المقالة الرابعة من سلسلة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والمحن للشيخ أحمد الأحمد: إرشاد النبي في معالجة محنة حادثة الإفك

يقدم لنا فضيلة الشيخ جواهر إرشادية من سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مستوحاً ومستخلصاً من مواقفه وتعاملاته مع المشركين واليهود والمناقين وغيرهم، ما يعين المسلم في ما اشتد عليه من الفتن والمحن، أينما كان وفي أي زمن كان، فرسالة المصطفى للعالمين، وكذلك ففي سيرته الدروس والتوجيهات النافعة والمفيدة لكل عصر وكل زمان لمن أراد اعتباراً.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛

لما غزا النبي بني المصطلق اصطحب معه السيدة عائشة ولما تم النصر وقفل راجعا نزل في بعض الطريق يريح الجيش وفي آخر الليل أمر الجيش بالتحرك فذهبت عائشة خارج المعسكر تقضي حاجتها وفقدت عقدا لها فأخذت تبحث عنه فلما وجدته رجعت إلى المعسكر فلم تجد داعيا ولا مجيبا فجلست تنتظر فغلبتها عينها وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ [1] مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ، [2] فَأَصْبَحَ عِنْدَ عائشة فعرفها فقال ظعينة رسول الله إنا لله وإنا إليه راجعون فاستيقظت لاسترجاعه فخمرت وجهها فأناخ ناقته فركبت وألحقها بالجيش (فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِها، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ) [3].
أرادوا بذلك أن ينالوا من شخص النبي وأهل بيته الأطهار فلم يتسرع النبي باتخاذ أي قرار قبل أن يتأكد، ولم يشكَّ بنزاهتها، وكان يدخل بيتها وهي مريضة فيسلم عليها، ويطمئن على صحتها.
فلما تأخر عليه الوحي استشار أهل العقل من المقربين فأثنوا عليها خيراً.
وقال علي: (يا رَسُولَ اللَّهِ لم يُضَيِّقْ الله عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ وَسَلْ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ) [4]. ليس شكاً في نزاهة عائشة ولكنْ رأى رسولَ الله مكدوداً حزينا فَرَقَّ له، فقال: ما قال؛ لفرط حبه له؛ ولظنه أنه بهذا يُسَرِّي عن النبي بعضَ ما هو فيه. فاستغل المستشرقون ما أشار به علي؛ فزعموا أن عائشة حقدت عليه؛ وظلت تتربص به حتى حانت الفرصة لما قتل عثمان؛ قادت جيشا لمحاربته في معركة الجمل مع العلم أنه روى البخاري: عن عروة، كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان بن ثابت، وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدَه وعرضي لعـــرض محمد منــكم وقـاء
إذا كانت ترفض أن يشتم حسان، من أجل منافحته بشعره عن النبي، مع العلم أنه شارك في قذفها! وأقيم عليه الحد! فهل يقبل عقلا أن تعرض أرواح آلاف المسلمين للقتل؛ من أجل كلمة قالها علي، وهو الذي قضى حياته دفاعا عن النبي!
وراح النبي يسأل كل من يعرف عائشة عن قرب، فسأل جاريتها بريرة، وجاريته أم أيمن؛ فَأَثْنَيْنَ عليها خيرا. ومن الغريب أنه سأل ضرتها زينب بنت جحش! وهي الوحيدة بين أزواجه التي تنافس عائشة، وبينهما هجران وقطيعة؛ فمن الممكن إن علمت عليها أدنى سوء أن تخبر النبي به؛ لتزيحها من طريقها، فعصمها ورعها (فقالت: حاشا سمعي وَبَصَرِي أَنْ أَكُونَ عَلِمْت أَوْ ظَنَنْت بِهَا قَطّ إلّا خَيْرًا) [5].
من تداعيات حادثة الإفك- التي كادت أن تودي بوحدة المسلمين، وتنشب حربا بين الأوس والخزرج، عندما قال رسول الله على منبره مَنْ يَعْذِرُنِي مِمّنْ يُؤْذِينِي فِي أَهْلِي؟
فَقَال سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سيد الأوس إنْ يَكُ مِنْ الْأَوْسِ آتِك بِرَأْسِهِ. وَإِنْ يَكُ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ فَمُرْنَا بِأَمْرِك نَمْضِي لَك[6].
فَقَال سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ سيد الخزرج كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ، لَا تَقْتُلْهُ وَلَا تَقْدِرْ عَلَى قَتْلِهِ فانحاز الأوس إلى سيدهم وكذلك الخزرج وكادت الحرب تقع.(وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْحَيّيْنِ جَمِيعًا أَنْ اُسْكُتُوا، وَنَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ فَهَدّأَهُمْ وَخَفّضَهُمْ حَتّى انْصَرَفُوا) [7]. ولم يكتف بالفصل بين الناس، ويتركْ القلوب تغلي كالمراجل، بل منحهم فرصة ريثما تهدأ النفوس، ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر من علية قومه، إلى سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثا عنده ساعة، وأكلوا من طعامه ثم أخذ بيد سعدِ بن عبادة، ومعه نفرٌ من علية قومه إلى سعدِ بن معاذ، فتحدثا ساعة، وأصابوا من طعامه وإنما فعل ذلك رسول الله ليذهب ما كان في أنفسهم من ذلك القول الذي تقاولا) [8].
وبعد طول انتظار نزل وحي السماء ببراءة أم المؤمنين الطاهرة العفيفة (فقام رسول الله وهو يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بها أَنْ قال: يا عَائِشَةُ أَمَّا اللهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ …) [9]، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ … الآيات} [النور: ١۱]، (فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ، فَصَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمّ تَلَا عَلَيْهِمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ) [10].
لكن لم تأخر الوحي كل هذه الفترة والوقت يمر على النبي وأهله وآل أبي بكر كالقاعد على الجمر ليكون دليلا على أن الوحي ليس إشراقاً روحياً خاضعاً لإرادته؛ يؤلفه متى شاء كما زعم المستشرقون بل يأتيه من السماء بواسطة ملك خارج عن ذاته؛ إذ لو كان هو الذي يؤلف القرآن، لخلا من الوهلة الأولى بنفسه ساعة وألف في براءة زوجته آيات وتكون المشكلة قبرت في مهدها.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.

 

[1] عرس: الْمُسَافِر أَي نزل وسط رَحْله والتَّعْريسُ نزول القوم في السفر من آخر الليل يَقَعُون فيه وقْعَةً للاستراحة ثم يُنيخون وينامون نومة خفيفة ثم يَثُورون مع انفجار الصبح سائرين. لسان العرب 4/2880
[2] ادَّلَجَ: يُقَال: أدْلج الْقَوْم إِذا سَارُوا من آخر اللَّيْل. وادلج الْقَوْم إِذا قطعُوا اللَّيْل كُله سيرا. جمهرة اللغة 1/ 450
[3] أخرجه البخاري 3910 ومسلم 7120- [56-2770]
[4] البخاري، صحيح البخاري 4/1520 (3910).
[5] الواقدي، المغازي 2/430.
[6] الواقدي، المغازي 2/431.
[7] مغازي الواقدي 2 / 432.
[8] مغازي الواقدي 2/435.
[9] ابن هشام، السيرة النبوية 4/270، والبيهقي، دلائل النبوة 4/74
[10] مغازي الواقدي 2/434