المقال الثامن من سلسلة مقاصد السور: سورة الأنفال للشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ علي هاني في هذه السلسلة الغنية مبحثاً في مقاصد أول ثمان سور القرآن الكريم (الفاتحة – الأنفال)، متطرقاً لأسباب النزول، مع بيان السياق القرآني والتاريخي للسور، وأهم مقاصدها مع الاستفاضة فيها، مستخرجا وملخصاً وشارحاً أهم ما ورد بخصوص هذه المفاهيم في كتب التفسير المعتبرة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سورة الأنفال

مقصود سورة الأنفال باختصار:

بيانُ أن النصرَ بيدِ الله تعالى، لتذكيرِهم بمِنَّتِه وحَثِّهِم على التبريء مِنَ الحولِ وطاعةِ رسوله، والتزهيدِ في الأنفالِ والمطامعِ الزائلةِ، وتعليمُ المسلمين أسبابَ النصرِ والهزيمةِ، وتهديدُ الكافرين بالخسرانِ.

وإذا أردنا توضيحه أكثر نقول:

بيانُ أنَّ النصر الذي أعز الله به المسلمين في بدر كان من صنع الله تعالى وتدبيره، لحثهم على التبريء من الحول والقوة والتسليمِ لأمر الله ورسوله بغاية الإذعان، معَ صدقِ النيةِ لوجه الله تعالى، دون تنازع والتفاتٍ إلى عرضِ الدنيا الزائل من أنفال وغيرها، المثمرِ لاجتماع الكلمة المثمرِ لنصر الدين وإذلالِ الكافرين والمنافقين، وتربيةُ المؤمنين على التعبئةِ النفسيةِ والماديةِ السليمةِ للجهادِ، مع بيان الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في الجهاد وتهديد الكافرين بالخسران والهزيمة.

مقصود سورة الأنفال بتفصيل:

أن الأنفال ليست مقصودة بل المقصود إعلاء كلمة الله والإخلاص له[1] ،فعليهم أن يتقوا الله ويطيعوا الله ورسوله بغاية الإذعان والتسليم والرضى، وأن يتركوا التنازع على الأنفال، وأن لا يجعلوها سبب فرقة بينهم، وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وأن يتبرؤوا من كل حول إلى من أنعم بهذا النصر، فما في أيديهم في الغنائم والنصر والعزة سببه الحقيقي هو الله تعالى، بتدبيره وصنعه وقدرته خطوة خطوة، وأما هم فلم يدبروا بل أرادوا العير، وتهديد الكافرين بالخسران والهزيمة، وتشجيع المؤمنين وتعليمهم أسباب النصر وتربيتهم على التعبئةِ النفسيةِ والماديةِ السليمةِ للجهادِ، من الاجتماع وعدم الاختلاف، والاستعانة به وحده والتوكل عليه، وذكره ذكرًا، وعدم الخيانة لله والرسول، والحذر من فتنة المال والولد، والإعداد لما استطاعوا من قوة ليثمر ذلك نصر لهم ولدين الله وهزيمة أعدائهم، والأجر في الآخرة.

سبب نزول السورة[2]:

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ. فَقَالَ: ” فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللهُ مِنْ أَيْدِينَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ ” يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ[3].

قال ابن عاشور: ” ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله”[4].
وجاء في تفسير أبي السعود: “روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها، أللمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعًا، وقيل إن الشباب قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين، فقالوا: نحن المقاتلون،ولنا الغنائم،وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا رِدءًا لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو، ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافَّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت”[5].

معنى الأنفال:

(الأنفال): جمع نَفَل بالتحريك مثل كلمة سَبَب وأسباب، وهو في أصل اللغة من النَّفْل- بفتح وسكون- أي الزيادة عن الواجب، ومنه صلاة النفل، قال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}[الإسراء: 79]، أي صلاة زائدة غير مفروضة، ويقال: نفلتك كذا إذ ازدته.

والنَفَل هنا الغنيمةُ وهي: المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا نَفَلاً إما:

1) لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة من الله تعالى على ما شرع له الجهاد وهو إعلاء كلمة الله تعالى ونشر دينه، وحماية حوزة الإسلام، والثواب الأخروي، والتعبير عن الغنائم بالأنفال إشارة إلى تعليل الحكم، كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات عن المقصود من الجهاد.
أبو السعود والبقاعي وأبو زهرة والسمين الحلبي وأبو حيان، حسن عز الدين الجمل،
2) لأنها منحة وعطية من الله تعالى.
الراغب والآلوسي والبيضاوي والنسفي.
قال الراغب: ” النفل قيل هو الغنيمة بعينها لكن اختلفت العبارة عنه لاختلاف الاعتبار فإنه إذا اعتبر بكونه مظفورًا به يقال غنيمة، وإذا اعتبر بكونه منحة من الله ابتداء من غير وجوب يقال له نفل”[6].
3) لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، مما زاده الله تعالى لهذه الأمة في الحلال.؛لأنه كان محرمًا على من قبلهم وبهذا سميت النافلة من الصلاة.
الرازي والسمعاني وابن العربي والخازن وابن الهائم والواحدي

مناسبة اسم السورة لموضوعها:

لسورة الأنفال عدة أسماء:

أ‌) الاسم الأول الأنفال: “عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: «قلت لابن عباس سورة الأنفال» قال «نزلت في بدر» فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال”[7].

مناسبة اسم “الأنفال” لمقصود السورة:

1) اسم السورة فيه بيان لمقصود السورة ومن ذلك أن ما شرع الجهاد له هو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية الدين، وأن الغنيمة زيادة من الله تعالى على هذا وليست شيئًا مقصودًا لذاته[8] ،وأنها فضل من الله تعالى، والتزهيدُ في الأنفال والمطامع الزائلة، ليثمر ذلك التقوى والإذعانَ لأمرِ الله وأمر رسوله، المثمرَ لاجتماع الكلمة وعدمِ التنازع في المغانم.قال البقاعي: “وأدل ما فيها على هذا قصة الأنفال التي اختلفوا في امرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس، وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه صلى الله عليه وسلم.؛ لأنه الذي هزمهم بما رمى من الحصيات التي خرق الله فيها العادة بأن بثها في أعين جميعهم وبما أرسل من جنوده، فكان الأمر له وحده يمنحه من يشاء ثم لما صار له النبي صلى الله عليه وسلم رده فيهم منة منه عليهم وإحساناً إليهم”[9] ،وقال د عمر عرفات في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها”:
“وإنما سميت السورة بالأنفال، لأن الدلالات اللفظية والسياقية لهذه الكلمة من جعلها لله وللرسول، ثم ردها على المؤمنين امتنانًا من الله تعالى، أدل ما في السورة على المحور المذكور
واسم السورة فيه تربية إيمانية للمؤمنين بأن المبدأ أهم من العرض الدنيوي الزائل، فاسم السورة يحذر من أن يتحول قتال المسلم من إعلاء كلمة الله تعالى إلى طلب المغانم الرخيصة، ومن جهة أخرى تطمئن السورة المؤمنين إلى أن القتال الخالص سيؤدي في النهاية إلى الأنفال التي هي الزيادة، فالاهتمام بالأصول يؤدي إلى تحصيل الفروع”[10].

2) اسم السورة يشير إلى أن السورة تتحدث على أمور الجهاد، وتعليمِ المسلمين أسبابَ النصرِ والهزيمةِ، وقضيةِ الأنفال وما حدث فيها من اختلاف، وما نزل من الأوامر والأحكام الإلهية الخاصة فيها والعامة، قال المهايمي: “سميت بها لأنها مبدأ هذه السورة ومنتهى ما ذكر فيها من أثر أمر الحروب”[11] ،قال د عمر عرفات “في دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها” “من لطائف هذه السورة أن محورها ومحور سورة التوبة التي تليها يعطيان صورة متكاملة، فسورة الأنفال محورها التعبئة النفسية والمادية للجهاد مع صدق النية، دون التفات إلى عرض الدنيا، ومحور سورة التوبة التربية على اعتماد الجهاد سبيلًا للحفاظ على الدين ونشره، مع الدعوة إلى التوبة من المخالفات التي وقعت من بعض المؤمنين والمحسوبين عليهم من المنافقين والأعراب فيما يتعلق بالجهاد”[12].

3) اسم الأنفال يشير إلى هزيمة الكفار وأخذ الغنائم منهم، وكذلك السورة فيها تهديدُ الكافرين بالخسرانِ، سورة الجهاد: : “الجهاد”، والمناسبة بينه وبين محور السورة واضح جلي.

ب‌) الاسم الثاني سورة الجهاد: “واسمها الجهاد كذلك لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم من أهل الإسلام قط إلا أكثر منهم، وتجب مصابرة الضعف، فلو كان النظر إلى غير قوته سبحانه ما أطيق ذلك، ولهذه المقاصد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد، وإن كثرت من الأعادي الجموع والأعداد” [13].

ج) “سورة بدر” ومعركة بدر أول غزوة للنبي صلى الله عليه وسلم، أعلن فيها جنده الحرب على قوى الكفر في الجزيرة العربية، ومعظم آي السورة جاءت للحديث عن هذه الغزوة العظيمة، وهي الغزوة التي فتحت الجهاد في المجتمع المسلم”[14].

بعض أقوال العلماء في مقصود السورة:

يمكن تقسيم أقوال العلماء في مقصود السورة إلى أربعة أقسام:

أ‌) القسم الأول: تبرؤ العباد من الحول والقوة، وبيان أن النصر الذي أعز الله به المسلمين كان مكافأة إلهية، وحثهم على التسليم لأمر الله ورسوله بغاية الإذعان، المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين:

– قال البقاعي: “ومقصد هذه السورة تبرؤ العباد من الحول والقوة، وحثهم على التسليم لأمر الله،المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين، المنتج لكل خير ـ ـ ـ وإيجاب اتباع الداعي إليه بغاية الإذعان والتسليم والرضى والتبرؤ من كل حول وقوة إلى من أنعم بذلك، ولو شاء سلبه”[15].
– قال الإمام الطيبي: “كأن هذه السورة الكريمة من فاتحتها إلى خاتمتها جواب عن سؤال واحد، وإرشاد للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في تحري طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوخي رضاه، وامتنان عليهم بما من لهم من نعمة الصحبة، وإن شئت فجرب ذوقك في تكرار “إذ” في التفصيل الوارد في السورة وإيراد القص من غير ترتيب، ثم في كل من تلك الإيرادات الرمز إلى المقصود، ثم في إدراج تقسيم المسؤول عنه في أثناء ذلك، يعني قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 41]: بيان لكيفية تصرف من وُكل إليه أمر الغنائم، فتفكر في كل ذلك تَرَ العجائب، ويتحقق لك ما ذكرت هاهنا، وما أسلفت في قصة البقرة من تقديم آخر القصة على أولها، لتقف على شمة من أسرار كلام الله تعالى المجيد، والله يقول الحق وهوي هدي السبيل”[16].
– قال د الأستاذ محمد الغزالي: “قد جاءت سورة الأنفال في أعقاب انتصار المسلمين في بدر لتبين عمل القدر وجهد البشر، فأبانت أن النصر الذي أعز الله به المسلمين كان مكافأة سماوية على صبر السنين الماضية، وأن الرجال الذين خاضوا المعركة كانوا أدوات لتحقيق الآية الكريمة:
” كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز”[17].

ب‌) القسم الثاني: المسلم يجاهد لإعلاء كلمة الله، وليس لتحصيل المكاسب الدنيوية التي هي زيادة يكرم الله بها المجاهدين في سبيله
جاء في “من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم”: مقصود السورة “المسلم يجاهد لإعلاء كلمة الله، وليس لتحصيل المكاسب الدنيوية التي هي زيادة يكرم الله بها المجاهدين في سبيله، فالاهتمام بالأصول يؤدي إلى تحصيل الفروع”[18].

ج‌) القسم الثالث: قالوا مقصودها بيان أحكام وتشريعات الجهاد في سبيل الله، والإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها فيه، وعوامل النصر والهزيمة:

– جاء في “المختصر في تفسير القرآن الكريم”: مقصود السورة “بيان أحكام الجهاد وعوامل النصر والهزيمة من خلال غزوة بدر”[19].
– جاء في “التعريف بسور القرآن الكريم”: ” محور مواضيع السورة: سورة الأنفال إحدى السور المدنية التي عنيت بجانب التشريع، وبخاصة فيما يتعلق بالغزوات والجهاد في سبيل الله، فقد عالجت بعض النواحي الحربية التي ظهرت عقب بعض الغزوات، وتضمنت كثيرًا من التشريعات الحربية والإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم لأعداء الله، وتناولت جانب السلم والحرب وأحكام الأسر والغنائم”[20].
– قال د وهبة بن مصطفى الزحيلي: سورة الأنفال[21]: ” تتحدّث عن أحكام تشريع الجهاد في سبيل الله، وقواعد القتال، والإعداد له، وإيثار السّلم على الحرب إذا جنح لها العدوّ في دياره، وآثار الحرب في الأشخاص (الأسرى) والأموال (الغنائم) “[22].
– جاء في التناسق الموضوعي في سورة الأنفال/ بدر إبراهيم رجاء الذيابي “المقصد الكلي في هذه السورة هو بيان أسباب النصر، وأن هذه الأسباب تنقسم إلى: أسباب ربانية، وأسباب مادية، وكلاهما مرتبط ببعض”[23].
– قال الفراهي في دلائل النظام: “سورة الأنفال في فرائض الجهاد، ووعد سطوع الحق والتظهير”[24].

د) القسم الرابع: جمع معظم ما قاله المتقدمون:
بيانُ أنَّ النصر الذي أعز الله به المسلمين في بدر كان من صنع الله تعالى وتدبيره، لحثهم على التبريء من الحول والقوة والتسليمِ لأمر الله ورسوله بغاية الإذعان،، معَ صدقِ النيةِ لوجه الله تعالى، دون التفاتٍ إلى عرضِ الدنيا من أنفال وغيرها، المثمرِ لاجتماع الكلمة المثمرِ لنصر الدين وإذلالِ المفسدين، وتربيةُ المؤمنين على التعبئةِ النفسيةِ والماديةِ السليمةِ للجهادِ، مع بيان الإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في الجهاد.
– قال د عمر عرفات في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها”: “سورة التعبئة النفسية والمادية السليمة للجهاد، مع صدق النية، دون التفات إلى عرض الدنيا”
– وقال ملخصًا لكلام العلماء في مقصود السورة: “بأن محور السورة هو تربية المؤمنين على التعبئة النفسية والمادية للجهاد في سبيل الله، وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبأن تكون النية في ذلك صادقة لوجه الله تعالى فقط، وذلك لأن مقاليد الأمور كلها بيده تعالى يقلبها كيف يشاء، ومن مقاصد السورة أنها تعطي مبررات تقرير إلهية الله تعالى في الأرض وتحقيق منهجه في حياة الناس، فحديث السورة عن غزوة بدر الكبرى التي جعلها الله تعالى فرقانًا في مجرى التاريخ البشري، لا يجوز مع الاختلاف على الغنائم القليلة في تلك الوقعة، فسياق السورة يسجل أن هذه المعركة بجملتها من صنع الله تعالى وتدبيره، بقيادته وتوجيهه، بعونه ومدده، بفعله وقدره، له وفي سبيله، ومن ثم تجريد المسلمين من الأنفال، وتقرير أنها لله وللرسول، وحتى إذا ردها عليهم كان ذك منًّا منه وفضلًا”[25].
– جاء في “التفسير الموضوع لسور القرآن الكريم “” تدور آيات السورة الكريمة في معظمها حول محور واحد عام ألا وهو الحديث عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وما يتبع ذلك من أمور وأحكام وقواعد، كما أن مقصد السورة كما يحدده البقاعي يكمن في ” التبرؤ من الحول والقوة وحثهم على التسليم لأمر الله واعتقاد أن الأمور ليست إلا بيده وأن الإنسان ليس فعل ليثمر ذلك الاعتصام بأمر الله المثمر لاجتماع الكلمة المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين المنتج لكل خير”[26].
– قال د محمد سيد طنطاوي: “السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي:

(1) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة، وعلى الطاعة لله ولرسوله. وإصلاح ذات بينهم، والثبات في وجه أعدائهم، والإكثار من التقرب إلى خالقهم، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره، فهو الذي هداهم للإيمان، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات.. بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض.
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا –في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي..
(2) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلاً لاستحواذ الشيطان عليهم…
وهذا التذكير قد تكرر كثيراً في سورتنا هذه، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء، وما يبيتونه لهم من سوء وشر.
(3) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر، وصاحبهم التوفيق”[27].

 

[1] جاء في ظلال القرآن كلام مهم آخذ منه مقتطفات قال:” والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن ” الجهاد في الإسلام ” ليدفعوا عن الإسلام هذا ” الاتهام! “.. يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه.؛ والتي تعبد الناس للناس.؛ وتمنعهم من العبودية لله.. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما.. ومن أجل هذا التخليط – وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! – يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: ” الحرب الدفاعية “.. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك.. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة ” الإسلام ” ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله.؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات…
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير ” الإنسان ” في ” الأرض ” من العبودية للعباد – ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد – وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه – وربوبيته للعالمين.. إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها.؛ والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.. إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله.؛ وطرد المغتصبين له.؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب.؛ ويقوم الناس منهم مقام العبيد.. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض.. أو بالتعبير القرآني الكريم:
{وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله}[الزخرف: 84]، {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه.. ذلك الدين القيم}[يوسف:40]، {قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون}[آل عمران: 64].
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم – هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال في ما يعرف باسم ” الثيوقراطية ” أو الحكم الإلهي المقدس!!! – ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة.؛ وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة ـ ـ ــ ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية – من أنظمة الدولة السياسية.؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير ” الإنسان “.. نوع الإنسان.. في ” الأرض “.. كل الأرض.. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان!.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا (لا إكراه في الدين).. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله.؛ وهو طليق من هذه الأغلال! ـ ـ ـ
فاستقر أمر الكفار معه – بعد نزول براءة – على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام.. فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن [وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة] وخائف محارب “.. وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه. لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!
الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض. وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط.؛ وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن ” الإنسان ” في ” الأرض ” ذلك السلطان الغاصب.. حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله ـ ـ ـ والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية:
(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة. ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً. وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً)… [النساء: 74 – 76].
(قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير)… [الأنفال: 38 – 40]..
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل، قاتلهم الله أنى يؤفكون! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، لا إله إلّا هو، سبحانه عما يشركون. يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.؛ ولو كره الكافرون).. [التوبة: 29 – 32].
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض.؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس. ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين.؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي.. مع تقرير مبدأ: (لا إكراه في الدين).. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد.؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله. أو أن الدين كله لله. بهذا الاعتبار.
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض. بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. وهذه وحدها تكفي.. ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه. ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر “.
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ ” الجهاد “، وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين، في ملابسات دفاعية وقتية، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد!
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي.. وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية.. حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية فيه لله وحده.. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعاً عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه..
هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً..
هذا كله حق.. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة.. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء.؛ لإنقاذ ” الإنسان ” في ” الأرض ” من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية.؛ ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية.؛ تاركاً ” الإنسان “.. نوع الإنسان.. في ” الأرض “.. كل الأرض.. للشر والفساد والعبودية لغير الله.
من حق الإسلام أن يخرج ” الناس ” من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين، وتحرير الناس أجمعين.. وعبادة الله وحده لا تتحقق – في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي – إلا في ظل النظام الإسلامي. فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم. حاكمهم ومحكومهم. أسودهم وأبيضهم. قاصيهم ودانيهم. فقيرهم وغنيهم تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء.. أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. وهو من خصائص الألوهية. فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، سواء ادعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها!
قال السيد أبو الأعلى المودودي في ” الجهاد في سبيل الله “:” لقد جرت عادة الإفرنج أن يعبروا عن كلمة ” الجهاد ” ” بالحرب المقدسة ” إذا أرادوا ترجمتها بلغاتهم. وقد فسروها تفسيراً منكراً. وتفننوا فيها، وألبسوها ثوباً فضفاضاً من المعاني المموهة الملفقة. وقد بلغ الأمر في ذلك أن أصبحت كلمة الجهاد عندهم عبارة عن شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء. وقد كان من لباقتهم، وسحر بيانهم، وتشويههم لوجوه الحقائق الناصعة، أنه كلما قرع سمع الناس صوت هذه الكلمة.. الجهاد.. تمثلت أمام أعينهم صورة مواكب من الهمج المحتشدة، مصلتة سيوفها، متقدة صدورها بنار التعصب والغضب، متطايراً من عيونها شرار الفتك والنهب، عالية أصواتها بهتاف: ” الله أكبر “، زاحفة إلى الأمام، ما إن رأت كافراً حتى أمسكت بخناقه، وجعلته بين أمرين: إما أن يقول كلمة: ” لا إله إلا الله ” فينجو بنفسه، وإما أن يضرب عنقه، فتشخب أوداجه دماً!
” ولقد رسم الدهان هذه ” الصورة ” بلباقة فائقة، وتفننوا فيها بريشة المتفنن المبدع.؛ وكان من دهائهم ولباقتهم في هذا الفن أن صبغوها بصبغ من النجيع الأحمر، وكتبوا تحتها:
” هذه الصورة مرآة لما كان بسلف هذه الأمة من شره إلى سفك الدماء، وجشع إلى الفتك بالأبرياء “!
” والعجب كل العجب، أن الذين عملوا على هذه الصورة.؛ وقاموا بما كان لهم من حظ موفور في إبرازها وعرضها على الأنظار، هم هم الذين مضت عليهم قرون وأجيال يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إرضاء لشهواتهم الدنيئة وإطفاء لأوار مطامعهم الأشعبية، وتلك هي حربهم الملعونة غير المقدسة التي أثاروها على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها، وجاسوا خلال ديارهم يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لمستعمراتهم التي يريدون أن يستعمروها، ويستبدوا بمنابع ثروتها دون أصحابها الشرعيين، ويفتشون عن المناجم والمعادن، وعما تغله أرض الله الواسعة من الحاصلات التي يمكن أن تكون غذاء لبطون مصانعهم ومعاملهم. يبحثون عن كل ذلك وقلوبهم كلها جشع وشره إلى المال والجاه. وبين أيديهم الدبابات المدججة، وفوق رؤوسهم الطائرات المحلقة في جو السماء، ووراء ظهورهم مئات الألوف من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها، وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة، يريدون بذلك أن يهيئوا وقوداً لنيران مطامعهم الفاحشة التي لا تزيدها الأيام إلا التهاباً واضطراباً. فلم تكن حروبهم في ” سبيل الله “، وإنما كانت في سبل شهواتهم الدنيئة، وأهوائهم الذميمة..
“هذه هي حال الذين يصموننا بالغزو والقتال، الذي سبق لنا من أعمال الفتوح والحروب قد مضت عليه أحقاب طويلة. أما أعمالهم المخزية هذه فلا يزالون يقترفونها ليل نهار بمرأى ومسمع من العالم ” المتحضر المتمدن! “. وأي بلاد الله، يا ترى، قد سلمت من عدوانهم، وما تخضبت أراضيها بدماء أبنائها الزكية ? وأية هذه القارات العظيمة من آسيا وأفريقية وأمريكا ما ذاقت وبال حروبهم الملعونة؟.. لكن هؤلاء الدهاة رسموا صورتنا بلباقة منكرة، وأبدأوا وأعادوا في عرضها بشكل هائل بشع، وقد سحب ذيل النسيان على صورتهم الدميمة، حتى لا يكاد يذكرها أحد بجنب الصورة المنكرة التي صوروا بها تاريخنا ومآثر أسلافنا. فما أعظم دهاءهم! وما أبرعهم في التزوير والتمويه!”.(ظلال القرآن / سيد قطب) (3/ 1433).
[2] ذكرت سبب النزول هنا لأن له مدخلًا في فهم مقصود السورة ومعنى كلمة الأنفال.
[3] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، قال الشيخ شعيب حسن لغيره، وأخرجه الطبري في “تفسيره” 9/172-173، والحاكم 2/136 و326، والبيهقي 6/262 و315 و9/57 من طرق عن محمد بن إسحاق، بهذا الإسناد.
[4] التحرير والتنوير/ ابن عاشور(9/ 246).
[5] تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ أبو السعود(4/ 2).
[6] مفردات الراغب (ص 820).
[7] التحرير والتنوير/ ابن عاشور (9/245).
[8] قال حسن الترابي في التفسير التوحيدي ص790: ” إنما تقاتل في سبيل ذلك المتاع الدنيوي قوى الباطل التي تبطش في العالم تريد استعمار أرض الآخرين لها هي وسلب ثروتهم واستغلالهم لعوائد إليها واردة”. فالمسلم هدفه الأول هو إعلاء كلمة الله تعالى.
[9] نظم الدرر في تناسب الآي والسور/البقاعي (3/ 294).
[10] قال د عمر عرفات في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها” صـ107ـ 109.
[11] المهايمي في تبصير الرحمن وتيسير المنان/ علي بن أحمد المهايمي (ج1/277).، وجاء في كتاب التناسق الموضوعي في سورة الأنفال:”تتحدث السورة عن الجهاد، وتحث على الأخذ بأسباب النصر، وتحذر من الهزيمة والوقوع فيه، فكان افتتاح السورة الكريمة بمسألة الأنفال براعة استهلال لهذا المحور العام، حيث تشير هذه الفاتحة إلى حدث من أهم أحداث غزوة بدر وهي قضية الأنفال والغنائم، وما حدث من الاختلاف، وما نزل من الأوامر والأحكام الإلهية الخاصة فيها والعامة، وهذا يدل دلالة قوية على صلة الفاتحة بموضوعات السورة، ويدل كذلك على وحدة الموضوع والهدف العام الذي تقصده وهو الجهاد”. التناسق الموضوعي في سورة الأنفال/ بدر إبراهيم رجاء الذيابي/ بإشراف فضيلة الشيخ الدكتور طه عابدین ص85.
[12] صـ107ـ 109.
[13] نظم الدرر/ البقاعي(3/181).
[14] التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم/ مجموعة من العلماء(3/133).
[15] نظم الدرر / البقاعي(3/ 294).
[16] فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب/ الطيبي (7/ 21).
[17] كتاب نحو تفسير موضوعي/ د الأستاذ محمد الغزالي دار نهضة مصر (1/ 121).
[18] ” من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم/ عيسى وادي، محمود مهنا (ص92).
[19] المختصر في تفسير القرآن الكريم / جماعة من علماء التفسير (ص177).
[20] التعريف بسور القرآن الكريم ص17.
[21] التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج/ د وهبة بن مصطفى الزحيلي(9/ 236).
[22] جاء في التفسير الموضوع لسور القرآن الكريم/ مجموعة من العلماء(132ـ 133).
[23] التناسق الموضوعي في سورة الأنفال/ بدر إبراهيم رجاء الذيابي/ بإشراف فضيلة الشيخ الدكتور طه عابدین ص85.
[24] دلائل النظام/الفراهي في ص94.
[25]قال في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها”/د عمر عرفات(107ـ 109).
[26] نظم الدرر في تناسب الآي والسور / البقاعي(3/181).
[27] التفسير الوسيط للقرآن الكريم/ محمد سيد طنطاوي(6/ 14).