللغويين لا يختلف عن التضحية من ناحية عدم وجود المقابل المادي في الدنيا، ولكنه يختلف عنها بتطلع المؤمن إلى مقابل أخروي غيبي أرشدت إليه الشريعة.

 

      • ولعلنا نقسم تضحيات المسلم بخصوص هذه العبادة العظيمة، عبادة الصيام، إلى نوعين:

أ) تضحيات عامة: يشترك فيها كل المسلمين، وهي التضحية بالأكل والشرب والملذات والشهوات من نوم ودعة وراحة. 

ب) تضحيات خاصة: وهي التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى.

      • أ) فأما التضحيات العامة

          وأبرزها التضحية بشهوة الأكل والشرب والتضحية بإطعام الطعام الذي امتدح القرآن الكريم فاعله كما في قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه). أخرج الإمام أحمد في (مسنده) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «كل حسنة يعملها ابن آدم تضاعف عشراً، إلى سبعمائة ضعفٍ، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته من أجلي، ويدع طعامه من أجلي فرحتان للصائم، فرحةٌ عند فطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه عز وجل، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ». وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) بلفظ أحمد.

 

    • الصائم والنوم في رمضان: 

          من جملة التضحيات، نبذ المؤمن الكسلَ والنوم في نهار وليل رمضان لأجل الصلاة والقيام والاعتكاف، ففي (الصحيح) عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه  قال: «مَنْ قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه”. فهذه تضحية بأوقات الراحة للتلاوة والصلاة والقيام». 

 

    • إنفاق المال في رمضان:

          كما أن من أعظم التضحيات، التضحية بالمال للمحتاجين، على صورة صدقات وزكوات ومواساة، قال : ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. [آل عمران، 92]

 

      • ب) وأما التضحيات الخاصة:

          فأعظمها الجهاد في سبيل الله، وبذل الروح والنفس لإعلاء كلمة الله. ومن أعظم مظاهرها، غزوة بدر الكبرى، التي جرت في 17 شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية المباركة. وذلك أن رسول الله قد علم أن أبا سفيان بن حرب قادمٌ بقافلة تجارية لقريش من الشام تحمل أموالا عظيمة، في ذلك الوقت كانت الحالة التي بين المسلمين وقريش حالة حرب وفى حالة الحرب تصبح أموال العدو ودمائهم مباحة، وكان المسلمون من قبل ذلك قد علموا أن قريشًا استولت على أموالهم بمكة، وهذا يعنى أن جزءًا من هذا المال الموجود بالقافلة كان من مال المسلمين.. إلى آخر أحداث غزوة بدر الكبرى. الشاهد أنها جرت في شهر رمضان. 

 

وقد اختلف أهل العلم في مسألة فطر الصحابة أثناء الغزوة: 

أ – روى الترمذي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ غَزْوَتَيْنِ فِي رَمَضَانَ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَالفَتْحِ، فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا».

ب- في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله يصوم ونصوم، حتى بلغ منزلا من المنازل فقال: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم”, فأصبحنا: منا الصائم ومنا المفطر، قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال: “إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا” فكانت عزيمة من رسول الله ».

          قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله به، فقال: “فرض عليه  رمضان في ثاني سنة من الهجرة، فهو أول رمضان صامه وصامه المسلمون معه، ثم خرج النبي  لطلب عير من قريش قدمت من الشام إلى المدينة، في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وأفطر في خروجه إليها. قال ابن المسيب: قال عمر: (غزونا مع رسول الله ﷺ غزوتين في رمضان: يوم بدر ويوم الفتح، وأفطرنا فيهما) ” انتهى من “لطائف المعارف” (ص 177) . 

 

          قال بعض أهل العلم: ولا تعارض، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب عن الأول، أو باختلاف العاملين. اهـ. ولا تعارض بين حديث البخاري وبين حديثنا، لأن صيام شهر وقيامه خير من الدنيا وما عليها. ولا يعارضه خير من ألف يوم لإمكان حمله على الإعلام بالزيادة من الثواب أو يختلف باختلاف العاملين.

 

      • تفضيل المرابطة على الصيام:

          وروى مسلم في صحيحه من حديث سلمان رضي الله عنه أن النبي  قال: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ»

          قال أهل العلم: والرباط وحراسة المسلمين من أعدائهم مهمة لا تقل عن الجهاد والقتال، بل إن النتيجة لها أعظم غالبا من الجهاد، فقد قيل: الوقاية خير من العلاج، ثم إن تعرض المرابط للخطر أشد من تعرضه للقتال، فكثيرا ما يكون المرابطون قلة عددا وعدة عن العدو، وهو هدف محصور في مواجهته، من هنا كان الترغيب فيه بثواب أعظم، فالمجاهد الغازي كالقائم الليل الصائم النهار من حين يخرج إلى حين يعود، فيومه بصيام يوم، وليلته بقيام ليلة، أما المرابط فيومه بصيام شهر، وليلته بقيام ليالي شهر، بل المرابط يضاف إلى عمله بعد موته استمرارية أجر المرابط ما شاء الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

 

          نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام وسائر الأعمال وأن يكرمنا بالقبول وإدراك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وصلى الله على خيرته من خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.