المقال الأول من سلسلة مقاصد السور: سورة الفاتحة للشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ علي هاني في هذه السلسلة الغنية مبحثاً في مقاصد أول ثمان سور القرآن الكريم (الفاتحة – الأنفال)، متطرقاً لأسباب النزول، مع بيان السياق القرآني والتاريخي للسور، وأهم مقاصدها مع الاستفاضة فيها، مستخرجا وملخصاً وشارحاً أهم ما ورد بخصوص هذه المفاهيم في كتب التفسير المعتبرة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

سورة الفاتحة

مقصود سورة الفاتحة باختصار: مقصود الفاتحة جمع خلاصة مقاصد القرآن وتلخيصها، وهي ترجع إلى:
تحقيق استحقاق الله تعالى لكمال التوجه له بالعبودية والاستعانة به وحده.

مقصود الفاتحة بتفصيل:
هو إثباتُ استحقاقِ الله تعالى لجميعِ المحامدِ وصفات الكمالِ واختصاصِه بالعبوديةِ و الاستعانةِ، واختصاصِه بمُلك ومِلك الدنيا والآخرة، وتعليمُ عباده التضرعَ إليه بسؤالِ المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين لربهم، فهذه السورة عهد وميثاق يؤكده المسلم لربه على العبادة الخالصة المطلقة والإنابة الكاملة الصادقة.

بعض أقوال العلماء في مقصود سورة الفاتحة:
يمكن تصنيف العلماء الذين تكلموا على مقصود الفاتحة إلى قسمين:
القسم الأول: مراقبة العباد لربهم، وتحقيق التوجه لله تعالى بكمال الإنابةِ و العبوديةِ الخالصةِ له وحده، و إِقَامَتها عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وسؤال التوفيق للصراط المستقيم.
1) قال أ. د. محمد عبد المنعم القيعي: “مقصود سورة الفاتحة: إحساس العباد بمراقبة الله لهم”[1].
2) قال البقاعي [2]:
“فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، واختصاصِه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين مختصًا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم، لإفراده بالعبادة، فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه، فإنه لا بد في ذلك من إثبات إحاطته تعالى بكل شيء ولن يثبت حتى يعلم أنه المختص بأنه الخالق الملك المالك؛ لأن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب نصب الشرائع، والمقصود من نصب الشرائع جمع الخلق على الحق، والمقصود من جمعهم تعريفهم الملك وبما يرضيه، وهو مقصود القرآن الذي انتظمته الفاتحة بالقصد الأول، ولن يكون ذلك إلا بما ذكر علمًا وعملً”.
3) جاء في المختصر في تفسير القرآن الكريم: من قاصد السورة “تحقيق التوجه لله تعالى بكمال العبودية له وحده”[3].
4) قال محمد عناية الله[4]: “هذه السورة عهد وميثاق يؤكده المسلم لربه على العبادة الخالصة المطلقة، والإنابة الكاملة الصادقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ودعاء حارٌّ واستعانة بالله على الاستقامة، وهو ضمان لمتانة هذا العهد وقوته”.
5) جاء في التفسير الموضوعي: “يمكن أن يقال: إن لسورة الفاتحة محورًا واحدًا هو: بيان طريق العبودية لله وحده، كما يمكن أن يقال: إن للفاتحة عدة محاور هي المحاور التي يدور عليها القرآن الكريم كله بسوره المكية والمدنية[5] “.
6) قال العِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ:” مقصودها إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُكَلَّفِ”[6].
7) جاء في “دلالة أسماء السور القرآنية على محاورها وموضوعاتها”: محور السورة: التعريف بربنا منزل هذا الكتاب العظيم، والتعريف بواجب العباد تجاه ربهم وهو التوجه له وحده بالعباد والاستعانة به للتوفيق إلى الصراط المستقيم”.
8) قال الطباطبائي: “والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به”[7].
القسم الثاني: أن السورة كالديباجة للقرآن، جمعت مقاصد القرآن الكريم:
1) جاء في “دَلَائِل النظام” للفراهي: سُورَة الْفَاتِحَة كالديباجة [8] لِلْقُرْآنِ، فَفِيهَا مَفَاتِيح لجَمِيع مَا فِيهِ”[9].
2) جاء في كتاب أول مرة أتدبر القرآن:” مقصود السورة تحديد معالم الدين وأصوله وفروعه”[10].
3) قال سعيد حوى:” إذ كانت الفاتحة هي مقدمة القرآن فقد تجمعت فيها مقاصده ومعانيه، فالقرآن يدور حديثه حول العقائد والعبادات ومناهج الحياة، وقد بدأت السورة بذكر العقائد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. وثنت بالعبادات: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وثلثت بمناهج الحياة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
والقرآن دعوة إلى العقيدة أولًا، ثم إلى العبادة، ثم إلى مناهج الحياة، وقد تسلسلت المعاني في هذه السورة على هذا الترتيب[11].
4) قال الدكتور فاضل السامرائي:” هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن”[12].
بيان اشتمال الفاتحة على جميع معاني القرآن الكريم:
واعلم أن هذه السورة الكريمة اشتملت على جميع معاني القرآن وأمهات المطالب العالية أتم اشتمال، وتضمنتها أكمل تضمن:
أولا: تفصيل المعاني والإشارات التي دلت عليها الفاتحة:
1) ففي {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}:
أ‌) ذكر الرحمة في أول كتابه سبحانه، وفي ذلك بيان العلاقة بين الله تعالى وعباده بأنها علاقة رحمة لا عداوة، و الدلالة على أن الرحمة غلبت الغضب، ولذلك كرر{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}في الفاتحة.
ب‌) بيان واسع رحمته التي وسعت كل شيء، والإشارة إلى شمول نعمته تعالى جميع الخلق، وفيها وعد بالإحسان، وقد كرر ذكر رحمته مرتين في هذه السورة تنبيهًا لنا على غاية رحمته، وأن علاقته الأصلية بعباده الرحمة، يغفر لهم ذنوبهم ويتوب عليهم ويثيبهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولا يكلفهم إلا ما في طاقتهم، ورحمته الثابتة متعلقة بهم لا تعد ولا تحصى.
ت‌) بيان أنه المستحقُّ وحده لأنْ يتبركَ ويستعانَ ويبتدأَ باسمه سبحانه لا معبوداتُهم الباطلةُ؛ لأنه (الرحمن) ذو الرحمة العظيمةِ الواسعةِ التي تعم الوجود كلَّه السمواتِ والأرضَ، والدنيا والآخرة، المدبرُ للوجود برحمته، ومن أعظم رحمته إرسالُ الرسلِ وإنزالُ الكتبِ، فإن رحمته تقتضي تعريفَ عباده ما ينالون به غاية كمالهم.
ث‌) اشتملت مع الآيات التالية على التعريف بالمعبود – تبارك وتعالى – بأربعة أسماءٍ، وهي مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها ـ كما سيأتي توضيحه، وهي: «الله، والرب، الرحمن، الرحيم ».
2) وفي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}:
أ‌) استحقاقه تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، وأنَّ كلَّ كمالٍ وكلَّ نعمة منه سبحانه وهو مصدرها، فتستوجب الحمد.
ب‌) تعليم عباده كيف يحمَدونه ويمجدونه ويعظمونه ويتذللون له ويثنون عليه بأوصاف كماله وجلاله.
ت‌) وفي كلمة {رب} معنى التربية والإنماء وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق وفي العالمين فمنه عز وجل، فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالإشقاء والإسعاد سواه.
3) وفي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
تقديم الدالِّ على الرحمة وهو (الرحمن الرحيم) على الدالِّ على الجلال والهيبة وهو (مالك يوم الدين)، وكذلك في {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} تقديم الدالّ على الوعد، وهو (أنعمت عليهم) على الدالّ على الوعيد، وهو (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)؛ لأن الترغيب أبعث للنفوس، ولأن رحمته تعالى سبقت غضبه.
4) وفي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}:
أ‌) ذكرُ الأمورِ التي اختص بها تعالى لا يشاركه أحد فيها، وهو إيجادُه للعالمين وتربيته لهم، ورحمتُه الواسعة العميمة الثابتة واختصاصُه سبحانه بالتصرف بيوم الجزاء بجميع أحواله إيجادًا ومِلكًا مُلكًا، والخضوعُ له الذي هو المقصود الأصلي لذلك اليوم.
ب‌) فيها النظرُ للترغيبِ بصفاته (ربِّ، الرحمنِ، الرحيمِ)، والترهيبِ بـ(مالكِ يومِ الدين).
ت‌) فيها ملكه للدنيا والآخرة.
ث‌) فيها الوعدُ والوعيدُ بذكرِ يوم القيامة وبيانِ أنه تعالى هو الذي يملكه: يملك إيجادَه والتصرفَ فيه والحكمَ وغيرَ ذلك من أحوالِه، وأن العالم كله يكون فيه خاضعًا لعظمته ظاهرًا وباطنًا، فـمعنى الدين في {مالك يوم الدين} الجزاء الذي يخضع له وينقاد، يرجو رحمته ويخشى عذابه، وهذا يتضمن الوعد والوعيد.
ج‌) تضمنت إثباتَ المعادِ، وجزاءِ العباد بأعمالهم – حسنِها وسيئِها – وتفرُّدِ الربِّ تعالى بالحكمِ إذ ذاك بين الخلائق، وكونِ حكمِه بالعدلِ، وكلُّ هذا تحتَ قولِه تعالى: {مالك يوم الدين}
ح‌) فيها التمهيدُ لما يعقبها: فلما ذكرت السورة الصفات السابقة التي تميز بها سبحانه أكمل تميز للتالي، وبان أنه المنفرد بهذه الأمور التفتت السورة إليه سبحانه، وبينت أنه المستحق وحده لأن يستعانَ به وأن يعبدَ وحده،وهذان الأمران اللذان يدور عليهما عبادة العابد وفيهما الإقرار بأنه عبد لله وأن الله سبحانه هو المعبود المستعان وحده، فقال{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}.
5) وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}:
أ‌) اجتثاثُ جذورِ الشركِ والوثنيةِ التي كانت فاشية في جميع الأمم من مشركي العرب والفرس والروم وغيرهم.
ب‌) فيها تخصيصُ العبادةِ بكلِّ أنواعِها لله تعالى، وإفرادُها له دون غيره، والإخلاصُ فيها، والإقرارُ بأنه المستحق وحده للعبادة.
ت‌) تشتمل على التكليف بالأصول والفروع:
الأصول: من توحيد واستعانة وتوكل واعتماد وتفويض ونحوها.
والفروع: من صلاة وصوم وغيرها من الفروع.
ث‌) فيها الاستعانة به على كل الأمور، لا سيما الثبات والزيادة من الهداية للصراط المنعم عليهم، والسؤالُ بإلزامِ صراط الفائزين المنعم عليهم الذين هم مغايرون للمغضوب عليهم
والضالين، والإنقاذِ من طريق الهالكين.
ج‌) فيها الإقرارُ بأن المعونةَ من عنده والقدرةَ له، والاعترافُ بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى، والاستعانةُ به تعالى أن يجنّبه صراطَهم ونتيجتَه السيئةَ، كل ذلك في {إياك نعبد وإياك نستعين}.
6) وفي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ (7)}
أ‌) تقديمُ أمر الآخرة على أمر الدنيا، وأنَّ مَنْ طلب الهداية حصَّل خيريِ الدنيا والآخرة، وأنها هي النعمة الحقيقية.
ب‌) الترغيبُ بالهدايةِ والإنعامِ، والترهيبُ منَ الغضبِ والضلالِ، وذلك يستلزمُ الوعدَ والوعيدَ.
ت‌) ذكرُ {الصراط المستقيم} وهو الذي من سلكه فاز ومن تنكب عنه هلك، فهو سبحانه قد وضع لنا صراطًا بيَّنه في القرآن الكريم وحدده، وجعل السعادة في الاستقامة عليه، والشقاوة في الانحراف عنه، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله وهيبته والرجاء لفضله واستقامة على صراطه.
7) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
أ‌) فيها ذكرُ النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ الذين أنعم الله عليهم بالإسلام والإيمان، الراسخين في غايةِ الصلاح والتقوى والفوزِ بسعادة الدنيا والآخرة وإنعام الله في الدارين.
ب‌) فيها الأخبار والقصص: ففي قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم} تصريح بأن هناك قومًا تقدموا وقد شرع الله تعالى شرائعَ لهدايتهم فاستقاموا عليها فكانت سببًا لسعادتهم دنيا وأخرى، ونجاتهم مما أصاب الظالمين فاعتَبِروا بهم كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام: 90] حيث بين أن القصص إنما هي للعظة والاعتبار.
ث‌) وفي قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} تصريح بأن من البشر من تعمدَ العصيانَ والمخالفةَ، فاستحقَّ الغضبَ، فكان محفوفًا بالغضب الإلهي والخزي، ومن الناس من حاد عن الطريقِ وضلَّ فكانت عاقبتهُ الخزيَ، وهذه إشارة إجمالية لحالهم ثم فصل لنا القرآن الكريم هذا الإجمالَ عن أخبار الأمم على الوجه الذي يفيد العبرة، فشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق عنادًا، والذين ضلوا فيه ضلالًا، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله.
8) وفي الفاتحة تعليمُ كيفيةِ دعائه سبحانه، فالفاتحة تعلمنا آدابَ وكيفيةَ السؤالِ فمن ذلك:
أ‌) أن يُقَدِّم العبدُ بين يدي دعائه وسؤالِه أمورًا يَحْسُنُ تقديمُها: كالضَّراعةِ إلى الملك سبحانه،
و التعظيمِ والإجلال له سبحانه، وأن يحمَده بمحامده اللائقةِ به سبحانه، ويثنيَ عليه ويمجدَه، ثم يذكرَ عبوديته له سبحانه، وأن العبادة ليست إلا لله، ثم يذكرَ الاستعانة وأنه لا استعانة إلا منه، ويتبرأَ إليه من حوله وقوته، ويستعينَ بالله على كل أموره لا سيما الهداية، فيطلب الهداية والإعانة عليها؛لأنها ملاك الأمر وفيها سعادة الدارين.
ب‌) وفيها من طرق الدعاء أن لا يَخُصَّ الإنسانُ نفسَه بالدعاءِ بل يسألَ مطلوبَه في حقِّ المؤمنين كافةً {إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا}، فقد جاء فيها (اهدنا) ولم يقل (اهدني) فإنَّ الدعاءَ كلما كان أعمَّ كان الى الإجابة أقربُ؛ لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من هو أهل للإجابة، فإذا أجاب الله تعالى دعاءه في حق البعض فهو أكرم من أن يرده، فالفاتحة مشتملةٌ على تعليمِه المسألةَ وبيانِ كيفيتِها اللائقةِ بالكاملين[13].
والحاصل أن الله تعالى أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة، فهذه السورة الكريمة على قصرها جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه، وقد لخص بعض العلماء ما اشتملت عليه السورة في ثلاثة أمور:
1) على أصول العقائد[14]: الإلهيات، والمعاد، والنبوات:
أ‌) أما الألهيات: فقد اشتملت على التعريفِ بالله تعالى وبصفاتِه سبحانه، والثناءِ عليه بما هو أهله،وأنه ذو الرحمة العظيمةِ الواسعةِ التي تعُمُّ الوجودَ كلَّه السمواتِ والأرضَ، والدنيا والآخرةَ، وأنه المدبرُ للوجود برحمته، وأن العلاقةَ بين الله تعالى وعبادِه علاقةُ رحمةٍ لا عداوةٍ،و أنه المستحق تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، وأنَّ كلَّ كمالٍ وكلَّ نعمة منه سبحانه وهو مصدرها، واشتملت على تعليم عباده كيف يحمَدونه ويمجدونه ويعظمونه ويتذللون له ويثنون عليه بأوصاف كماله وجلاله، و تعليمِهم كيفيةَ دعائه سبحانه،وفيها اجتثاثُ جذورِ الشركِ والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم من مشركي العرب، والفرس، والروم، وغيرهم.
ب‌) وأما المعاد فبالتَعْرِيفِ بالْحَالِ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ الْآخِرَةُ، وعلى الوعد والوعيد، واختصاصِه سبحانه بالتصرفِ بيومِ الجزاء بجميع أحواله إيجادًا ومِلكًا ومُلكًا، وبالحكمِ إذ ذاك بين الخلائق، وبجزاءِ العباد بأعمالهم حسنِها وسيئِها.
ت‌) وأما النبوات فسيأتي الكلام عليها.
2) وعلى إِقَامَةِ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وعلى تخصيصِ العبادةِ بكلِّ أنواعِها لله تعالى، وإفرادِها له دون غيره، والإخلاصِ فيها،والإقرارِ بأنه المستحقُّ وحده للعبادةِ، و الاستعانةِ به على كل الأمور، لا سيما الثباتُ والزيادةُ من الهداية لصراط المنعم عليهم، وعلى الأحكامِ العمليةِ التي هي سلوكُ الطريقِ المستقيمِ، وَالتَعْرِيفِ بمَنَازِلِ الطَّرِيقِ،وبالشريعةِ كلِّها في قوله تعالى: {الصراط المستقيم}، وعلى علم ما به يحصل الكمال وأجلُّه الوصول إلى الله سبحانه والالتجاء إلى جنابه المقدسِ، والسلوكِ لطريقه والاستقامة فيها.
3) فيها ذكرُ النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ الذين أنعم الله عليهم بالإسلام والإيمان، وعلى علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية: السعداءِ منهم والأشقياءِ، وما يتصل بها من وعد محسنهم، ووعيد مسيئهم. وآيات القرآن لا تخلو عن أحد هذه الأمور.
فقد تبين من مجموع ما تقدم أن الفاتحة قد اشتملت إجمالًا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلًا، فلا جَرَم يحصل من معاني الفاتحة ـ تصريحًا وتضمنًا ـ علمٌ إجمالٌ بما حواه القرآن من الأغراض إذ كل كلمة من كلماتها، وكل آية من آياتها، تشير من قريب أو بعيد، إلى جملة محتوياتِ القرآنِ الكريمِ، ومقاصدِه المتعددةِ، وموضوعاتِه المتنوعةِ، وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلبِ التفصيلِ على حسب التمكنِ والقابلية؛ لأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصًا على التذكر لما في مطاويها”. وقد قال كثير من المفسرين[15]: إنها براعة استهلال رائعة للقرآن، وبسبب هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى “أم القرآن”، و في ذلك كلِّه تنطوي حكمةُ وضعها فاتحةً للمصحفِ وإيجابِ قراءتها في كل ركعة.

مناسبة اسم السورة لمقصودها:
للفاتحة واحد وعشرون اسمًا أهما ثلاثة أسماء: فاتحة الكتاب، أم الكتاب، أم القرآن وهي تشير لمقصود السورة:
1) اسمها فاتحة الكتاب من غير خلاف بين العلماء، سمّيت “فاتحة الكتاب” لأن موضعها يعطي ذلك لأن القرآن افتتح كتابة وخطًا وترتيبًا بها فهي أول سورة في القرآن من حيث الترتيب فَاتحة لما يتلوها من سور القرآن؛ لأنها مبدؤه على الترتيب، و(فاتحة) مشتقة من الفتح وهو: إزالة حاجز عن مكانٍ مقصودٍ وُلُوجُهُ فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزًا، وليس مستعملًا في حقيقته بل هو مستعمل في معنى أول الشيء، والعلاقة بين أول الشيء وفاتحته أن الفاتح للشيء ـ كالفاتح للباب مثلًا ـ هو أول من يدخل، فسميت السورة الأولى من الكتاب الكريم (فاتحة الكتاب) لذلك؛إذ بها يتعلق الفتح للمجموع، و إضافة (فاتحة) إلى (الكتاب) بمعنى اللام، من إضافة الجزء إلى الكل، وهذا الاسم يتناسب مع موضوعها والمراد منها، فقد جعلت هذه السورة ملخصًا يفتتح الكتاب به ليشير لموضوعه؛لتكون براعة استهلال للكتاب للقرآن[16]، قال ابن عاشور: “وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزلة ديباجة الخطبة أو الكتاب مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال”[17].
3،2) أم الكتاب وأم القرآن:
تسميتها أمَّ القرآنِ وأمَّ الكتابِ قد ثبتت في السنة، من ذلك ما في (صحيح البخاري في كتاب الطب):” أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغًا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن”[18]، والأصح أنها سميت بذلك لأن الأُمَّ: أصل الشيء، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن، فالفاتحة أصل القرآن لانطوائها على جميع أغراض القرآن، وما فيه من العلوم والحكم؛ لأن الله تعالى أودع فيها مجموع ما في السور فهي متضمنة معاني القرآن مجملاً كما تقدم، فكأنها أصله ومنشؤه.

 

[1] الأصلان في علوم القرآن/ أ. د. محمد عبد المنعم القيعي (238)، والمصنف في الحقيقة ملخص في كل أقواله لمقاصد السور لكلام البقاعي.
[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور / إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي / دار الكتاب الإسلامي، القاهرة (1/ 20).
[3] المختصر المفيد في تفسير القرآن الكريم /مركز تفسير للدراسات القرآنية /جماعة من علماء التفسير (ص1).
[4] البرهان في نظام القرآن. د محمد عناية الله أسد. ص69.
[5] التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم /إعداد نخبة من علماء التفسير وعلوم القرآن بإشراف أ، د مصطفى مسلم (1/15)
[6] «حَلُّ الرُّمُوزِ وَمَفَاتِيحُ الْكُنُوزِ».
[7] الميزان في تفسير القرآن/ محمد حسين الطباطبائي/ دار إحياء التراث العربي (1/16).
[8] الديباجة: مُقدّمة، تمهيد، مَدْخَل، فاتحة “ديباجَةُ الكِتاب/ الخِطاب” ° بعد الدِّيباجة: عبارة يستخدمها الكُتَّاب على سبيل الاختصار عند الحديث عن مضمون رسالة. (معجم اللغة العربية المعاصرة/ د أحمد مختار عبد الحميد عمر (1/ 719).
[9] دَلَائِل النظام/ الفراهي (93).
[10] أول مرة أتدبر القرآن/ عادل محمد خليل، ص22.
[11] الأساس في التفسير/ سعيد حوّى/دار السلام – القاهرة الطبعة: السادسة (1/38).
[12] لمسات بيانية لسور القرآن الكريم/محاضرات ألقاها الدكتور فاضل السامرائي مع المقدم د. حسام النعيمي (1/29).
[13] وقد لخص مجد الدين محمد الفيروزآبادي موضوعات الفاتحة فقال: ” المقصود من نزول هذه السّورة تعليم العباد التيمُّن والتبّرك باسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء الأُمور، والتّلقين بشكر نعم المنعم؛ والتوكُّل عليه في باب الرّزق المقسوم، وتقوية رجاء العبد برحمة الله تعالى، والتّنبيه على ترقُّب العبد الحسابَ والجزاءَ يوم القيامة، وإِخلاص العبوديّة عن الشرك، وطلب التوفيق والعصمة من الله، والاستعانة والاستمداد في أَداء العبادات، وطلب الثبات والاستقامة على طريق خواصّ عباد الله، والرَّغبة في سلوك مسالكهم، وطلب الأَمان من الغَضب، والضلال في جميع الأَحوال والأَفعال، وختم الجميع بكلمة آمين، فإِنها استجابة للدعاء، واستنزال للرَّحمة، وهى خاتَم الرَّحمة الَّتي خَتَم بها فاتحة كتابه”. بصائر ذوي التمييز فى لطائف الكتاب العزيز/مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي /وزارة أوقاف مصر/تحقيق محمد علي النجار (1/128).
[14] قَالَ الإمام الْغَزَالِيّ في كتاب “جواهر القرآن”: “مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ سِتَّةُ ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ؛ وَثَلَاثَةٌ مُتِمَّةٌ الْأُولَى تَعْرِيفُ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ كَمَا أُشِيرُ إِلَيْهِ بِصَدْرِهَا، وهو الله سبحانه عرفه بالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وَتَعْرِيفُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِيهَا وَتَعْرِيفُ الْحَالِ عِنْدَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَهُوَ الْآخِرَةُ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، وَالْأُخْرَى تَعْرِيفُ أَحْوَالِ الْمُطِيعِينَ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}،وَحِكَايَةُ أَقْوَالِ الْجَاحِدِينَ وَقَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا بِ {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، وَتَعْرِيفُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ كَمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}”.(جواهر القرآن ص9) بتصرف.
قال الحسن البصري:” إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن الفاتحة، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة”. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/308).
قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كِتَابِهِ «حَلُّ الرُّمُوزِ وَمَفَاتِيحُ الْكُنُوزِ»: الطَّرِيقَةُ إِلَى اللَّهِ لَهَا ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَظَاهِرُهَا الشَّرِيعَةُ وَبَاطِنُهَا الْحَقِيقَةُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحَقِيقَةِ إِقَامَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُرَادِ مِنَ المكلف ويجمع الشَّرِيعَةَ وَالْحَقِيقَةَ كَلِمَتَانِ هُمَا قَوْلُهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإياك نَعْبُدُ شَرِيعَةٌ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَقِيقَةٌ”.
وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري: “باشتمالها على الثناء على الله تعالى بما هو أهله،وعلى التعبد بالأمر والنهي، وعلى الوعد والوعيد،وآيات القرآن لا تخلو عن أحد هذه الأمور”.انظر الكشاف(1/23)،.
وقال الإمام فخر الدين:” المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة:الإلهيات، والمعاد، والنبوات،وإثبات القضاء والقدر لله تعالى فقوله {الحمد لله رب العالمين} يدل على الإلهيات، وقوله {مالك يوم الدين} يدل على المعاد،وقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} يدل على نفي الجبر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره،وقوله {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله وعلى النبوات، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وهذه السورة مشتملة عليها سميت أم القرآن”(التفسير الكبير(1/179). وقال القاضي البيضاوي: “هي مشتملة على الحِكَم النظريةِ والأحكامِ العمليةِ التي هي سلوكُ الطريقِ المستقيمِ والاطلاعُ على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء”. (1/21). وقال الطيبي:” إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين:
أحدها: علم الأصول، ومعاقده: معرفة الله وصفاته، وإليها الإشارة بقوله: (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ومعرفة المعاد وهو المومى إليه بقوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
وثانيها: علم الفروع، وأسه العبادات، وهو المراد بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). والعبادات: بدنية ومالية، وهما مفتقرتان إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات، ولابد لها من الحكومات، فتمهدت الفروع على هذه الأصول.
وثالثها: علم ما به يحصل الكمال، وهو علم الأخلاق. وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والالتجاء إلى جناب الفردانية، والسلوك لطريقه والاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة والقرون الخالية: السعداء منهم والأشقياء، وما يتصل بها من وعد محسنهم، ووعيد مسيئهم، وهو المراد بقوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)”. فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب/ شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي (1/ 678).
وقال ابن جزي الكلبي الغرناطي ” هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله، فكأنها نسخة مختصرة منه، فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدمة الأولى تعلم ذلك: في الألوهية حاصلًا في قوله:{الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم}، والدار الآخرة: في قوله {مالك يوم الدين}، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله:{إياك نعبد}، والشريعة كلها في قوله: {الصراط المستقيم}، والأنبياء وغيرهم في قوله:{الذين أنعمت عليهم}، وذكر طوائف الكفار في قوله:{غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.(ابن جزي الكلبي الغرناطي/ التسهيل لعلوم التنزيل)(1/ 67)، وانظر للتوسع في هذا كتاب قطف الأزهار في كشف الأسرار /للسيوطي /إصدار وزارة الأوقاف القطرية (1/101)، والإتقان للسيوطي(2/ 421).
[15] التفسير الحديث/دروزة (1/ 285).
[16] ينظر بحث علي هاني في أسماء سورة الفاتحة، وجاء في ” من دلالات أسماء السور في القرآن الكريم /عيسى إبراهيم وادي، محمود مهنا) ص16: الفتح يأتي على معنيين خلاف الإغلاق، وأول الشيء أو المقدمة، فعلى الأول كأن تسميتها بالفاتحة للدلالة على أن قراءتها تساعد على إزالة الحواجز بين الإنسان وتلقي الهدايات الربانية أو كأنها تزيل الحواجز بين الإنسان والقرآن الكريم، وعلى المعنى الثاني: فعل تسميتها بالفاتحة فيه إشارة إلى أنها مقدمة للقرآن ومفتاح لمواضيعه، فمقتضى ذلك أنها جامعة لأهم قضاياه.بتصرف
[17] (1/ 135) وقال أيضًا:” فسورة الفاتحة بما تقرر منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون
سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله”(1/ 153).
[18] رقم: 2276 بَابُ مَا يُعْطَى فِي الرُّقْيَةِ عَلَى أَحْيَاءِ العَرَبِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، وأخرجه مسلم في السلام باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار رقم 2201.