المقالة السادسة عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: الحصار الاقتصادي

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

اشتدَّ تشهيرُ سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – بمَعَرَّاتِ قومه، وعيبُه آلهتَهم، وأنزل الله من القرآن سوراً وآياتٍ تدمغ قريشاً، وتؤذي كبرياءها أشدَّ الأذى، وكان لابد لقريشٍ أن تقبل تلك الإهانات؛ لأنها عاجزةٌ عن مقابلة البرهان بالبرهان. وكل ما كانت تستطيع فعله أن تصب وبالها على المستضعفين من أتباع الرسول، حتى استنفذت كل ما في جَعبتها من وسائل الإرهاب، ولم تبلغ شيئاً مما تريد، فتوعدت بقتل الرسول سراً أو علانيةً؛ فلجأ أبو طالب إلى الشِّعْبِ خوفاً على النبي من الاغتيال، ولحق به بنو هاشم وبنو المطلب؛ ليكونوا جميعًا حول النبي- صلى الله عليه وسلم- كي يحموه من أهل مكة، وقالوا: نموت عن آخرنا قبل أن يوصل إليه.

حينذاك عقدت قريش اجتماعاً، قررت فيه مقاطعةَ وحصار بني هاشم وبني المطلب، وكتبت في ذلك صحيفة: وعلقوها في جوف الكعبة وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر محمداً أن ينام في فراشه؛ حتى يراه من أرد به مكراً أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه فاضْجَعه على فراش رسول الله، وأمر رسولَ الله أن ينام في فراش ابن عمه، ولاقى النبيُّ ومن معه خلال ذلك آلاماً قاسيةً، من الخوف، والعزلة، والحرب النفسية، وقلةِ الغذاء، وشدةِ البلاء، وفرطِ الجوع، حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ السّمُرِ، حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ، وبلغ بهم الجهد أقصاه، حتى رثى لحالهم الخصوم من أصحاب الضمائر الحية، وأهل النخوة والرجولة، من أمثال هشام بن عمروٍ، وزُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومي، والْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وأَبِي الْبَخْتَرِيِّ بن هِشَام، وزَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، حيث تَعَاقَدُوا فيما بينهم على نقض الصحيفة الظالمة، ولم يهدأ لهم بال حتى نقضوها رغما عن أنف أبي جهل وعصابته.

ثم انطلق هؤلاء الخمسة، ومعهم جماعة، إلى بني هاشم وبني المطلب ومن معهم من المسلمين، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم. وفُكَّ الحصار.

استغل بعض المبطلين من محترفي الغزو الفكري، موقف بني هاشم وبني المطلب السلبي من مشركي قريش في مقاطعتهم للمسلمين بأنَّ عصبيَّتَهم كانت تكمن خلف دعوة محمد، وكانت تحوطها بالرعاية والحفظ! وإنها لمغالطة مكشوفة، لا يقبلها عقل ولا منطق؛ لأن المشركين من بني هاشم وبني المطلب، لم تكن حمايتُهم للرسالة التي بعث بها سيدنا محمد بدليل أنهم لم يدخلوا في دينه وإنما كانت حمايةً لشخصه بالذات من تهديد الغرباء بدافع حمية القرابة والرحم. 

وجاءت طائفة أخرى من محترفي الغزو الفكري يتأولون رسالةَ محمد وإيمانَ أصحابه بها على أنها ثورة يسار على يمين؟ أيْ ثورةُ الفقراءِ المضطهدين على الأغنياء المترفين. وهذه الأخرى أوهى من سابقتها، لعلمهم أن الرسول قد عرض عليه المشركون الملك والمال والزعامة، على أن يتخلى عن الدعوة إلى الإسلام، فلِماذا لمْ يرض عليه الصلاة والسلام بذلك؟ ولم يَثُرْ عليه أصحابُه، ولم يضغطوا عليه كي يَقْبَلَ بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيءٍ أكثرَ من الحكمِ يكون في أيديهم، والمالِ يكون في خزائنهم؟

ولقد قوطع وحوصر محمد- صلّى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه، حتى راحوا يأكلون ورق الشجر وهم محدقون برسولهم. أفهكذا يصنع من يثور من أجل لقمة العيش؟! 

ثم ألم يكن أصحاب النبي ينفقون أموالهم في سبيل الله بغير حساب؟ ألم يهاجروا من بلدهم تاركين جميع ممتلكاتهم وراء ظهورهم من أجل دينهم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.