المقالة العشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: هجرة الرسول إلى الطائف

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. لما نالت قريش من النبي – صلى الله عليه وسلم – ما نالت، خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف؛ لما لهم من قوةٍ ومنعة؛ ولقربهم من مكة؛ ولأنه استرضع فيهم فهُمْ أخواله من الرضاعة؛ فَهُمْ بهذا أقرب القبائل رحماً إليه بعد قريش.

خرج إليها ماشياً ولم يركب، واصطحب غلامه زيد بن حارثة، لا رجلاً من الأشداء كحمزة؛ حتى لا يلفت انتباه أحد إلى كونه مسافراً فيمنعوه. ولما وصل إليها عَمَدَ إلى نفرٍ من ساداتها، وكلمهم بما جاءهم من أجله، فردوا عليه رداً منكراً، فرجاهم أن يكتموا خبره عن قريشٍ؛ لئلا يتهم بالتواصل مع القبائل الأخرى، وتحريضهم عليهم، لكنهم لم يجيبوه لطلبه، بل طردوه وأغروا به سفهاءهم، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ولم يكن يدفع عنه سوى زيدِ بنِ حارثة، حتى شج في رأسه شجاجاً كثيرةً. [1] فكان زيد نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلمين تجاه الدعوة وقادتها، من وجوب حمايتهم وإن اقتضى ذلك التضحية بالحياة من أجلهم.

وما زال السفهاء يتعقبونه حتى احتمى منهم ببستان، وقد بلغ منه الحزن كل مبلغ، وشعر بالهوان يفري قلبه فريًا، وبدا له الموقف أشدَّ ما يكون قسوةً وحرجاً، وأحوجَ ما يكون إلى المدد الإلهي، فراح يبتهل إلى الله راجياً منه الغوث والنجدة، قائلاً: (اللهمّ إليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس…) [2]. وإنما لم يعاجل الله ثقيفاً بعقابه، لعله أخر ذلك إلى يوم حنين، حين قُتِلَتْ رجالهم، وسُبِيَتْ نساؤُهم، وذراريهم وغنمت جميع أموالهم. وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم كانوا يظلمون.

“وما كان يلاقيه النبي – صلى الله عليه وسلم – من مختلف ألوان المحنة، إنما كان من جملة أعماله التبليغية، فكما كان يقول “صلوا كما رأيتموني أصلي”، كأنه بلسان الحال يقول “اصبروا كصبري.

فلما رأى أصحاب البستان، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، ما جرى لرسول الله رقت قلوبهما، فأرسلا إليه مع غلامهما عداساً قطفاً من العنب، فما رجع إليهما إلا وهو مسلم، بعد أن أكب على رأس رسول الله ويديه ورجليه يقبلها. فقالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. [3]

لماذا لم يَدْعُوَا غلامَهما إلى دينهما الوثني؟؛ لأنه دين مخجل، وفيه من الثغرات ما لا يسمح بحال أن يقف أمام براهين دين الإسلام، الذي جاء به جميع الرسل. وهم أنفسهم لم يكونوا مقتنعين بدينهم، وما كانت عبادتهم للأصنام إلا تقليداً لآبائهم، ولو وجدوا آباءهم يعبدون القرود لعبدوها.

ثم مضى رسول الله مكسور القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه مَلَكَ الجبال، يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين. فقَالَ: (أنا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) [4] 

لم يستطع سَفَهُ ثقيفٍ أن يترك في قلب النبي شيئاً من الضغن؛ لذلك لم يشأ إهلاكَهم عندما استأذنه ملك الجبال في ذلك بل كان يرجو لهم الخير والهداية هكذا أصحاب القلوب الكبيرة لا يحقدون.

وفي مكان اسمه (نخلة)، صرف الله إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – نفرا من الجن، يستمعون القرآن بنص كتاب الله تعالى فأسلموا؛ لذلك يجب على المسلم أن يؤمن بوجود الجن؛ فمن أنكر وجودهم أو شك فيه فهو مرتد عن الإسلام؛ لإنكاره معلوما من الدين بالضرورة، وعدمُ رؤيتنا لهم ليس دليلاً على عدم وجودهم، لأن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود.

وأخيراً لمّا هَمَّ الرسول بدخول مكة أرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي يخبره أن محمداً داخلٌ مكة في جواره، فاستجاب المطعمُ لذلك [5]. مما يؤكد أن للمسلمين أن يستفيدوا من بعض الأعراف والمواثيق الدولية لصالح الدعوة دون أَيِّ تَنَازُلٍ يمس دينهم.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ملخص من سيرة ابن هشام ج1 ص419.

[2] رواه الطبراني برجال ثقات من عبد الله ابن جعفر.

[3] ملخص من ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 421) من رواية ابن إِسحاق، عن محمَّد بن كعب القرظي.

[4] السيرة لابن كثير ج2ص151

[5] ملخص من طبقات ابن سعد: 1/ 196 وسيرة ابن هشام: 1/ 381