المقالة السادسة والعشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: صورة عن مقام النبي في بيت أبي أيوب

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

لما حط النبي- صلى الله عليه وسلم- رحاله في المدينة يوم هجرته نزل على أبي أيوبَ الأنصاريِّ، وسأدع الكلام لأبي أيوبَ يحدثنا عن مقام النبي عنده. قَالَ أبُو أيُّوبَ إنَّ نَبِيَّ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- نَزَلَ فِي بَيْتِنَا الأَسْفَلِ وَكُنْتُ فِي الْغُرْفَةِ فَأُهْرِيقَ مَاءٌ فِي الْغُرْفَةِ فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا نَتْبَعُ الْمَاءَ شَفَقَةَ أَنْ يَخْلُصَ الْمَاءُ إِلَى رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلْتُ إِلَى رَسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مُشْفِقٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ نَكُونَ فَوْقَكَ انْتَقِلْ إِلَى الْغُرْفَةِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَتَاعِهِ فَنُقِلَ وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنْتَ تُرْسِلُ إِلَيَّ بِالطَّعَامِ فَأَنْظُرُ فَإِذَا رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابِعِكَ وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ …[1] 

نستنبط من حديث مقام النبي عند أبي أيوب فوائد أهمها:

أولاً: حُبُّ أبي أيوبَ الأنصاري للنبي- صلى الله عليه وسلم- وإجلالُه إياه، وشفقتُه عليه، كان محط إعجاب الجميع، وإنا لنلحظ هذه العاطفة المشبوبة تجاه النبي، والمشاعر الجياشة، والمحبة المتدفقة في قلوب أصحاب النبي جميعاً، فكانوا يجلونه ويحبونه أكثر من أنفسهم. 

رأى عروة بن مسعود- وكان يمثل قريشاً في مفاوضات صلح الحديبية- أصحابَ النبي يعظمونه تعظيماً ما عرفته الملوك؛ 

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ.[2] 

وزَيْدُ بْنُ الدّثِنّة حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ قال له أبو سفيان أَنْشُدُك اللهَ يَا زَيْدُ، أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك، نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنّك فِي أَهْلِك؟ قَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ، تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا. [3]

وهذه امْرَأَة مِنَ الْأَنْصَارِ قُتِلَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا وَزَوْجُهَا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟. قَالُوا: خَيْرًا هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: أَرِنِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ. [4] 

ثانياً: يجوز التبرك بآثاره عليه الصلاة والسلام، وقد صحت أحاديث كثيرة في تبرك الصحابة بآثار النبي والتوسل بها؛ لطلب الشفاء، والمعونة، والتوفيق، والمثوبة، وما شابه ذلك.

عن عثمان بن عبد الله بن موهب، قال: أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر النبي، وكان إذا أصاب الإنسانَ عينٌ أو شيءٌ بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه. [5] وذلك توسلاً للاستشفاء والبركة. 

وفي الصحيحين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بشراب، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟) فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. فتلّه في يده. [6] 

فإذا كان هذا شأنَ التوسل بآثاره المادية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله؟ 

ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك، وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس. فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنىً واحدٍ، وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسَّلِ أو المتَبَرَّكِ به.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_________________________

[1] أحمد في المسند: 24053، 23570.

[2] البخاري: 2731

[3] سيرة ابن هشام: 2/ 172

[4] (سيرة ابن هشام: 4/50 (جَلَل = صغيرة)

[5] الجمع بين الصحيحين، أفراد البخاري: 3453

[6] رواه البخاري: برقم 2451 ومسلم: برقم 2030