المقالة السابعة والعشرون من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: أسس المجتمع الجديد

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

نشأت بهجرة رسول الله إلى المدينة أولُ دار إسلام إذ ذاك على وجه الأرض؛ وقد قام النبي بوضع الأسس الهامة لهذه الدولة، وهي: بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتابة الدستور. وسأبدأ الحديث عن بناء المسجد:

لَمَّا وصل النبي إلى مشارف المدينة، أقام في بني عوفٍ بِضْعَةَ عَشَرَ يوما، فكان أولَ عمل قام به بناءُ مسجد قُبَاء، ثم انتقل إلى داخل المدينة، فكان أولَ عمل قام به أيضاً تأسيسُ المسجد النبوي. لماذا كُلُّ هذا الحرصِ على بناء المسجد؟ لأن النبي عمل على إقامة مجتمعٍ إسلامي راسخٍ متماسكٍ، ولا يتم ذلك إلا على أسسٍ، أهمها: الالتزامُ بأحكام الإسلام وعقيدته وآدابه، وتمتينُ علاقةِ الأُخُوَّةِ والمحبة بين المسلمين، وشيوعُ روح المساواة والعدالة بينهم، وظهورُ الوحدة بأسمى معانيها، ولا يمكن لكل ما ذكرنا أن يتحقق إلا بالمسجد؛ ففي المسجد يتعلم المسلم أحكام الإسلام وعقيدته وآدابه، وفي المسجد الذي يلتقي فيه المسلمون كل يومٍ خمس مرات في صفوف متراصة، الضعيف إلى جانب القوي، والفقير إلى جانب الغني، والمغمور إلى جانب المشهور، فتنداح بينهم فوارق الجاه والمال، وكلُّ الاعتبارات الأخرى، وفي المسجد ينصهر المسلمون في بوتقة واحدة، إلههم واحد، وقرآنهم واحد ونبيهم واحد ودينهم واحد يركعون، وبمجموع هذه الأهداف تنهض دولة الإسلام.

فمن الخطأ الفادح الظنُّ بأن دَوْرَ المسجد مقتصر على العبادة، بينما مسجد النبي كان مكاناً للعبادة ومجالس العلم من الفجر الصادق إلى غسق الليل، وفيه تُسْتَقْبَلُ الوفود، وتُعْقَدُ التحالفاتُ، وفيه تكون الاجتماعات الهامة، ومجالس الشورى، ومنه تتحرك كتائب الإيمان لتأديب الظالمين، وفيه تكون عقود النكاح، والفصل في الخصومات، وإصلاح ذات البين؛ لذلك وجدنا مسجد النبي يتخرج منه المصلح العظيم أبو بكر، والعبقري الملهم عمر، والحيي الكريم عثمان، والقاضي الفذ علي، والمدرس القدير ابن عباس، والمفتي الخبير ابن عمر، والمحدث الشهير أبو هريرة، والفيلسوف البارع سلمان، والقائد الجبار خالد، والزاهد الورع أبو ذر، إلى آخر القائمة التي لا تكاد تنتهي من أمثال هؤلاء العمالقة  الذين كانت تُرْعَدُ لهيبتهم فرائص الملوك، وتدين لهم نصف الكرة الأرضية لعدة قرون.

ثم المسجد الذي بناه النبي كان غاية في البساطة، جدرانه من الطين، وسواريه من جذوع النخل، وسَقْفُه الجريد والثُّمَامُ، وأرضه مفروشة بالحصى والرمال ثم جاء عثمان بن عفان فأعاد بناءه بالحجارة والساج، ولم ينكر .عليه أحد، فاستدل العلماء بذلك على جواز صرف المال على كل ما له صلة بقوة ومتانة بناء المسجد

وأما ما يتعلق بالنقش والزخرفة، ففي ذلك خلاف لما فيه من صرف قلوب المصلين عن الخشوع والتدبر.

وقد شارك النبي أصحابه في بناء المسجد، فكان يحمل اللَّبِنَ والحجارة َكواحدٍ منهم، لا يتميز عنهم بشيء، وما زال ذلك مَسْلَكَهُ حتى لقي وجه ربه.

ففي يوم بدر يأبى إلا أن يشاركه اثنان من أصحابه في التناوب على ركوب ناقةٍ. [1]

وعندما تَنْشُبُ الحرب: يقول علي (لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ بِالنَّبِيَّ، وَهُوَ أَقَرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا). [2]

ويُقِيدُ من نفسه جندياً من جنوده يوم بدر وَكَزَهُ بقضيبٍ في بطنه. [3]

ويواسي أصحابه دون تفرقة بين السادة والعبيد؛ مر على قبرٍ حديثٍ فسأل لمن هذا القبر؟ قالوا لسيدة كانت تَقُمُّ المسجد، فَصَفَّ أَصْحَابَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا.[4]

وكَانَ مرةً فِي سَفَرٍ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِصْلَاحِ شَاةٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَلَيَّ ذَبْحُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ سَلْخُهَا، وَقَالَ آخَرُ: عَلَيَّ طَبْخُهَا، فَقَالَ: عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ. [5]

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] مسند الإمام أحمد: 3965، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن

[2] شرح السنة للبغوي: 1/867

[3] سيرة ابن هشام: 1/626.

[4] البيهقي في السنن الكبرى: 7020

[5] الجامع الصحيح للسنن والمسانيد: 14/321.