المقالة الرابعة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: علاقة الدعوة المحمدية الخاتم بالدّعوات السّماوية السّابقة

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

 

محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء، بنص القرآنِ الكريم؛ قال تعالى: {مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: ٤۰].

أما علاقة دعوته صلّى الله عليه وسلم بالدعوات السماوية السابقة، فقائمةٌ على التأكيد والتتميم.

بيان ذلك: أن دعوة كلِّ نبيٍ تقومُ على ثلاثة أُسُسٍ: العقيدة، والأخلاق، والتشريع.

 

فالعقيدة: المبنية على توحيد الله لا يختلف مضمونُها بين نبي وآخر، قال تعالى: {وَمَا أَرْ‌سَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّ‌سُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: ۲٥].

 

وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: ۱۳].

 

فدعوات أنبياء الله في شأن العقيدة وكذا الأخلاق؛ مستحيل أن تختلف لأنهما من نوع الإخبار، والإخبار عن شيء لا يمكن أن يختلف بين مُخْبِرٍ ومخبر، فَمِنْ غيرِ المعقول أن يُبْعَثَ نبي ليبلِّغَ الناسَ أن الله ثالثُ ثلاثة، سبحانه عما يقولون! ثم يُبْعَثُ مِنْ بعدِهِ نبيٌّ آخَرُ؛ لِيُبَلِّغَهُم بأن الله واحدٌ لا شريك له، كما لا يمكن لنبيٍّ أن يُمَجِّدَ الصدقَ مثلاً ويأمرَ به، ويأتيَ نبيٌ آخرُ؛ ليذمَّ الصدقَ وينهى عنه، وفي الوقت نفسِه يكونُ كلٌّ منهما صادقاً فيما يُبَلِّغُ عن الله تعالى!

 

أما التشريع: فيختلف بين بِعثةِ نبيٍّ وآخرَ؛ بما يتناسب مع طبيعة المجتمع.

 

فاليهودُ مثلا كانت صفات الغلظةِ والفظاظةِ وقسوةِ القلب ودناءةِ الهمة غالبةً عليهم؛ فما يُصلِحُهُم إلا التكاليفُ الشاقةُ، مِثْلُ: قتلِ الأنفس من أجل قبول التوبة، وقَطْعِ موضع النجاسة من الثوب، وفرضِ خمسين صلاةً في اليوم والليلة، وعدمِ صحة صلاتهم في غير المكان المخصص للعبادة، وكونِ الزكاة رُبُعَ مالهم، وقتلِ القاتلِ مطلقا دون قبول الدِّيَة، وإِذَا أَتَوْا بِخَطِيئَةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ بَعْضُ مَا كَانَ حَلَاً لَهُمْ.

 

قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً، وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النِّسَاءِ: ١٦۰].

 

وأما هذه الأمةُ فلَطَافَةُ الطبعِ، وعُلُوُّ الهمةِ، وكَرَمُ الخلق غالبةٌ عليهم؛ فكانت مصلحتُهم في التخفيف.

قال الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: ۳۳]، وقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج، الآية: ٧٨].

 

يستثنى من الشريعة الضرورات الخمس، وَهِيَ: حِفْظُ الدِّيْنِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالمَالِ، وَالعَقْلِ، فهذه الخمسُ لأهميتها لم تفرطْ فيها شريعةٌ من شرائع الله.

 

ويتّضح مما ذكرنا أنه لا توجد أديانٌ سماويةٌ متعددةٌ، وإنما توجد شرائعُ سماويةٌ متعددةٌ، نُسِخَ السابقُ منها باللاحق، إلى أن استقرت الشريعةُ السماويةُ الأخيرة، التي قضت حكمة الله أن يكون نبيُّنا محمدٌ خاتَمُ الأنبياء والمرسلين هو المُبَلِّغُ لها.

أما الدّينُ الحقُّ فواحدٌ، وهو الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: ١٩].

 

وأيَّةُ دعوةٍ لغير الإسلام كاليهودية أو النصرانية مثلاً، فهي مرفوضةٌ، قال تعالى: و{َمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: ٨٥].

 

 فإن قيل: فَلِمَ يحتفظُ الذين يَدَّعون نسبتهم إلى موسى وعيسى عليهما السلام بعقيدة تختلف عن عقيدة التوحيد؟

والجواب قول الله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: ١٩].

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.