المقال الأول من سلسلة مقالات التوعية الدينية بالأحاديث النبوية من ركن التوعية الأسبوعي للشيخ محمد أبو بكر باذيب: معنى حديث «الخويصَّة»

هناك أحاديث نبوية شريفة يكثر في بعض الأزمنة تداولها، ويتلقفها الناس ويحفظونها، ولكن قلةً منهم هم الذين يبحثون عن شرح تلك الأحاديث، ويتفهَّمون معانيها من كتُب أهل العلم، حتى لا يقعوا في إشكال في الفهم، أو خطأ في التطبيق. وهذه المقالاتُ يرادُ منها أن تكون مرشِدةً للمسلم، موجِّهةً له إلى فهم معاني تلك الأحاديث، والله الموفق.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد.

والصلاة والسلام على سيد السادات، وخير البريات، الرسُولِ الأكرم، والنبيِّ الأعظم، سيدنا رسول الله، محمد بن عبدالله، محبوب مولاه، وصَفْوته من رسُله وأنبياه. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه، صلاة ترضيك وترضيه وترضَى بها عنَّا يا ربَّ العالمين، ونسألك التوفيق لشكرك.

أما بعد؛ فإن حديث الخويصة من الأحاديث الصحيحة، وقد روي بألفاظ كثيرة، وفي الباب ثلاثة أحاديث: عن أبي هريرة، وأبي ثعلبة الخشني، وعبدالله بن عمرو.

[1] أما حديث أبي هريرة؛ فقد أخرجَ مسلم في «صحيحه» [4/ 2267، رقم 2947] عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بادرُوا بالأعمال ستًّا: الدَّجالَ، والدُّخَان، ودابةَ الأرضِ، وطُلوعَ الشمس من مغربها، وأمْرَ العامَّة، وخويصَّة أحَدكُم». وهو بهذا اللفظ عند أحمد في «مسنده» [14/ 56، رقم 8303]، وفيه: (وكان قتادةُ إذا قال: «وأمر العامة»، قال: أمر الساعة). قال شيخنا الهرري في «الكوكب الوهَّاج» [26/ 310]: «وهذا الحديثُ مما انفرد به المؤلفُ (يعني مسلماً) عن أصحاب الأمهات الستِّ، لكنه شاركه أحمد في مسنده [2/ 337]، والبغوي في شرح السنة [15/ 44]، والحاكم في المستدرك [4/ 516]».

[2] حديث أبي ثعلبة الخشني، أخرج ابن ماجه في «سننه» [2/ 1330، رقم 4014] عن أبي أمية الشَّعْباني، قال: أتيتُ أبا ثعلبة الخشنيَّ، قال: قلتُ: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أيةُ آية؟ قلت: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} [المائدة: ۱٠٥]. قال: سألتَ عنها خبيراً، سألتُ عنها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «بل ائتمروا بالمعروفِ، وتناهَوا عن المنكر. حتى إذا رأيتَ شُحًّا مطاعاً، وهوًى متبعاً، ودنيا مُؤثرةً، وإعجابَ كُلِّ ذي رأي برأيه. ورأيت أمراً لا يدانُ لك بِه؛ فعليكَ خُويصَّةَ نفسِكَ، ودعْ أمْر العوامِّ. فإنّ من ورائكم أيامُ الصّبْرِ. الصَّبرُ فيهنَّ على مثل قبْضٍ على الجمْرِ، للعاملِ فيهنَّ مثلُ أجْر خمسينَ رَجُلاً، يعملونَ بمثل عمَلِه». وأخرجه الترمذي [5/ 107، رقم 3058] بلفظ «الخاصة»، وفيه: «فعليكَ بخاصَّة نفسِكَ، ودع العوامَّ»، الحديثَ. قال عبدالله بن المبارك: وزادني غير عُتبة، قيل: يا رسُول الله، أجرُ خمسينَ رجُلاً منا أو منهم؟. قال: «بل أجر خمسين رجلاً منكم». قال الترمذي: «هذا حديث حسنٌ غريب».

وفي رواية في «الشُّعَب» [10/ 51، رقم 7147]: «فعليك بالخواصِّ». وعند الطبراني في «الكبير» [22/ 220، رقم 587]، و«مسند الشاميين» [1/ 428، رقم 753]: «فعليك بخاصَّة نفسك»، ومثله في «الفتن» للداني [3/ 643، رقم 295].

وورد الحديثُ برواياتٍ ليس فيها لفظ الخويصَّة ولا الخاصَّة.

  • بلفظ «فعليكَ بنفسِك»، عند أبي داود [6/ 396، رقم 4341]، و«خلق أفعال العباد» للبخاري [ص 63]، و«شرح مشكل الآثار» للطحاوي [3/ 211، رقم 1171]، و«الفتن» للداني [3/ 642، رقم 294]، و«التمهيد» لابن عبدالبر [24/ 316].

  • «فعليك نفسَك» بدون الباء، في «صحيح ابن حبان» [2/ 108، رقم 385]: وهو في «موارد الظمآن» [6/ 92، 1850]، ومثله في «شرح السنة» للبغوي [14/ 347، رقم 4156]، و«الشُّعَب» [12/ 201، رقم 9278]، و«السنن الكبرى» [10/ 157، رقم 20193]، كلاهما للبيهقي، و«السنة» للمروزي [ص 14، رقم 31].

  •  بلفظ «فعليكَ أمْر نفسِك». في «شرح مشكل الآثار» [14/ 160، رقم 5545]: و«حلية الأولياء» لأبي نعيم [2/ 30].

[3] حديث عبدالله بن عمرو بن العاص. أخرجه أبوداود [4/ 123، رقم 4342] وفيه: «يوشِك أن يأتي زمانٌ يغربلُ الناس فيه غربلةً، تبقى حثالةٌ من الناس، قد مرجَتْ عهودُهم، وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا» وشبكَ بين أصَابعه، فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: «تأخذُونَ ما تعرِفون، وتذرونَ ما تنكِرون، وتقبلونَ على أمر خاصَّتكُم، وتذَرُون أمْر عامتكُم» قال أبو داود: هكذا روي عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من غير وجه. روي بلفظ (أمر خاصَّتكُم) أحمد في «مسنده» [11/ 626، رقم 7049]، والحاكم في «المستدرك» [2/ 171، رقم 2671]. و«المعجم الكبير» للطبراني [13/ 10، رقم 5]، و«شرح مشكل الآثار» [3/ 217، رقم 1176].

وفي لفظ: (وعليكم بخواصكم)، في «المعجم الكبير» [13/ 10، رقم 6]. وفي لفظ: (وعليك بأمر الخاصة)، في كتاب «الدعاء» للطبراني [ص 546، رقم 1963]، و«شرح مشكل الآثار» [3/ 219، رقم 1181]. وفي لفظ: (وتقبلون على أمر خويصتكم)، في «حديث أبي الفضل الزهري» [ص 667، رقم 736].

كل هذه بضمير الجمع. ووردت روايات بضمير الإفراد، منها: في لفظ: «وعليك بخاصتك»، في «صحيح ابن حبان» [2/ 109]، وعند أحمد [برقم 6508، و7063]. وفي لفظ: (وعليك بأمر خاصَّة نفسك)، عند النسائي في «الكبرى» [6/ 59، رقم 10033]، و«عمل اليوم والليلة» [ص 230، رقم 205]، و«مسند ابن المبارك» [ص 159، رقم 257]. وفي لفظ: (وعليك بأمر خاصتك) كما في «الفتن» للداني [2/ 363، رقم 117]. وعند ابن عبدالبر في «التمهيد» [24/ 316]: «عليكَ بخويصَّة نفسِكَ».

 

شرح معنى «الخويصة» و«أمر الخاصَّة» الواردة

 

مما تقدم من الروايات التي سردناها في تحقيق لفظ «الخويصَّة»، نجد أنها وردت في أحاديث صحاح، تارة مضافة للمفرد المخاطب «خويصَّة أحدكُم»، «خويصَّة نفسِك»، «أمر خاصَّتك»، «خاصَّة نفسِك». وتارة مضافة للجمع: «خويصَّتكم»، «أمر خويصَّتكُم»، «أمر خاصَّتكم»، «عليكم بخواصِّكم». وتارة من دون إضافة: «عليكم بأمر الخاصَّة»، «فعليك بالخواصِّ».

والخويصَّةُ في اللغة: تصغير خاصَّةً. وهو من أمثلة (التقاء الساكنين) المغتفَر في باب التصريف، قال الزمخشري في «المفصَّل» [ص 367]: «ومن أصناف المشترك: التقاءُ الساكنينِ: يشتركُ فيه الأضْربُ الثلاثةُ، ومتى التقَيا في الدَّرْجِ على غير حدِّهما. وحدُّهما: أن يكونَ الأولُ حرفَ لينٍ، والثاني مدَّغَماً، في نحو: دابَّة، وخُويصَّة». وقال ابن الحاجب في «الشافية» [ص 77]: «يغتفَر في الوقْفِ مطلقاً، وفي المدَّغَم قبلَه لينٌ في كلمةٍ، نحو: خويصة». قال ابن يعيش في «شرح المفصل» [5/ 287]: «خُوَيْصَّة، تصغيرُ خاصّة. قلبتَ الألفُ واواً، وجئتَ بياء التصغير ساكنةً، وبعدها الصادُ مضاعفةً». وقال الرضي في «شرح الشافية» [2/212]: «والدرجةُ الأخيرة: أن يكون أولُ الساكنينِ واواً، أو ياءً، قبلها فتحةٌ، لقلّة المدِّ الذي في مثل ذلك. ولم يأت مثلُ ذلك إلا في المصغَّر، نحو: خُوَيْصَّة».

وأما معناها اللغوي، ففي «تهذيب اللغة» للأزهري [6/ 292]: «قلت: وتصغَّر الخاصّة خُوَيْصَّة. وَفِي الحَدِيث: (خُوَيْصَّة أحدكُم) يَعْنِي المَوْت». وقال مثله ابن فتوح الحميدي في «تفسير غريب الصحيحين» [ص 336]: «خويصَّة أحدكم: يعني الموتَ الذي يخصُّه، ويمنعه من العملِ إن لم يبادر به قبله». ومثله في «غريب الحديث» لابن الجوزي [1/ 281]. ومثله في «مجمع بحار الأنوار» للفتني [2/ 46]، وزاد: «(خويصَّة أحدكم)، أي: حادثة الموت التي تخصص كل إنسان، وهي تصغير خاصَّة، لاحتقارها في جنبِ ما بعدها، من البعثِ، والعرْضِ، والحسابِ. ومبادرتُها بها: الانكماش».

وقال القاضي عياض في «المشارق» [1/ 243]: «قوله: (بادروا بالإسلام ستًّا)، وذكر: (خويصَّة أحدكم)، يعني: نفسَ. وهو تصغير خاصّة، ويروى: (خاصّة أحدكم). قيلَ: يريد موتَه، بهذا فسره هشامٌ الدستوائيُّ. وفي الرواية الأخرى: (وخويصَّة أحدكُم)، مثله. و: (إن لي خويصّة) كلّه بشدِّ الصاد، أي: خاصّة، صغَّرها. ومعناها هنا: أيَّ أمر يختص به». ونحى نحو القول الأخير الشهاب التوربشتي (661هـ) في «شرح مصابيح السنة» [4/ 1162]، قال: «وفُسرت الخويصَّةُ بالموتِ. ولو قيلَ: هي ما يختصُّ به الإنسانُ من الشواغل المقلقَة في نفسِه، وماله، وما يهتمُّ به؛ فله وجْهٌ، بل هو أوجَهُ». وجمع بينها شيخنا الهرري في «الكوكب الوهاج» [26/ 310]، قال: «يعني العلامةَ التي تخص أحدكم. والمراد منها: الموتُ، فإن من ماتَ قامت قيامته. وقيل: هو ما يختص به الإنسان من الشواغل المتعلقة بنفسه أو ماله أو ما يهتمُّ به»، الخ. وزاد بقية الشراح الأمر تفصيلا، ننقل منه ما هو محل الشاهد.

قال القرطبي في «المفهم» [7/ 308]: «قوله: (وخاصَّة أحدكُم) يعني به: الموانع التي تخصه مما يمنعه العمل، كالمرض، والكبَر، والفقر المنسي، والغنى المطْغي، والعيال، والأولاد، والهموم، والأنكاد، والفتن، والمحن إلى غير ذلك مما لا يتمكن الإنسان مع شيء منه من عمل صالح، ولا يسلَّم له. وهذا المعنى هو الذي فصَّله في حديثٍ آخَر، حيث قال: «اغتنم خمساً قبل خمسٍ». ثم قال: «وقوله: (وأمر العامة) يعني: الاشتغالَ بهم فيما لا يتوجَّه على الإنسان فرضُه. فإنهم يفسِدُون من يقصد إصلاحَهم، ويهلكونَ من يريد حياتهم، لا سيما في مثل هذه الأزمانِ التي قد مرجَتْ فيها عهودُهم، وخانت أماناتُهم، وغلبتْ عليهم الجهالاتُ والأهواء، وأعانهم الظلمةُ والسفهاء. وعلى هذا؛ فعلى العامِل: بخويصَّة نفسِه، والإعراضُ عن أبناء جنسِه إلى حلول رمسه، أعاننا الله على ذلك بفضله وكرمه».

 

من فقه الحديث

 

تقدمَ في السطور السابقة شرح كلمة (الخويصة) لغَرابتها، وكثرة تردادها على الألسنة، مما يوجب شرحها ومعرفة تصريفها ومعناها، وتم إيرادُ كلام اللغويين والفقهاء وكبار شراح الحديث في توجيه معنى «الخويصَّة». وهي تعني: (1) إما الموت، الذي هو خاصة كل نفس. (2) أو الاشتغال بخاصة النفس، مما يهمها من كل الشؤون التي تعتري بني البشر.

أما ما يختص بمسألة إنكار المنكر، فتوضحه النصوص التالية:

مسألة إنكار المنكر:

قال الحافظ ابن عبدالبر في «التمهيد» [24/ 316]: «قال أبو عمر: قد قدّمْنا من الآثارِ ما يوضّحُ: أن الحرجَ مرفوعٌ عن كلّ من يخافُ على نفسِه في تغيير المنكَر، أو يضعُف عن القيام بذلك». وقال العلامة السندي في «حاشيته على سنن ابن ماجه» [2/ 488]: «حاصل هذا الحديث: أن العملَ بالآية مقيدٌ بوقتٍ، لا دائميٌ». وفي «فيض القدير» للمناوي [1/ 353]: «ثمَّ زاد الأمرَ بالانجماعِ تأكيداً، دفعاً لاحتمال التجوُّزِ بقوله: (ودع عنك أمر العامة)، أي: كافة الناسِ. فليس المراد العوامَّ فقط، فإذا غلبَ على ظنكَ أن المنكر لا يزول بإنكارك، لغلبة الابتلاء، لعمومه، أو تسلط فاعلِه وتحيره، أو خفتَ على نفسكَ أو محترمٍ غيرِك محذوراً بسبب الإنكار؛ فأنت في سعة من تركِه، والإنكارِ بالقلب، مع الانجماع. وهذا رخصةٌ في ترك الأمر بالمعروفِ إذا كثُر الأشرار، وضعف الأخيار».

هذا ما تيسر تسطيره في هذه العجالة، والموضوع يحتمل أكثر مما كتب، ولكن نكتفي من القلادة بما أحاط بالجيد، وخير الكلام ما قل ودل، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.