المقالة الرابعة من سلسلة يحبنا ونحبه للشيخ أنس الموسى – “من أشواق المحبين”

يقدم لنا فضيلة الشيخ دروساً غنية في الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يشتمل ذلك من معرفة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وسماته، ومعرفة صحابته وما يقدموا لنا من أعلى وأمثل النماذج في حب رسول الله المصطفى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد؛
نحن اليوم مع الحلقة الرابعة والأخيرة من حلقات نتحدث فيها عن استجلاب محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيكون عنوان اللقاء: من أشواق المحبين.

نقول وبالله التوفيق:
لقد أحب رسول الله كل شي من صَحِبه ومن لم يصْحَبه من رآه ومن لم يره من يعقل ومن لا يعقل إنسانًا حيوانًا جمادًا ونباتًا.
يقول أنس بن مالك: كان رسول الله يقبل وما على وجه الأرض شخص أحب إلينا منه [1].
لقد كان أنس رضي الله عنه من الذين أحبوا رسول الله بعدما صحبوه ورأوه وجالسوه وخدموه فقد عاين أسباب محبته صلى الله عليه وسلم وعاشها … وقد ذكرنا نبذا ونماذج من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن ماذا عمن آمن برسول الله ولم يره؟ ماذا عن الجيل الذي جاء بعد رسول الله؟ هل كانوا يرون رسول الله كما كان يراه أصحابه؟
حقيقة لم يكن حال التابعين ومن تبعهم من المحبين لرسول الله مختلفًا عن حال الصحب رضي الله عنهم وإن كانت درجات المحبة متفاوتة فيما بينهم فحب الصحب لرسول الله لم يجد الزمان بمثله.
هذا مالك بن أنس عندما كان يحدث بحديث رسول الله يتغير لونه وينحني حتى يصعب على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك! فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث إلا يبكي حتى نرحمه. ثم قال: وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي فيُنظر إلى وجهه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبًة لرسول الله. ثم قال: ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.

نزف البكاء دموع عينك فاستعر   عينًا لغيرك دمعها مدرار

لِم كل هذا البكاء؟! ولم كل هذه الدموع؟، ولِم تتغير ألوانهم؟ إنه الحب والشوق لرسول الله والهيبة والتعظيم له … شوق وحب حرك مكامن نفوسهم وأرواحهم فأسال دموعهم وغير ألوانهم.

فنبكي إن نأوا شوقًا إليهم    ونبكي إن دنوا خوف الفراق

لقد كانت رؤية صفحة وجه النبي تساوي الأهل والمال والولد بل أكثر. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أشد أمتي حبًا لي ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله” [2].
حب عجيب شعروا من خلاله أنهم لو ملكوا شعرة من شعر رسول الله فكأنهم ملكوا الأصفر والأبيض.
يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة عبيدة السلماني -وهو من التابعين من أصحاب علي رضي الله عنه- يقول: قال محمد: قلت لعبيدة: إن عندنا من شعر رسول الله شيئًا من قِبل أنس بن مالك، فقال: لئن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض.
قال الذهبي معلقًا على القصة: هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس [3].
إذا كان المرء يستغرب حب الصحابة لنبيهم حتى إن نخامته لا تقع إلا في كف أحد أصحابه يدلك بها وجهه وبدنه وآخر يشرب دم حجامة رسول الله وكانوا يتنافسون على شعره لو قصره أو حلقه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من القصص العجيبة، ويعجب من حب التابعين ومن تبعهم له صلى الله عليه وسلم لكن العجب لا يكاد ينقضي من هذا الجمل الذي جاء للنبي يشتكي بأن صاحبه يدئبه ويتعبه، [4] بل إن العجب مستمر عندما تكلمت الذراع المسمومة بما فيها مع رسول الله. [5] بل يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله [6].
بل إن العجب لا ينقضي من حب الجمادات لرسول الله وسلامها عليه صلى الله عليه وسلم. كما قال رسول الله: “إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث”[7].
وها هو جبل أحد، ورسول الله يتبادلون الحب فيقول رسول الله: “أحد جبل يحبنا ونحبه” [8] الجبل الأصم الصلد يحب رسول الله!!
بل إن العجب لا ينقضي من حنين الجذع لرسول الله وهو نبات عندما كان رسول الله يخطب عليه وعندما صنع له المنبر تركه فسمع الصحابة أنين الجذع وحنينه لفراق رسول الله [9].
وها هو رسول الله ينام في أحد أسفاره فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله ذكرت له فقال: “هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله فأذن لها” [10].
لماذا تريد الشجرة أن تسلم على رسول الله ولماذا حن الجذع للفراق؟ إنه الحب لا شيء غير الحب.
هذه نبذ من أشواق المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن نصل من خلالها لحب رسول الله، آمين آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
صل اللهم على نبيبنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] مسند أحمد 12526
[2] مسلم 2832
[3] البخاري 140
[4] مسند أحمد 1745
[5] البخاري 4003 والمنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 19/179
[6] سنن الترمذي 3626
[7] مسند أحمد 20828
[8] صحيح ابن حبان 6506
[9] صحيح ابن حبان 6506
[10] مسند أحمد 17565 وصحيح ابن حبان 6505