المقال الثاني من سلسلة مقالات التوعية الدينية بالأحاديث النبوية من ركن التوعية الأسبوعي للشيخ محمد أبو بكر باذيب: معنى حديث «سبّ الدهْر» الجزء الثاني

ركن التوعية الأسبوعي هو مكوَّن رئيسٌ في موقع (معهد نور الهدى العالمي للعلوم الإسلامية) ينشر فيه كل أسبوع مقالٌ جديد، صوتاً وكتابةً. بعضها مقالاتٌ متسلسلة، وبعضها مفردةٌ القصدُ منها إفادة القراء والسامعين بمواضيع قيمة علمية أو سلوكية إلى مناقشة ما يطرأ على الساحة الدينية من قضايا مستجدّة. يتناول هذا البحث شرح الحديث الوارد في النهي عن سب الدهر، وإبراز معانيه، والأحكام الفقهية المستنبطة منه، وتحرير الخلاف الواقع بين علماء المسلمين في المسألة، والله الموفق.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الرابع: إبطال شبهة أن سبَّ الدهر هي عينُ قول الدّهرية

تناول هذه الشبهة ابن قتيبة (ت 276هـ) في «تأويل مختلف الحديث» [ص 324]، فأوردَ نص الشبهة، ثم أردفها بالجواب عنها وبيانها.
الشبهة: «قالوا: رويتُم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبُّوا الدهرَ، فإن الله تعالى هو الدهر»، فوافقتم في هذه الرواية، الدهرية»، انتهى كلام ابن قتيبة.

أقول: هذه الشبهة، القائلة بأن قضية حديث (سبّ الدهر) إنما هي موافقةٌ ما عليه اعتقاد الجاهليين في تصرف الدهر! تسللت إلى عقول بعض العصريين، فكتب مؤرخ عربي شهير، هو د. جواد علي، في مؤلف له ذائع الصيت هو موسوعته المسماة «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» [11/ 150]، كتب يقول فيه، بعد أن أورد الحديثين الواردين في سب الدهر: «وفي هذين الحديثينِ توفيقُ فكرةِ الجاهليين في الدَّهر، والعقيدة الإسلامية في التوحيد! بأن صيَّر الدهرَ الله، وصيَّره بعضُ العلماء من أسماء الله الحسنى [1]. والذي حملهم على ذلك، على ما أرى: صعوبةُ إزالة تلك الفكرةِ التي رسخَت في النفوس منذ القدم، عن فعل الدهر، وعن أثره في الكَون!. فرأى القائلون بذلك: إزالتَها بجعْل الدهر اسماً من أسماء الله، أو هو الله تعالى، وهو واحدٌ أحدٌ، والدهرُ واحدٌ أبديٌ أزلي كذلكَ، فلا تصادُم في هذا التوفيقِ بين الرأيين. وقد وقع هذا التوفيقُ على ما أعتقد بعد وفاة الرسُول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول، وقد ثبتَ عدم إمكانِ صدُورها منه. وللحكْم على صحَّة نسبة الحديثينِ إلى الرسول أحيل القارئ على الطرق التي وردَا بها، وإلى آراء العلماء فيهما، وأعتقِد أنه إن فعل ذلك فسيجدُ في نسبتها إلى الرسُول بعضَ الشكِّ، إن لم أقل كُلَّ الشك»، انتهى كلام الدكتور.

وأعلق سريعاً على فحوى كلامه: بأنه في كتابه «المفصل» لم يستطع التخلي عن خلفيته الشيعية في نظرته إلى ما صح وثبت من الأحاديث النبوية أهل السنة بأنها دخلتها ألاعيب السياسة، وهذه نغمة قديمة ولا تزال تتردد إلى يومنا هذا. إضافة إلى أن الحديثين هما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهذه لوحدها تكفي عند الشيعة لرد الحديث بغض النظر عن صحته أو عدمها، فموقفهم من حديث أبي هريرة معروف. إذا عرفنا هذه الخلفية الفكرية الدينية لدى د. جواد علي؛ عرفْنا أن كلامَه لم يقم على بحث علمي نزيه مجرَّد، بحسب ما يدعو هو إليه، من وجوب تخلي المؤرخ عن خلفيته الدينية.

وأما الجواب على أصل الشبهة، وهي كونُ قضية سب الدهر الواردة في الأحاديث الصحاح موافقةً لفكرة الدهريين من العرب، فأتركه للإمام ابن قتيبة، قال رحمه الله:

«ونحن نقولُ: إن العربَ في الجاهلية كانت تقول: أصابني الدهر في مالي بكذا، و: نالتني قوارع الدهرِ وبوائقُه، ومصايبُه. ويقول الهرِمُ: حنَاني الدهرُ. فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله -عز وجل- عليهم، من موت، أو سقم، أو ثكل، أو هرم، إلى الدهر». إلى أن قال: «وقد حكى الله، عزَّ وجلَّ، عن أهل الجاهلية ما كانوا عليه من نسبِ أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدّهر، فقال: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الدهرَ» إذا أصابتكم المصَايبُ، ولا تنسبوها إليه، فإن الله عز وجلَّ هو الذي أصابكُم بذلك، لا الدهرُ. فإذا سببتم الفاعلَ؛ وقع السبُّ بالله عز وجلَّ. ألا ترى أن الرجلَ منهم، إذا أصابته نائبةٌ، أو جائحةٌ في مالٍ أو ولدٍ، أو بدنٍ، فسبَّ فاعل ذلك به، وهو ينوي الدهرَ؛ أن المسبوبَ هو الله عز وجلَّ!

وسأمثّل لهذا الكلام مثالاً أقرِّبُ به عليكَ ما تأولتُ، وإن كانَ بحمد الله تعالى قريباً: كأنَّ رُجلاً يسمَّى (زيدا) أمرَ عبداً له يسمَّى (فتحا)، أن يقتل رجَلاً، فقتله. فسبَّ الناسُ (فتحاً)، ولعنوه. فقال لهم قائلٌ: لا تسبوا (فتحاً)، فإن (زيداً) هو (فتحٌ). يريد: أن (زيداً) هو القاتلُ، لأنه هو الذي أمره. كأنه قال: إن القاتلَ (زيدٌ)، لا (فتحٌ). وكذلك الدهرُ تكون فيه المصايبُ والنوازل، وهي بأقدار الله عز وجل، فيسبُّ الناسُ الدهر، لكونِ تلك المصايب والنوازل فيه، وليس له صنعٌ، فيقول قائل: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». انتهى.

وكلام ابن قتيبة هو عينُ كلام الإمام الشافعيِّ الذي تقدمَ نقلُه، وإنما زاده إيضاحاً بضرب المثالِ، والله أعلم. كما أورد الخطابي (ت 388هـ) في «معالم السنن» [4/ 158] تأويل الحديث بإيجاز، ومثله البيهقي في «الآداب» [ص 148]. وقال ابن عبدالبر (ت 463هـ) في «التمهيد» [18/ 155]: «يعني: لأنكم إذا سببتموه وذممتموه، لما يصيبكم فيه من المحَنِ والآفات والمصائب؛ وقع السبُّ والذمُّ على الله، لأنه الفاعلُ ذلك وحْدَه لا شريك له. وهذا ما لا يسع أحداً جهلُه، والوقوفُ على معناه، لما يتعلقُ به الدهريةُ أهلُ التعطيلِ والإلحاد».

والردود على الدهرية كثيرة، وليس هنا مجال استقصائها.

المبحث الخامس: ضبط عبارة «وأنا الدَّهر» وأثرُها على توجيه المعنى

تقدم معنا أن نصَّ الحديث القدسي، وهو الأصل في المسألة: «يؤذيني ابن آدم، يسُبُّ الدهْرَ، وأنا الدهْرُ بيدي الأمر». وقد جرى خلاف بين أهل العلم قديماً في ضبط «الدهر» الواقعة بعد ضمير المتكلم، هل هي بالرفع، أم بالنصب.

القول الأول: أنها بالرفع، وهو ما قاله «أبو عبيدٍ، والشافعيُّ، وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين»، قاله القاضي عياض (ت 544هـ) في «الإكمال» [7/ 182]. وفي «المفردات» للراغب (ت 502هـ) [ص 319-320]: «وقال بعضهم: الدهرُ الثاني في الخبَر، غير الدّهر الأوّل. وإنما هو مصدرٌ بمعنى الفاعلِ. ومعناه: أنّ الله هو الدّاهر. أي: المصرّف المدبّر، المفيض لما يحدث، والأول أظهر»، اهـ. ونقله عنه ابن حجر في «الفتح» [8/ 575]، والألوسي في «تفسيره» [13/ 151] لكنه تعقبه قائلا: «وفيه بعدٌ».

القول الثاني: أنها بالنصب. وهو قول أبي بكر الأصبهاني، محمد بن داود بن علي الظاهري (ت 297هـ)، قال الخطابيُّ (ت 388هـ) في «معالم السنن» [4/ 159]: «كان ابن داودَ ينكرُ رواية أصحابِ الحديث هذا الحرفَ مضمومةً. ويقول: لو كان كذلكَ؛ لكان الدهرُ اسماً معدُوداً من أسماء الله عز وجلَّ. وكان يرويه: «وأنا الدّهرَ أقلبُ الليل والنهار»، مفتوحةَ الراء على الظرفِ. يقول: أنا طولَ الدهرِ والزمانِ أقلبُ الليل والنهارَ». ونقل عبارة الخطابي: البغويُّ (ت 516هـ) في «شرح السنة» [12/ 358]، وغيره.

المؤيدون: لم يكن ابن داود متفرداً بالقول بالنصْبِ، بل نقله القاضي عياض في «الإكمال» عن غيره، قال [7/ 182]: «حكَى هذه الروايةَ بالنصْبِ: أبو عُمر بنُ عبد البر [«التمهيد»: 8/ 154] عَن بعض أهل العلم، وقال ابن النحَّاس: يجوز النصبُ، أي: فإن الله باق مقيمٌ أبداً لا يزولُ. وقال بعضُهم: نصبُه على الخصُوص والظرفِ؛ أصحُّ وأصْوبُ»، اهـ. وعبارته في «المشارق» [1/ 262]: «.. فروي بالرّفع والنصْبِ. واختيارُ الأكثرِ: النصبُ على الظرفِ، وقيل: على الاختصاصِ. وأما الرفعُ: فعلى التأويل الأول».

قولٌ وسَطٌ: الإمام النوويّ في «شرح مسلم» نقل عبارة «الإكمال» للقاضي، ثم قال [15/ 2]: «أما روايةُ الرفْعِ، وهي الصوابُ؛ فموافقةٌ لقوله: فإن الله هو الدهر». فذهب ابن العراقي (ت 826هـ) في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157] إلى القول بأن الإمامَ النوويَّ يرجحُ الرفعَ، واكتفى بنقل كلامه الذي إنما هو عين كلام القاضي عياض المتقدم في «الإكمال» [7/ 182]، مع أنه نقل عن القاضي قوله: إن الأكثرين على النصب، وارتضاه، ولم يتعقبه. ولقائلٍ أنْ يقول هنا: إن ظاهر عبارة الإمام النووي: أنه لا يخطئُ ابن داودَ في اختياره النصب في رواية «وأنا الدَّهْر»، وإن كان يرى أ الرفعَ هو الصوابُ ليتوافق مع رواية «هو الدّهرُ».

المعارضُون: اعترضَ على قول ابن داود ومن تبعه، ابنُ الجوزي (ت 593هـ) في «كشف المشكل من حديث الصحيحين» [3/ 347-348] قائلاً: «وهذا الذي ذهبَ إليه باطلٌ من ثلاثةِ أوجه: أحدها: أنه خلافُ أهل النقْل، فإن المحدِّثين المحققين لم يضبطُوا هذه اللفظةَ إلا بضمِّ الراء، ولم يكُن ابن داودَ من الحفاظ، ولا من علماء النقلة. والثاني: أن هذا الحديث قد ورد بألفاظٍ صحَاحٍ يبطل تأويلَه»، واحتج برواية: «فإن الله هو الدهر».

قال: «والثالث: أن تأويلَه يقتضي أن تكون علةُ النهيِ لم تذكر؛ لأنه إذا قال: «لا تسبوا الدهر؛ فأنا الدهرَ أقلبُ الليل والنهار»، فكأنه قال: لا تسبوا الدهرَ فأنا أقلبه. ومعلوم أنه يقلبُ كلَّ خير وشرٍّ، وتقليبُه للأشياءِ لا يمنعُ من ذمِّها»، انتهى المقصود منه.

كما اعترضَ على ابن داودَ، أبو العباس القرطبي (ت 656هـ) في «المفهم» [5/ 548-549] قائلاً: «الذي حمله على ذلكَ: خوفُ أن يقال: إن الدَّهر من أسماء الله تعالى! وهذا عدولٌ عما صحَّ إلى ما لم يصحَّ، مخافة ما لا يصحُّ. فإن الروايةَ الصحيحةَ، عند أهل التحقيق: بالضمِّ. ولم يروِ الفتْحَ من يعتمدُ عليه». ثم قال: «ثم لو سُلِّمَ أن النصبَ يصحُّ في ذلك اللفظِ، على ذلك الوجه؛ فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك في الرواية التي قال فيها: «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر». ولم يذكر: «أقلبُ الليل والنهار». ولا يصحُّ أن يقال: إن هذه الروايةَ مطلقةٌ، والأولى مقيدةٌ؛ لأنا إن صِرْنا إلى ذلك: لزمَ نصْبُ (الدّهرِ) بعاملٍ محذوفٍ ليس في الكلامِ ما يدلُّ عليه. ولزم حذفُ الخبر، ولا دليلَ عليه. وكل ذلك باطلٌ من اللسان قطعاً»، انتهى. ونقل عبارة القرطبيِّ هذه بحرفها، الوليُّ ابن العراقي (ت 826هـ) في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157]. وأتى الآلوسي في «تفسيره» [13/ 151] بخلاصة كلام المعترضينَ، ثم قال: «ومن ثمَّ كان الجمهورُ على ضم الراء».

مسألة: في رد قول من قال: إنّ الدهْرَ من أسماء الله تعالى

اختلف أهل العلم في إثبات الدهر اسماً من أسماء الله الحسنى، وهم في ذلك فريقان:

الفريق الأول: من أثبته اسماً من الأسماء الحسنى، اعتماداً على حديث الباب، وأشهر من قال بهذا هو ابنُ حزم الظاهريُّ (ت 456هـ)، فقد عدَّ (الدّهر) من أسماء الله الحسنى صراحةً في كتابه «المحلَّى» [6/ 282]، وقد أوصلها إلى ثمانين اسماً.

وتقدم قريباً بحثُ قول أبي بكر الأصبهاني، محمد بن داود الظاهريَّ (ت 298هـ) في إنكاره كون الدهر من أسماء الله، وذهب إلى تغليط المحدثين في ضبطهم (الدهر) بالرفع في حديث: «أنا الدَّهر أقلبُ الليلَ والنهار» وقرَّر أنّ الصواب: ضبطها بالنصب، وأنه كان «يقول: لو كان كذلكَ؛ لكان الدهرُ اسماً معدوداً من أسماءِ الله»، كذا حكاه الخطابي في «المعالم» [4/ 159]. وفي «المفهم» للقرطبي [5/ 548]: «لا يلزم من ثبوت الضمِّ أن يكُون الدهر من أسماء الله تعالى؛ لأن أسماء الله تعالى لا بد فيها من التوقيف عليها، أو استعمالها استعمال الأسماء من الكثرة والتكرار».

ثم إنني بعد بحث وتفتيش، وجدتُ أن ابن حزمٍ لم يكن متفرداً بهذا القول، بل سبقه المحدث الكبير أبوعوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (ت 316هـ) في «مستخرجه» [17/ 198] حيث أورد حديث الباب تحت ترجمة: (بيان النهي عن سبِّ الدهْر، والدليلُ على أنه اسمُ الله لا يسمَّى به شيءٌ من الأشياء). ولم ينكر هذه الترجمة أحدٌ ممن أنكر على ابن حزم، والأمر يحتاج إلى مزيد تقص وبحث. ثم وقفتُ على عبارة للقرطبي المفسِّر في كتابه «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» [ص 111]: «قال أبونعيم، صاحب ابن المبارك، في كتاب «العصمة» له: الدهر، من أسماء الله تعالى، لم يختلفوا فيه. وساق الأحاديث الواردة فيه، وطول الكلام عليه»، انتهى. وهذا نقل غريب، وقد بحثت عن كتاب بعنوان «العصمة» لأبي نعيم الفضل بن دكين (ت 219هـ) فما وجدت شيئاً.

وأشار الإمام الغزالي (ت 505هـ) في «المقصد الأسنى» [ص 172] إلى قول ابن حزم من جمع الأسماء الحسنى، وقال: «لم أعرف أحداً من العلماء اعتنى بطلبِ ذلك وجمعه سوى رجُل من حفاظ المغرب، يقال له: علي بن حزمٍ. فإنه قالَ، رحمه الله: «صحَّ عندي قريبٌ من ثمانين اسماً يشتمل عليها الكتابُ والصحاحُ من الأخبار، والباقي ينبغي أن يُطلبَ من الأخبار بطريق الاجتهاد». وأظنُّ: أنه لم يبلغه الحديثُ الذي فيه عدد الأسامي. وإنْ كانَ بلغَه؛ فكأنه استضعفَ إسناده، إذ عدل عنه إلى الأخبار الوارِدة في الصحاح، وإلى التقاط ذلك منها»، انتهى كلام الغزالي. ونقل كلامه ابن الملقن (ت 803هـ) في «البدر المنير» وعقب عليه قائلاً [9/ 485]: «قلتُ: قد بلغه وضعَّفه»، ومثله ابن حجر (ت 852هـ) في «فتح الباري» [11/ 216-217] وقال: «قلتُ: الثاني هو مرادُه».

واشتدّ ابن العربي (ت 554هـ) في «القبس» [ص 1164] قائلاً: «ظنَّ بعضُ الجهَّال أنّ هذا يقتضي: تعديدَ الدَّهرِ في أسماء البارئ تعالى. وذلك باطلٌ». وأشد منها عبارته في «أحكام القرآن» [4/ 38]، حيث وصف ابن حزم بالسَّخيف! وذلك لاقتصاره على ثمانين اسماً هي صفاتٌ جعَلها هو أسماء، وتعجَّب ابن العربي أيضاً من ثناء الغزالي على ابن حزم، ووصفه إياه بالحفظ!. وشاركه في التعجُّبِ القرطبي (ت 671هـ) في «الأسنى» [ص 68] من صنيع ابن حزم، ولكنه أنكر تحامل ابن العربي عليه وعلى الغزالي، ونقل إنكاره ابنُ الملقن في «البدر المنير» [9/ 485]. ثم قال القرطبي [ص 69]: «وليسَ لهذا التحامل كله وجه، لما تقدم أن الأسماء المصرح بها في القرآن غير المشتقة ولا المضافة لا تصل إلى تسعة وتسعين»، اهـ.

وعبارة القاضي عياض في «المشارق» [1/ 262] ألطف من عبارة ابن العربي، وكلاهما مالكيان مغربيان، قال القاضي: «وذهب بعضُ من لم يحقِّق: إلى انه اسمٌ من أسماء الله ولا يصحُّ»، وقال في الإكمال [7/ 184]: «ذكَر من لا تحقيق له: أن الدهر اسمٌ من أسماء الله، وهذا جهلٌ من قائله، وذريعةٌ إلى مضَاهاة قول الدَّهرية والمعطلة»، اهـ. ونقله ابن العراقي في تتمة «طرح التثريب» [8/ 157]. كما غلطه ابن كثير في «تفسيره» [7/ 270] قائلاً: «غلِط ابنُ حزمٍ، ومن نحا نحوه من الظاهرية، في عدِّهم الدهر من الأسماء الحسنَى».

ولعل في قول ابن كثير «ومن نحا نحوه من الظاهرية»، إشارة إلى الشيخ محيي الدين ابن عربي الطائي (ت 643هـ)، وهو ظاهري المذهب، فإنه قالَ في (الباب الثالث والسبعين) من «الفتوحات المكية»: «الدهر: من الأسماء الحسنى، كما ورد في «الصحيح». ولا يتوهّمُ من هذا القولِ: الزمانُ المعروفُ، الذي نعدُّه من حركات الأفلاكِ، ونتخيل من ذلك درجاتِ الفلَك التي تقطعها الكواكبُ، ذلك هو الزمان. وكلامُنا: إنما هو في الاسم الدهر، ومقاماته التي ظهر عنها الزمان»، انتهى، نقله الزبيديُّ في «تاج العروس» [11/ 343].

تقي الدين ابن تيمية (ت 728هـ) أنكر على ابن حزم أيضاً، ففي «منهاج السنة» [2/ 583]: «زعمَ ابنُ حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني، فلا يدل عليم على علم، ولا قدير على قدرة، بل هي أعلام محضةٌ، وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالاشتراك اللفظي. وأصل غلط هؤلاء شيئان: إما نفي الصفات والغلو في نفي التشبيه، وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج»، اهـ. ولكنه أغربَ في مواضع أخر بنسبته القولَ إلى نعيم بن حماد، وليس إلى ابن حزم، كما في «الصارم المسلول» [ص 495].

وأشد غرابة ما ورد في كتاب «بيان تلبيس الجهمية» [5/ 184]، ونصُّ كلامه: «ذهب طوائفُ من أهل السنة والمعرفة! إلى أن الدَّهر من أسماء الله على ظاهر الحديث المروي في ذلك. وقالوا: معناهُ الباقي الدائم الأزلي»، وفي «الفتاوى الكبرى» [5/ 67]: «قولُ نُعيم بن حماد، وطائفةٍ معه من أهل الحديث والصوفية: إن الدهر من أسماء الله تعالى»، والعبارة نفسها تكررت في «مجموع الفتاوى» [2/ 494]. وقد تناقل عديد من المؤلفين والباحثين من المعاصرين هذه العبارة دون تمحيص، ولم أجد من نبه على ضعف نسبة القول إلى نعيم بن حماد إلا عبد الله المزروع في حواشيه على كتاب «التعليق على القواعد المثلى» [ص 29] حيثُ قال: «وقد بحثت عن إسناد رواية نُعيمٍ، فلم أعثر عليه».

وممن مال إلى تصحيح القول بأن الدهر من الأسماء الحسنى مجد الدين الفيروزأبادي في «القاموس» مادة (دهر)، قال: « الدّهر: قد يعدُّ في الأسماء الحسنى». واحتجَّ بقوله التهانويُّ في «كشاف اصطلاحات الفنون» [1/ 1388] قائلا: «وقد أنكر ذلك الخطّابيُّ. ولكن صحّة ذلكَ تُفهَم من القاموس». وقال الزبيديُّ في «تاج العروس» [11/ 343]: «قال شيخنا: وعدُّه في الأسماء الحسنى من الغرابة بمكَانٍ مكين، وقد ردَّه الحافظُ بن حجر، وتعقبه في مواضِع من «فتح الباري»، وبسطه في (التفسير) وفي (الأدب) وفي (التوحيد). وأجاد الكلام فيه شُراح «مسلم» أيضاً: عياض، والنووي، والقرطبي، وغيرهم. وجمع كلامَهم الآبيُّ في الإكمال»، ثم قال: «قال شيخُنا: وكأن المصنفَ، رحمه الله، قلّدَ في ذلك الشيخ محيي الدين ابن عربي»، الخ، ونقل كلامه المتقدم. ثم قال: «ونقله الشيخُ إبراهيم الكوراني شيخ مشايخنا، ومالَ إلى تصحيحه. قال: فالمحققون من أهل الكشف عدّوه من أسماء الله بهذا المعنى، ولا إشكالَ فيه. وتغليطُ عياضٍ القائلَ بأنه من أسماء الله؛ مبنيٌ على ما فسَّره به من كونه مدة زمان الدنيا، ولا شك أنه بهذا المعنى يغلّطُ صاحبه. أما بالمعنى اللائقِ كما فسَّره الشيخُ الأكبر، أو: المدبّر المصرِّفُ، كما فسره الراغبُ، فلا إشكالَ فيه. فالتغليطُ ليس على إطلاقه. قال شيخنا: وكان الأشياخُ يتوقّفون في هذا الكلام بعضَ التوقف، لما عرضتُه عليهم. ويقولون: الإشاراتُ الكشفية لا يطلقُ القول بها في تفسير الأحاديثِ الصحيحة المشهورة، ولا يخالَفُ لأجلها أقوال أئمة الحديث المشاهير، والله أعلم.

 

[1] هذا قول ابن حزم، وقد رده جمهور العلماء عليه، كما سيأتي تفصيله.