المقال الثاني من سلسلة مقالات التوعية الدينية بالأحاديث النبوية من ركن التوعية الأسبوعي للشيخ محمد أبو بكر باذيب: معنى حديث «سبّ الدهْر» الجزء الأول

ركن التوعية الأسبوعي هو مكوَّن رئيسٌ في موقع (معهد نور الهدى العالمي للعلوم الإسلامية) ينشر فيه كل أسبوع مقالٌ جديد، صوتاً وكتابةً. بعضها مقالاتٌ متسلسلة، وبعضها مفردةٌ القصدُ منها إفادة القراء والسامعين بمواضيع قيمة علمية أو سلوكية إلى مناقشة ما يطرأ على الساحة الدينية من قضايا مستجدّة. يتناول هذا البحث شرح الحديث الوارد في النهي عن سب الدهر، وإبراز معانيه، والأحكام الفقهية المستنبطة منه، وتحرير الخلاف الواقع بين علماء المسلمين في المسألة، والله الموفق.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد بدر الدجى، ومنار الاهتداء، وعلى آله وصحبه ومن بهم اقتدى.

أما بعد؛ فإن حديثَ النهي عن سبِّ الدّهْر من الأحاديث الصحاح المتفق عليها من رواية أبي هريرة، رضي الله عنه. وقد وردت فيه روايتان شهيرتان:

الرواية الأولى: في حديث مرفوع، بضمير الغيبة «إن الله هو الدهر»، وذلك فيما أخرجه مالك في «الموطأ» [2/ 984، رقم 3] عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقل أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر».

وأخرجه من طريق أبي الزناد عن أبي هريرة: مسلم في «صحيحه» [7/ 45، رقم 6002]، والبخاري في «الأدب المفرد» [ص 269، رقم 769]، وأحمد في «مسنده» [15/ 57، رقم 9116]، وأبو عوانة في «مستخرجه» [17/ 200، رقم 9393، و9394]، وابن حبان في «صحيحه» [13/ 21، رقم 5713]، والطبراني في «الدعاء» [ص 563، رقم 2028] من طريق مالكٍ به. وفصَّل الطبراني القول: بأن رواية سعيد بن هاشم عن مالك بلفظ: «لا تسبوا الدهر»، ورواية القعنبي: «يا خيبة»، الحديث. وللطبراني طرق أخرى.

(2) ومن طريق الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: البخاري في (باب لا تسبوا الدهر) [8/ 51، رقم 6182]، بلفظ: «لا تسمُّوا العنبَ الكرْمَ. ولا تقولوا: خيبةَ الدّهرِ، فإن الله هو الدهر». (3) ومن طريق هشام الدستوائي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: مسلم في «صحيحه» [4/ 1763، رقم 2246] بلفظ: «لا تسبوا»، الحديث. ومن طريق عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين [4/ 1763، رقم 2247] بلفظ: «لا يسب أحدكُم الدهرَ، فإن الله هو الدهرُ. ولا يقولنَّ أحدكُم للعنب: الكرمُ، فإن الكَرْمَ الرجلُ المسلم».

قال البغوي في «شرح السنة» [12/ 357]: «هذا حديثٌ متفق على صحَّته، أخرجَه مسلمٌ، عن قتيبة، عن المغيرة، عن أبي الزناد. وأخرجاه من أوجُه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة». وقد تم بيان تلك الأوجه، والحمدلله.

الرواية الثانية: الحديث قدسي، بلفظ: «أنا الدَّهر». رواه أبو هريرة مرفوعاً، وله روايتان: (1) سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أخرجها البخاري في «صحيحه» (بابُ {وما يهلكنا إلا الدهر}) [6/ 166، رقم 4826] من طريق الزهري، بلفظ: «قال الله عز وجلَّ: يؤذيني ابنُ آدم، يسُبُّ الدهرَ، وأنا الدّهر، بيدي الأمرُ، أقلبُ الليل والنهار». وفي (باب قول الله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}) [9/ 175، رقم 7491] باللفظ نفسه. وهو في «صحيح مسلم» [4/ 1762، رقم 2246] بلفظه دون زيادة (بيدي الأمر). وأخرجه أيضاً [4/ 1762، رقم 2246] من طريق عبدالرزاق عن معمر عن الزهري، به، بلفظ: «يؤذيني ابن آدمَ، يقولُ: يا خيبة الدهر. فلا يقولنَّ أحدُكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر، أقلب ليلَه ونهاره، فإذا شئت قبضتهما». (2) أبو سلمة، عن أبي هريرة: أخرجها البخاري في (باب لا تسبوا الدهر) [8/ 51، رقم 6181] من طريق الزهري أيضاً، بلفظ: «قال الله: يسبُّ بنو آدم الدهرَ، وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار».

وهناك طرقٌ أخرى، منها: (3) طريق ذكوان، عن أبي هريرة: أخرجها أحمد في «مسنده» [16/ 272] بلفظ: «أنا الدَّهر، الأيامُ والليالي لي، أجدِّدُها وأبليها، وآتي بملُوكٍ بعد ملُوك».

المتكلمون في الحديث: 

فالحديثُ، كما رأينا، في أعلى درجات الصحة.

1- فقول ابن دريد (ت 321هـ) في «جمهرة اللغة» [2/ 641]: «وفي حديث سفيان بن عيينة، أحسبه مرفوعاً إن شاء الله تعالى، أن الله تبارك وتعالى قال: «تسبُّونَ الدهْر وأنا الدهرُ، أي أنا خالقُ الليل والنهار»، أو كما قالَ، والله أعلم»، انتهى. 

أقول: حديثُ سفيان، أي رواية الحديث من طريق سفيان، بسنده إلى أبي هريرة؛ أخرجها البخاري في الموضع الأول الذي تقدم. وهي في «صحيح مسلم» أيضاً [7/ 45، رقم 6000]. فبانَ بهذا أن تردُّد ابن دريدٍ، رحمه الله، لا مسوِّغ له، فقد ثبتت صحة الحديث مرفوعاً من طريق سفيان عند الشيخينِ.

2- كما يتضح للقارئ الكريم أن قول الدكتور جواد علي (ت 1407هـ) في كتابه «المفصل» [11/ 150]: «وللحكْمِ على صحَّة نسبة الحديثين إلى الرسُول، أحيل القارئَ على الطرق التي وردَا بها، وإلى آراء العلماء فيهما! وأعتقد أنه إن فعلَ ذلك فسيجدُ في نسبتها إلى الرسُول بعضُ الشكِّ، إن لم أقل كلَّ الشكِّ!»، أنه قولٌ لا قيمة له في ميزان البحث العلمي المتجرد، القائم على إثبات الحقيقة العلمية كما هي، لا بناء على نظرة طائفية أو خلفية مسبقة، لأن الحديثَ صحيحٌ ثابتٌ، وعدم استيعابِ الدكتور لمعنى الحديث لا يضر شيئاً من ناحية ثبوته، وصحَّة معناه. وسوف تتم مناقشة أصل اعتراضِه فيما يأتي.

أهم المباحث التي سيتطرق إليها هذا المقال: 

  1. أمثلة سب الدهر عند الجاهليين.
  2. الدهرُ في اللغة.
  3. توجيهُ السلف لمعنى سبِّ الدهرِ
  4. إبطال شبهة أن سبَّ الدهر هي عينُ قول الدّهرية.
  5. ضبط عبارة «وأنا الدَّهر» وأثرها على توجيه المعنى.
  6. في رد قول من قال: إنّ الدهْرَ من أسماء الله تعالى
  7. تقسيم العلماء سب الدهر إلى أنواع ثلاثة
  8. حكم من سبَّ الدهْر من المسلمين.
  9. خلاصة البحث.

  

سبب كتابة هذا البحث:

من المفيد أن يعلم القارئ الكريم سبب اختياري هذا البحث، وهو أن عدداً من الفضلاء كانوا قد تواصلوا معي مراراً لإفادتهم بخلاصة الحكم في هذه المسألة، حيث إن كثيراً من المتحمسين للقضايا الدينية، المنكرين على الناس بغير علم، يلزمون من يسمعونه ينشد شيئاً من الأشعار التي تتضمن ذم الدهر، أو لومه، أو الشكاية من أحداثه؛ يلزمونهم بظاهر الحديث، وقد يكفرونهم بسبب ذلك، إن لم يكتفوا بسبتهم إلى البدعة.

ومن تلك الأشعار، عدد من قصائد الإمام الجليل عبدالله بن علوي الحدَّاد باعلوي الحسيني (ت 1132هـ)، رحمه الله، منها قوله:

هذا الزمانُ وهذا الدَّهرُ عادتُه       فينَا وفي غَيرنا بينٌ وأنكَادُ

إن الحوادِثَ لا تبْقِي على أحَدٍ          وللكَريم قناةٌ ليسَ تنْآدُ

وقوله:

وكنتُ بهم وافي الجناحَينِ ساكِنَ      الـفُؤادِ وريحي إذْ تهبُّ نسيمُ

فأعْدَمني الدهرُ الخؤونُ وجودَهم        وما الدَّهْر إلا خائنٌ وظَلومُ

وغيرها من قصائد الشيوخ العارفين، التي تنشد في مجالس الأذكار، وغيرها من المناسبات الاجتماعية، ولكثرة تكرارها يحفظها الناس، ويستشهدون بأبياتها.

فمن هنا، كان التفرغ لجمع هذا البحث، وتتبع كلام أهل العلم في المسألة، من المهمات، وقد جهدت في جمع النصوص، وتتبع مختلف المصنفات من شتى المذاهب، ومختلف الاتجاهات، وقمت بتحرير الأقوال، وجمع الأشباه والنظائر إلى بعضها البعض، وحاولت الاختصار ما استطعتُ، والله الموفق.

المبحث الأول: أمثلة سب الدهر عند الجاهليين 

قال ابن عبدالبر (ت 463هـ) في «التمهيد» [18/ 155]: «وقد نطق القرآن وصحت السنة بما ذكرنا»، يريد قوله تعالى: {وما يهلكنا إلا الدهر}. وفي السنة: يا خيبة الدهر. ومنه قول الجاهليين: أصابني الدهرُ في مالي بكَذا. و: نالتني قوارعُ الدهرِ وبوائقُه، ومصايبُه. ويقول الهرِمُ: حنَاني الدهرُ. و: أبادنا الدهرُ. و: أتى علينا الدهر. ومن هذا الباب أشعارُ كثيرٍ من الجاهليين. منها قول امرئ القيس:

ألا إن هذا الدهْر يوم وليلةٌ    وليسَ على شيء قويمٍ بمستَمرِ

وقال أيضاً:

أرجّي من صُروفِ الدّهر ليناً          ولم تغفَل عن الصّم الهضابُ

ومنها قول زهير بن أبي سلمَى في قصيدته التي مدح بها هرم بن سنان، مطلعها:

لمن الديار بقنة الحجْر                   أقوينَ من حجَجٍ ومن دهْر

لعب الزمانُ بها وغيَّرها            بعدِي سوافي المور والقَطْر

وغيرها من الأشعار.

المبحث الثاني: الدهر في اللغة 

  • قال الخليل (ت 170هـ) [4/ 23]: «الدهر: الأبدُ الممدود. ورجلٌ دهريٌ: قديمٌ. والدهريُّ: الذي يقول ببقَاء الدهْر، ولا يؤمنُ بالآخرة. والدهرُ: النازلةُ. دهرهم أمرٌ، أي: نزل بهم مكروه. وقوله: «لا تسبّوا الدهرَ، فإن الله هو الدهرُ». يعني: ما أصابكَ من الدهر».
  • وقال أبوعبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) في «غريب الحديث» [1/ 355]: «قوله: «فإن الله هو الدهر»، هذا ممّا لا ينبغي لأحدٍ من أهل الإسلامِ أن يجهل وجْهَه، وذلكَ: أن أهل التّعطيل يحتجون به على المسلمين»، اهـ. وسيأتي تتمة كلامه.
  • وقال ابن دريد (ت 321هـ) في «جمهرته» [2/ 641]: «والدهر: معروفٌ. وقال قوم: الدهر مدة بقاء الدنيا من ابتدائها الى انقضائها وقال آخرون: بل دهر كل قوم زمانهم».

قال: «وفي الحديث: «لا تسبوا الدهْرَ، فإن الله هو الدهر». وهذا يجبُ على أهل التوحيد معرفته، لأنها حجةٌ يحتج بها من قال بالدّهْر. وتفسير هذه الكلمة، والله أعلم: أن الرجُلَ من العرَب في الجاهلية، كان إذا أصيبَ بمصيبة، أو رُزئَ مالاً، أغريَ بذمِّ الدهر. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تسبوا الدهر»، فإن الذي يفعل بكُم هذا هو الله، جل ثناؤه، وهو فعله لا فعلَ الدهر. فالدهْر الذي تذمُّون، لا فعل له، وإنما هو فعلُ الله، فهذا وجه الكلامِ إن شاء الله تعالى، والله أعلم».

  • وغلَّط الأزهريُّ (ت 370هـ) في «تهذيب اللغة» [13/ 159] قول من قال: إن الدهر والزمانَ شيءٌ واحد، ثم قال: «الدهرُ عند العرب: يقع على قدرِ الزمان من الأزمنة. ويقع على مدَّة الدنيا كلها. سمعتُ غير واحد من العرَبِ يقول: أقمنا بموضعٍ كذا دهْراً، وإن هذا المكان لا يحملنا دهراً طويلاً. والزمان يقع على الفصلِ من فصول السنة، وعلى مدة ولاية والٍ، وما أشبهَه».
  • وقال الجوهري (ت 393هـ) في «الصحاح» [2/ 662]: «لا تسبُّوا فاعلَ ذلك بكُم، فإن ذلكَ هو الله تعالى».
  • وقال ابن فارس (ت 395هـ) في «مقاييس اللغة» [2/ 306]: «وقد يحتملُ، قياساً، أن يكون الدَّهر: اسماً مأخوذاً من الفعلِ، وهو الغلبةُ. كما يقالُ: رجلٌ صومٌ وفِطرٌ. فمعنى «لا تسبوا الدَّهر»، أي: الغالبَ الذي يقهركم ويغلبكُم على أموركم».
  • وقال أبوعبيد الهروي (ت 401هـ) في «الغريبين» [2/ 660]: «تأويله عندي: أن العرب كان شأنها أن تذُم الدهر وتسُبه عند النوازل، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر. وقد ذكروه في استعارتهم». ثم قال: «لم يذهب المشِكُّون من أهل الجاهلية إلى ما ذهب إليه الملحدونَ في تفسير هذا الحديث، وإنما ذهب إلى هذا المولَّدُون، ومن لا فهم له بكلام العرب ومعانيها».
  • وقال ابن سيده (ت 458هـ) في «المخصَّص» [2/ 400]: «ليس الله هو الدهر، تعالى عن ذلكَ، لأن الدَّهر عرضٌ، وليس ربُّنا عرضاً، وإنما أراد: فإنّ ما تنسبُونه إلى الدهْر إنما هو فعْلُ الله عزَّ وجَلَّ».
  • وقال القاضي عياض (ت 544هـ) في «المشَارق» [1/ 262]: «الدهرُ: مدة الدنيا. وقيل: إنه مفعولاتُ الله تعالى. وقيل: فعلُه، كما قال: «إني أنا الموت». ومعنى الحديث: فإنّ مصرِّفَ الدهر، ومُوجد أحْداثه، اللهُ تعالى. أي: أنا الفاعل لذلكَ. قال بعضُهم: وقد يقع الدهر على بعضِ الزمان، يقال: أقمنا على كذا دهراً، كأنه لتكثير طولِ المقام. ولهذا اختلف الفقهاءُ فيمن حلفَ لا يكلم أخاه دهراً، أو الدهرَ؛ هل هو متأبد؟».

المبحث الثالث: توجيهُ السلف لمعنى سبِّ الدهرِ 

  • قال الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ) رحمه الله: كان أهل الجاهلية يقولونَ: إن الدهْر هو الذي يهلكُنا، هو الذي يميتُنا ويحيينا. فردَّ الله عليهم قولَهم. وتلا سفيانُ هذه الآية: {ما هي إلا حياتنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}. أخرجه الحاكم في «المستدرك» [2/ 491، رقم 3690].
  • قال الإمام الشافعي (ت 204هـ)، فيما رواه عنه حرملة التجيبي: «وإنما تأويله، والله أعلم: أن العربَ كان شأنها أن تذُمّ الدهر، وتسبه عند المصائبِ التي تنزل بهم، من موت أو هرَم أو تلفٍ، أو غير ذلكَ، فيقولون: إنما يهلكنا الدهر. وهو الليل والنهارُ، الفَنْتانِ[1] والجديدان، فيقولون: أصابتهم قوارعُ الدهر، وأبادهم الدهرُ، وأتى عليهم. فيجعلون الليلَ والنهارَ اللذين يفعلان ذلكَ، فيذمون الدهرَ بأنه الذي يفنينا، ويفعلُ بنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا الدهرَ»، على أنه يفنيكم، والذي يفعل بكم هذه الأشياءَ، فإنكم إذا سببتم فاعلَ هذه الأشياءِ؛ فإنما تسبون الله تبارك وتعالى، فإن الله فاعل هذه الأشياء». أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والأثار» [5/ 202-204].

كلام الشافعي هذا قاله أبوعبيدٍ القاسمُ بن سلاَّم في «غريب الحديث» [1/ 356]، وختمه قائلا: «فهذا وجهُ الحديثِ، إن شاء الله، لا أعرف له وجهاً غيره». ونقل الأزهريُّ (ت 370هـ) في «تهذيب اللغة» [6/ 109] كلامَ أبي عبيد، ثم عقبه بقوله: «قلتُ: وقد قال الشافعيُّ في تفْسير هذا الحديثِ نحواً مما قال أبو عبيدٍ، واحتج بالأبياتِ التي ذكرها أبو عُبيد، فظننتُ أبا عبيد عنه أخذَ هذا التفسير، لأنه أول من فسره»، اهـ. ونقل عبارة الأزهري ابن منظور في «اللسان» [4/ 293]، والزبيدي في «تاج العروس» [11/ 345]. كما سيأتي أن ابن قتيبة (ت 276هـ) اعتمد كلام الشافعي هذا واحتج به في «تأويل مختلف الحديث».

  • وقال ابن بطال (ت 449هـ) في «شرح صحيح البخاري» [10/ 499]: «قوله: (وأنا الدهرُ) أي: أفعلُ ما يجري به الدهر من السراءِ والضرَّاء. ألا ترى قوله تعالى: «بيدي الأمرُ، أقلب الليل والنهار». فالأيام والليالي ظروفٌ للحوادث، فإذا سببتمُ الدهْر وهو لا يفعلُ شيئًا؛ فقد وقع السبُّ على الله».
  • وقال ابن العربي (ت 453هـ) في «القبس» [ص 1164]: ««خرَج هذا على عادة الجاهلية في نسبتها الأفعال إلى غير الله تعالى من الأسباب المترددة، والحوادث المتعاقبة، فإذا جاء الخلق من ذلك ما يحبون، فرحُوا بذلك المتاع، وإذا جاءهم ما يكرهون عكَفوا على الدهر يسبُّونه وينسبونه إلى اللوم والإذاية. فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يطهر عقائدهم من هذا المنزع الخبيث، ويعلمهم بأن هذه الأفعال التي يكرهون، والأفعال التي يحبون، ليست منسوبةً إلى الأسباب، ولا محسوبة على الحوادث، وإنما هي كلها مضافةٌ إلى الله تعالى تقديراً وخلقاً. وسب الحكمِ والمعلُول سبٌ للعلّة. فإنك إذا قلتَ: فعل الله بفلان كَذا كذا، وكان المشار إليه باللَّوم موجوداً في غيره، فقد دخل في حكمِه».
  • وقال البغوي (ت 516هـ) في «شرح السنة» [12/ 357]: «قوله: «فإن الله هو الدهر»، أي: هو صاحبُ الدهر، ومدبِّر الأمُور المنسوبة إليه».
  • وقال المازري (ت 536هـ) في «المعْلِم» [3/ 190]: «قوله: «فإنَّ الله هو الدهر»، فإن ذلك مجازٌ. والدهرُ: إن كان عبارةً عن تعاقُب الليل والنهار، واتصالهما سرمداً؛ فمعلومٌ أن ذلك كلَّه مخلوقٌ، وأنه أحدُ أجزاء العالم المخلوقة، فلا يصحُّ أن يكون المخلوقُ هو الخالق. وإنما المراد: أنهم كانوا ينسبون الأفعال لغير الله سبحانه وتعالى، جهلاً بكونه عز وجل خالقُ كل شيءٍ، ويجعلون له شريكاً في الأفعال. فأنكر عليهم.

وأراد: أن الذي يشيرون إليه بأنّه يفعل هذه الأفعال، هو الله، جلّت قدرتُه، ليس هو الدهرُ. وهذا كما لو قال قائل: القاضي فلانٌ قتل فلاناً الزاني. فيقول الآخر: الشرعُ قتلَه، لم يقتله القاضي. أو يقول: الشرعُ هو القاضي. وإنما يعني: أنه يجب إضافةُ الشيء إلى ما هو الأصلُ فيه، أو التنبيه على غلط القائلِ، وإرشادُه لموضع الصوابِ، إذا ظن به أنه خفي عنه». ونقله بنصّه القاضي في «إكمال المعلم» [7/ 182].

7- وفي «شرح النووي على مسلم» [15/ 3] بعد إيراده موجز كلام الشافعي: «ومعنى «فإن الله هو الدهر»، أي: فاعلُ النوازل والحوادثِ، وخالقُ الكائنات، والله أعلم»

___________________________________________________________________

[1] الفنتان، تثنية فنتة، وهي: الساعة من النهار