المقال الرابع من سلسلة مقالات التوعية الدينية بالأحاديث النبوية من ركن التوعية الأسبوعي للشيخ محمد أبو بكر باذيب: معنى حديث الطيرة الوارد النهي عنها في السنة المطهرة

ركن التوعية الأسبوعي هو مكوَّن رئيسٌ في موقع (معهد نور الهدى العالمي للعلوم الإسلامية) ينشر فيه كل أسبوع مقالٌ جديد، صوتاً وكتابةً. بعضها مقالاتٌ متسلسلة، وبعضها مفردةٌ القصدُ منها إفادة القراء والسامعين بمواضيع قيمة علمية أو سلوكية إلى مناقشة ما يطرأ على الساحة الدينية من قضايا مستجدّة. يتناول هذا البحث شرح الحديث الوارد في الطيرة التي هي التشاؤم من بعض الأمور، والله الموفق.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بدر الدجى، ومنار الاهتداء، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى.

أما بعد؛  فقد وردني سؤال من أحد الإخوة عن حديث ورد في كتاب «تحذير الساجد»، للشيخ الألباني رحمه الله، وهو حديث ابن عمرو رضي الله عنهما في الطيرة. وكان في السؤال مذكور أن الذي أخرج الحديث: هو الألباني، وأن الراوي: هو ابن عمر. وطلب مني السائل الكريم الإفادة عن معنى الطيرة، وهل هي التشاؤم، أم غيرها. الى آخر ما ذكر. وما أنا بأهل للخوض في هذا الباب، ولكني خشيت وعيد الكتم، فكتبت السطور التالية، وأرحب بتعليقات وإفادات الإخوة الكرام.

 

كان جوابي للسائل بقولي:

بسم الله، رب يسر وافتح بالخير، ياكريم.

بارك الله فيكم، وأشكر لكم حسن ظنكم، وأسأل الله تعالى لي ولكم السداد في القول والعمل. وأن ينفعنا وإياكم بالعلم، ويوفقنا للعمل به. وإن مما يدخل السرور على القلب سؤالكم في أمور دينكم، وتطلبكم معرفة قول أهل العلم في فهم وتوجيه كلام الصادق المصدوق سيدنا وحبيبنا رسول الله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم.

وإليكم جوابَ ما سألتم عنه، وما دارَ بينكم من توجيه معنى الحديث الشريف، وما أنا إلا ناقل ومرتب لكلام سادتي أئمة الدين، وملخص لما حرروه في دواوين الإسلام العظيم، التي أحثكم على الرجوع إليها، والنظر فيها، لأنها تكسب القلب طمأنينة، وتبعد عن العقول الوسواس، وتملأ القلب حبا وتعظيماً للدين.

 

جواب السؤال الأول

 

أولاً: وقبل الخوض في معنى الحديث، أقدم هذا التوجيه اللطيف، فقد أشار السائل إلى أن راويَ الحديث هو عبدالله بن عمر. والصواب: أن الراوي هو عبدالله بن عمرو بن العاص، وليس ابن عمر بن الخطاب. هذه واحدةٌ. الثانية: أنه أشار إلى أن المحدث الذي أخرج الحديث هو (الألباني)، ويقصد به فضيلة الشيخ العالم الفاضل محمد ناصر الدين الألباني المتوفى سنة 1420هـ، رحمه الله ورحم أموات المسلمين، وهذا غير صحيح، فهذا الحديث الشريف أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير. والشيخ الألباني من مشاهير العلماء المشتغلين بالتخريج في هذا العصر، ولكن لا يقال: أخرجه الألباني، لأن الأحاديثَ قد خرجت في دواوين الإسلام قبل أكثر من ألف عام!

ثانياً: هذا الحديث الشريف له عدة روايات، وروي بألفاظ عدّة، فقد رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أربعة من الصحابة الكرام، (1) منهم عبدالله بن عمرو بن العاص وروايته أمامكم في أعلى المشاركة، أخرجها أحمد والبزَّار، (2) ومنها حديث رويفع بن ثابت أخرجه البزار، (3) وحديث فضالة بن عبيد أخرجه ابن وهب في جامعه، (4) وحديث أبي هريرة أخرجه البزار في مسنده، وحسنه الهيثمي.

هذا من حيث اللفظ الوارد المسؤول عنه.

وأما أصل النهي عن الطيرة، فأحاديثه صحاح، وهي من المتفق عليه عند الشيخين، البخاري ومسلم. فأخرج البخاري في صحيحه، في كتاب بدء الوحي، باب الفأل. حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا طيرة وخيرها الفأل قال وما الفأل يا رسول الله قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم. حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة.

قال الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: « وأصل التطير: أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطيرِ، فإذا خرج أحدُهم لأمرٍ فإن رأى الطيرَ طارَ يمنةً تيمَّن به واستمر، وأن رآه طار يسرةً تشاءم به ورجع، وربما كان أحدُهم يهيج الطير ليطيرَ فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك. وكانوا يسمونه (السانح) بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، و(البارح) بموحدة وآخره مهملة. فالسانحُ: ما ولاك ميامنه، بأن يمر عن يسارك إلى يمينكَ، والبارحُ: بالعكس. وكانوا يتيمَّنون بالسانحِ، ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه، وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتَضي ما اعتقدوهُ، وإنما هو تكلفٌ بتعاطي ما لا أصْلَ له، إذ لا نطق للطير ولا تمييزَ، فيستدلُّ بفعله على مضمون معنى فيه، وطلبُ العلم من غير مظانِّه جهلٌ من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويتمدح بتركه …».

إلى أن قال: «وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك وبقيت من ذلك بقايا في كثير من المسلمين وقد أخرج بن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه لا طيرة والطيرة على من تطير وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد فإذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ وإذا ظننت فلا تحقق وهذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في الشعب وأخرج بن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه إذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا».

وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه: «لن ينال الدرجات العلاء من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر تطيرا»، ورجاله ثقاتٌ، إلا أنني أظن أن فيه انقطاعاً. وله شاهد عن عمران بن حصين، وأخرجه البزارُ في أثناء حديثٍ بسند جيد، وأخرج أبو داود والترمذي، وصححَه هو وبن حبانَ، عن ابن مسعود رفعه: «الطيرة شركٌ ـ وما منا الا تطير ـ ولكن الله يذهبه بالتوكل»، وقوله: «وما منا إلا ..»، من كلام بن مسعودٍ، أدرج في الخبر، وقد بينه سليمان بن حرب شيخُ البخاري، فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه.

وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى وقوله: «ولكن الله يذهبه بالتوكل»، إشارةٌ إلى أن من وقع له ذلك فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة، أنه لا يؤاخَذُ بما عرَض له من ذلكَ، وأخرج البيهقي في «الشعب» من حديث عبد الله بن عمرو موقوفاً: «من عرض له من هذه الطيرة شيءٌ، فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك».

 

السؤال الثاني وجوابه

 

س/ هل هناك تعارض في الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري في صحيحه، فقد سبق أن قرأنا حديث: «لا طيرة»، فكيف نفهمه ونجمع بينه وبين الحديث الآخر عنده، الذي أخرجه في الكتاب نفسه (كتاب بدء الوحي)، في باب الطيرة. حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى، ولا طيرة والشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة.

فهل هناك طيرة شرعية، وطيرة شركية؟!.

الجوابُ يؤخذ من كلام الحافظ الإمام ابن بطال الركبي اليماني في «شرح صحيح البخارى»: « قال المهلبُ: قوله: «إنما الشؤم فى ثلاث» … أعلمهم أن الذى يعذَّبون به من الطيرةِ، لمن التزمها، إنما هو فى ثلاثةِ أشياء، وهى الملازِمةُ لهم: مثلَ دار المنشأ والمسكن، والزوجة، التى هى ملازمة فى حال العيش اليسير، والفرس الذى به عيشُه وجهاده وتقلبه. فحكم صلى الله عليه وسلم بترك هذه الثلاثة الأشياء لم ألزَم التطيرَ حين قال فى الدار التى سكنت، والمال وافر، والعدد كثير؛ «اتركوها ذميمةَ»، خشية ألا يطولَ تعذّبُ النفوس بما يكره من هذه الثلاثةِ، ويتطير به. وأما غيرها من الأشياء التى إنما هى خاطرة وطارئةٌ، وإنما تحزن بها النفوسُ ساعةً أو أقلَّ»، انتهى.

فمعنى كلام ابن بطالٍ هذا: أن معنى الحديث: أن أكثر ما تكون الطيرة، وأكثر ما يكون التشاؤم فيه عند عامة الناس في هذه الثلاثة الأمور، المرأة، والفرس (الدابة والمركوب)، والدار. فخصها بالذكر ليجتنب المسلم الوقع فيها، وأما التطير والتشاؤم بغيرها، فهو أقل منها.

 

السؤال الثالث وجوابه

 

س/ كيف نسلم من الطيرة، وهل هناك دعاء لصرف التشاؤم؟

الجواب: أخرج الإمام ابو داوود في «سننه» من حديث عروة بن عامرٍ، رضي الله عنه، قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: «خيرها الفألُ، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله».

قال الحافظ ابن حجر: «وقوله: «وخيرها الفأل»، قالَ الكرماني تبعاً لغيره: هذه الإضافةُ تشعر بأن الفألَ من جملة الطيرَةِ، وليس كذلكَ، بل هي إضافةُ توضيحٍ. ثم قالَ: وأيضاً؛ فإن من جملة الطيرة كما تقدم تقريره التيامنُ، فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤمِ، بل بعضُ التيامن مقبولٌ.

قلتُ [القائل هو الحافظ ابن حجر]: وفي الجواب الأول دفع في صدر السؤال، وفي الثاني تسليم السؤالِ ودعْوَى التخصيصِ، وهو أقرَبُ، وقد أخرج ابن ماجة بسندٍ حَسن عن أبي هريرة رفعه: «كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة»، وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: «العين حق وأصدق الطيرة الفأل»، ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى»، انتهى.

هذا، وفي «فتح الباري»، وغيره، تفصيل لمن اراد الزيادة والاستفادة، وأرجو أن أكون وفقت في عرض المسئلة وشرحها وفق مراد السائل، والله أعلم.

 

 حرره، محمد باذيب، سامحه الله.

 

نشر المقال الأول في المدونة السابقة بتاريخ: 13 / 2 / 2012م