بين تربية القوم وثقافة اليوم للحبيب أبي بكر المشهور

الداعية الأديب الحبيب أبو بكر المشهور يستعرض من خلال كلامه هنا تجربته الشخصية الفريدة، ويبين من خلالها استقراءه للواقع الحالي ومقارنته بما مضى من الزمان وأثر ذلك في التربية وثقافة اليوم على الأمة، وبيان أثر التحولات الاجتماعية على حملة العلم الشرعي، وخوضه للحياة الأكاديمية وأهم المسئوليات التي قام بها.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لقد كبرى سني ومر عليَّ من تجربة العمر ما أنا جدير بإثبات إيجابية ومحاكمة سلبياته … ليستفيد من هذه الحصيلة الموثقة من ألقى السمع وهو شهيد …
لقد عاصرت في مرحلة الشباب قيام الثورة اليمنية منذ بداياتها … ولم أكن حينها أعلم عن مؤامرات الغرب ولا مغامرات الشرق … بل كنت شاباً طموحاً أحب الإطلاع والمعرفة والتدخل في كل شيء أستتبع فيه رغبة طموحي …
وساعدني على هذا الانطلاق كثرة قراءاتي ومطالعاتي لكل ما تقع عليه يدي … بدءًا بما مقرر لي على نظر والدي رحمه الله …
ومروراً بما أتلقاه من مشايخي وجملة المعلمين في المدرسة المميزة آنذاك … وما لحق هذه المرحلة من حياه معرفية خارج إطار الجدران المدرسية حتى مرحلة الثورة والاستقلال وما بعدها.
وأستشعر الآن وأنا في هذا العمر أن شخوص المراحل الذي عرفتهم وتأثرت بهم كانوا نماذج شتى ممن كانوا يعرفون والدي ويعايشون لغته وذاتيته الدعوية العلمية والعملية … وممن يدركون حرصه الشديد عليَّ وعلى استقامتي وسلوكي أكثر من غير … فكانوا يساعدونه على مراعاتي ومتابعة تحركاتي في تلك القرية الصغيرة التي كنا نراها أكبر المدن في حياتنا الأولى باعتبارها عاصمة للسلطنة، ثم صارت مركزاً إدارياً للمديرية في محافظة أبين، فهم خير معين لي وخير عين لوالدي.
وربما استغرب القارئ إذا قلت أن المحيط الذي أتحرك فيه آنذاك لا يعدوا المنزل والمدرسة والمسجد والمحيط العائلي الأسري إذْ كانت الأسواق بعيدة عن المنزل … ويصعب الذهاب إليها مباشرة.
وإذا ما ذهبت إلى السوق لسبب وآخر فأنا على علم بالمخالفة ووجود المراقبة، واستنكار الناس وجودي في هذا المحيط غير المألوف لي … وربما نالني من العقاب عند عودتي ما يجعلني أغير وجهة نظري السابقة بالذهاب والمرور فيه.
وجاءت الثورة وانقلبت المقاييس، وتغيرت الأوضاع وجاءت وجوه وقلوب وعقول وأفكار وطموحات أخرى … وبدأ التشكيل الجديد عقلي من خلال ما أشهده وأسمعه من عناصر التغير وساسة التحذير
وكان الواقع المحلي مزحوما بطلبة سيدي الوالد وتلاميذهـ، ولكن الكثير منهم صار في موقع التأثير والثورة والريادة والقيادة، وصاروا يكثرون التردد عليه ويناقشونه ويطلبون منه المشاركة فيما هم بصدده، ويشيرون إلي وإلى إخواني الكبار وما يجب أن نعمله لمصلحة الوطن.
وكنت أشهد الحيرة الواضحة في وجه والدي وهو يجامل ويداري ويحسن المعاملة مع الجميع رغبة منه في حفظ ماء الوجه والدين والعرض والمواطنة.
وإذا تكلم في خطبة جمعة أو محاضرة عامة طلب منه قول شيء فيها حول الأوضاع تراه يتحرى الكلام عما يجمع قلوب الناس ولا يتحرى أحد ولا يتناول فرداً باسمه ولا حاكما ولا مواطنا ولا ما يثير النفوس والقلوب.
وإذا ما عاد إلى المنزل عاد مكتئبا عميق التفكير والتأمل لمجريات التحول وأثارها، ولا يخرجه من ذلك سوى اشتغاله بقراءة القرآن وعمارة أوقاته بكتب العلم ودروسه ولو في محيط المنزل معنا دون غيرنا …
لقد شهدت أثر التحولات التي عاصرها والدي في أحور وقد انعكست على حياته الاجتماعية انعكاسا صعب المعادلة …
ولم يكن له من مال أو عقار أو دنيا ينافسه الناس عليها، وإنما كان جوهره ومظهره العلم والتعليم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولكن التحولات الاجتماعية كما شهدناها في تلك القرية وكما جرت في بقية أصقاع الوطن كانت لا ترغب في ((حملة العلم الشرعي الأبوي ولا تساند وجهة نظرهم)) بل كانت تتربص بهم وبهفواتهم وأخطائهم وخاصة ما يخص الإجراءات الثورية وقضايا المرأة وغيرها من الأمور …
لكنا نحن باعتبار وجودنا في الواقع الاجتماعي نخترق الواقع الجديد ونشارك فيما نستطيع المشاركة فيه، باعتبار ذلك طموحا عمليا يصنع للمشارك موقعاً في الحياة [1] .
وعلى مدى السنوات المتلاحقة والمرحلة غرائب التحول وتدفع بالمجتمع نحو الإحتدام والاصطدام والتشفي بين الطبقات الاجتماعية.
وازداد الأمر تعقيدا بمرحلة الانتفاضات التي دفعت بالأمور إلى الذروة، وذهب سيدي الوالد يرسم خطة السفر عن الوطن إلى حيث يأمن على نفسه ودينه وخاصة بعد أن استغنى عن خدماته.
ووجهني خلال هذه المرحلة القلقة للسفر من مدينتي إلى الريف محملا إياي ضرورة التعليم بين البادية، لأكون بعيداً عن مجريات التحولات والتغيرات.
وسافر سيدي الوالد متجها إلى الحجاز في ظروف صعبة وكنت حينها بعيدا عن مسقط رأسي ولكن الأخبار وصلتني بالرسائل.
ودخلت مرحلة مفصلية جديدة … سواء في المرحلة ورموزها، أو بالعلاقة بالتقاليد والقيم التي نمثلها في الواقع الاجتماعي، أو في الاحتكاك في الواقع المتحول ورموزه.
وكانت تجربة صعبة بكل المقاييس دفعتني لاتخاذ موقف جديد لا بد منه.
استكمال الدراسة المنهجية الأكاديمية.
فالشهادة التي في يدي لا تتجاوز المتوسطة، وقد حصلت عليها بعد الثورة بمعاناة شديدة، وقد كنت لا أملك شهادة رسمية.
وبدأت إجراءات الانتقال من قريتي أحور إلى مدينة عدن، وساعدني على ذلك عدة ظروف ليس هنا موضع ذكرها، ونتقلت إلى عدن لتبدأ مرحلة مفصلية جديدة، ولكنها مرحلة اختلفت كثير عن واقع القرية التي ولدت فيها.
فهنا تقلصت نظرة الشامتين والحاسدين والجاهلين، وخضنا معركة العلم الأكاديمي من جهة، ومعركة التدريس في مدارس الحكومة من جهة أخرى.
وأكثر ما أرهقني في هذه المرحلة جدلية الحوار، وصعوبة امتلاك أسباب الاستقرار.
حوار جدلي في الجامعة، وحوار في المنزل مع أشباهي وأمثالي حوار في المناسبات المنعقدة وحوار جدلي في المدرسة، منهجية التدريس الجامعي تدرس الجدلية المادية، ودورات العمل الدراسي وتدرس الفكر الماركسي، وفي موقع عملي الرسمي ثلة من المعلمين الرافضين مسألة الديانة من أساسها … يمتهنون الصلاة والصيام، ويتحدون المعلم هنا ولا غير الإبتذال والتمدي والتعدي وكانت تلك سنة القمة والقاعدة.
فالكل يعمل على محاربة الإسلام، وهذه شهادتي أمام الله ولكنهم يركبون الإسلام كحصان طرواده
وضاق صدري بالمدينة وما فيها ولكني تجاوزت المرحلة الأكاديمية بنجاح، وبدأ التفكير في الخروج من الوطن …. ولم أجد معينا على ذلك بدأً من قمة موقع القرار ونهاية بموقع العمل والوظيفة.
فجهزت نفسي لمغامرة الانتقال من الوطن إلى خارجه وما كان خارجه آنذاك إلا الشطر الشمالي من الوطن ذاته.
وكان التجرؤ على الانتقال آنذاك خيانة عظمى، ولكن خرجت نقلت خروجي في قصة سميتها (الخروج من الدائرة الحمراء). [2]
وخلال نصف شهر أو تزيد وصلت إلى أرض الحجاز حيث سكن والدي، وكان المحيط الأول للسكن معه هو المسجد، فنحن أسرة نعيش وننام ونأكل ونعمل في هذا المحيط … وكانت مرحلة مفصلية جديدة.
المجتمع الجديد … أسلوب المعاملة مع أمثالنا كأجانب، حدود حركتنا وخدمتنا للهدف الأسمى الدعوة إلى الله.
ولكنها كانت حياة أسرية أفضل أعادت لي نفس الحياة الأولى، وجمعت لي أشتات النفس والروح والقلب والجوارح مع أبي وأمي وبعض أخوتي وأولادي.
ومرت الأيام الأولي تعيد الأنفاس والإحساس وتربط الذاكرة بين مرحلة التربية الأولى ومرحلة المعركة الاجتماعية الصعبة التي عاناها الوالد في وطنه، وبين معركتنا الاجتماعية والعلمية حتى وصولنا من جديد إلى بر الأمان، ومنذ أن وصلت بدأت الجدية في العلم والعمل:
مسؤولية الأمانة والخطابة والتدريس
مسؤولية الارتباط بمجالس الحبيب عبد القادر
مسؤولية الاجتماع بالأولاد ودراستهم
مسؤولية المجالس الخاصة بسيدي الوالد والقراءة عليه، وشعرت حقا بميلادي من جديد.
وعلى مدى العشر سنوات المتلاحقة نما الذوق والفكر والوعي والعقل والقلب والجوارح على مخزون الماضي وعطاء الحاضر.
ورغم ما فيها من عثرات ولكنها مكنت الروابط وأحكمت الضوابط، ومن عثراتها موت سيدي الوالد رحمه الله.
ومضايقات الأضداد في شأن الاختلافات العلمية، وكلها أسهمت في بناء جسد المستقبل الموصول إلى النهج السوي.
حيث جاءت رحلة العودة إلى الوطن لترسي سفينة الخدمة الفضلى لإعادة منهج القوم وإحياء ثوابته، وتحجيم ثقافة اليوم لتصبح مادة معرفة ووسيلة هادفة.

 

[1] ساهمنا في صرف عيون المندفعين والمنتفعين عن أذى الوالد وملاحقته إضافة إلى تواضع سيدي الوالد ولطفه وحسن معاملته مع الخصوم والأضداد ساعده على تجنب الأذى الصريح والملاحقة المقلقة طيلة تحمله مسؤولية الإشراف على التعليم في المدرسة
[2] ورافق النجاح موت زوجتي ورفيقة حياتي … وأم أولادي