المقالة السابعة عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: الهجرة إلى الحبشة

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. 

رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – مشركي مكة ممعنين في التنكيل بأصحابه انتقاماً لآلهتهم، ورأى أنه غيرُ قادر على دفع الأذى عنهم، فخاف على أصحابه أن يُفتنوا عن دينهم إذا طال عليهم العذاب، فرأى بثاقب فكره، ونفاذ بصيرته، وصائب رأيه، أن يختار لهم مكاناً أكثر أمناً، فأشار عليهم أن يهاجروا إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله للمؤمنين فرجاً ومخرجاً مما هم فيه، وذلك في السنة الخامسة للبعثة.

فخرج أحدَ عشرَ رجلاً وأربعُ نسوة من الأشراف فيهم عثمان بن عفان وزوجتُه رقيةُ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم وجعفر بن أبي طالب، فأكرم النجاشي وفادتهم، وأحسن لقاءهم، ثم لحق بهم آخرون، حتى بلغ العدد نحو ثمانين رجلاً عدا النساءِ والأطفال، فغاظ ذلك قريشاً، أن يروا المسلمين في سلام وأمان، فَبَعَثُوا داهية العرب عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ وَمَعَهُمَا رشاوى باسم هَدايا للنجاشي وحاشيته، فاتهموا المهاجرين بالسفهاء المارقين على دين قومهم، وناشدوه أن يردهم إلى قومهم، فلما سمع من المهاجرين حقيقة الأمر، ثبت له صدقهم وكذبُ رسل قريش، وحين وسمع آيات من مطالع سورة مريم بكى وبكت بطارقته مما رأوا من الحق وقال إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى يَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، وقرر ألا يسلمهم إلى مبعوثي قريش ورجعا بالخيبة. وكان النبي يُكِنُّ لملك الحبشة المودة، وكان بينهما مراسلات، ولما كاتب الرسول الملوك، كان أول من أسلم وأحسن الرد على كتابه، ويوم مات النجاشي نعاه النبي لأصحابه، وصلوا عليه صلاة الغائب.

من الدروس التي يمكن أن نستفيدها مما مر:

أولاً: وجودُ جعفر بنِ أبي طالب وعثمانَ صهرِ النبي ورقيةَ ابنةِ النبي بين المهاجرين دلالةٌ على أن القائد الحقَّ ينبغي أن يُقَدِّمَ الأقارب للأخطار قبل الأباعد.

ثانياً: يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة الى ذلك شريطة ألا تستلزمَ مثلُ هذه الحمايةِ تنازلاتٍ تضر بالدعوة الإسلامية، أو تُغَيِّرَ بعض أحكام الدين، أو تُلْزِمَ المستجيرَ بالسكوت على اقتراف بعض الموبقات. 

ثالثاً: يجب علينا أن نعطي عدونا حجمه الحقيقي، وألا نستهينَ بطاقاته ومقدراته، وألا ننامَ عن مخططاته وتحركاته الماكرة؛ حتى نستطيع أن نواجهه. 

رابعاً: حكم الهجرة من دار الإسلام دائر بين الوجوب والجواز والحرمة، فتكون:

واجبة عندما يُمنعُ المسلمُ من تأدية شعائر دينه كالصلاة

جائزة عندما يبتلى المؤمن بأنواع الأذى من قبل أعداء الله يصعب عليه تحمله

 محرمة عند تعطيل واجب إسلامي لا يقوم به غيره

خامساً: إسلام النجاشي – مع كون الإسلام لا يوافق على بنوة المسيح لله ولا على كونه ثالثَ ثلاثة – دليل على أن اختلاف أهل الكتاب فيما بينهم ليس إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

سادساً: لا يضحى بالدعوة من أجل الحفاظ على الدعاة، بل يضحى بالدعاة من أجل الحفاظ على الدعوة؛ لأن أهم شيء في حياة المؤمن هو الدين، ومن أجله يضحَى بكل شيء حتى بالمال والوطن والأرواح. وما أيسر أن يعوض ذلك كله في وقت وجيز طالما الدين الذي جاء به النبي الخاتم وارتضاه الله لعباده بخير. 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.