المقالة الثانية من سلسلة يحبنا ونحبه للشيخ أنس الموسى: – “هذا رسول الله”

يقدم لنا فضيلة الشيخ دروساً غنية في الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يشتمل ذلك من معرفة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وسماته، ومعرفة صحابته وما يقدموا لنا من أعلى وأمثل النماذج في حب رسول الله المصطفى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد؛

نحن اليوم مع الحلقة الثانية من حلقات أربع نتحدث فيها عن أسباب جلب محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنبدأ بذكر السبب الأول من أسباب استحضار محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيكون عنوان هذا اللقاء “هذا رسول الله”.

الحقيقة إن الأسباب التي تجلب محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرٌة كثرةَ أحداث سيرته فهناك ارتباط وثيق بين الكلام عن محبة النبي والحديث عن سيرته صلى الله عليه وسلم … ولا أعرف أحدًا تكلم عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال أحكام عقلية بحتة بل يقارن بين معاني محبة النبي، وسيرته صلى الله عليه وسلم، لهذا لو طلبنا محبة النبي صلى الله عليه وسلم فعلينا أن نتعرف سيرته أولًا فكيف يحب المرء من لا يعرفه؟
لهذا السبب وغيره من الأسباب كان عنوان هذه الحلقة “هذا رسول الله”.
حقًا لو عرفنا رسول الله لأحببناه، ولو عرفه المسلمون بحق لأحبوه أكثر، ولو عرفه الشانئون لأحبوه، ولو عرفه الملحدون لأحبوه، والتاريخ شاهد على أن من عرفه من الكفار والملاحدة والمشركين من لدن رسول الله إلى يومنا هذا فقد أحبه.
إن الخصال والشمائل التي تحببنا برسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة لا يحصيها كتاب بله مقال، ولا يزال الكتّاب والمؤلفون يأخذون من سيرة المصطفى شواهد على أسباب محبته صلى الله عليه وسلم.
ولكثرة الكمالات التي اتصف بها رسول الله تجعلنا في حيرة من أين نبدأ، وعن ماذا نتكلم؟
هل نبدأ برحمته صلى الله عليه وسلم؟ أم بأمانته؟ أم بعدله؟ أم بكونه أبًا وزوجًا؟ أم بكونه قائدًا حكيمًا؟ أم بكونه نبيًا أميًا؟ أم بكونه صاحب المقام المحمود؟ أم عن صبره وكده ونصبه في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل؟ أم عن جماله خَلقًا، وخِلقًة؟ أم نتحدث … أم نتحدث … كمالات لا تعد ولا تحصى.

وأحسنَ منك لم تر قط عيني وأجملَ منك لم تلد النساء
خلقت مبرئًا من كل عيٍب كأنما قد خلقت كما تشاء

قيل للقعقاع الأوسي رحمه الله تعالى: قل لنا شيئًا في الجنة يشوقنا إليها، قال: فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حقيقة لو قلّبنا النظر في سيرته صلى الله عليه وسلم سنجد الكمال والسمو في تعاملاته فكمالات خلقه علم من أعلام نبوته.
لقد وهبه الله قلبًا يرق للضعيف ويحن للمسكين ويعطف على الناس أجمعين شفيق رفيق.
جاءه شاب فقال يا رسول الله ائذن لي بالزنا … فاقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه (أي اسكت وتوقف) فقال رسول الله: “ادنه” فدنا منه قريبًا فجلس، فقال له رسول الله: “أتحبه لأمك؟” قال لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”، ثم قال له: “أتحبه لابنتك؟” قال: لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله: “ولا الناس يحبونه لبناتهم” ثم قال له: “أتحبه لأختك؟” قال: لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله: “ولا الناس يحبون لأخواتهم” ثم قال له: “أتحبه لعمتك؟” فقال: لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله: “ولا الناس يحبونه لعماتهم”، ثم قال رسول الله: “أتحبه لخالتك؟” فقال: لا والله جعلني الله فداك، فقال رسول الله: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم” ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه، ثم قال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، حصن فرجه” قال فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [1].
بهذا الأسلوب الهادئ الرفيق في الحوار علم رسول الله الشاب كيف يترك الزنا … لا تعنيف ولا زجر ولا استهزاء ولا توبيخ … كيف لا يكون كذلك وهو الذي قال: “لا يكون الرفق في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه”.
لقد كان رسول الله قدوة للآباء والأزواج والأجداد، قدوة للمعلمين والمربين.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: جاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها رسول الله فقال: “مرحبًا بابنتي” فأجلسها عن يمينه، وكان من عادته إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها وأجلسها مجلسه [2].
كيف لا يفعل هذا وهو الذي علمنا وقال: “من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو” وضم أصابعه [3].
ها هو القائد والحكيم والمعلم عندما وزع الغنائم فأعطى كثيرًا أهل مكة، ولم يعط الأنصار شيئًا؛ فلاحظ رسول الله تغير وجوههم؛ فسألهم رسول الله: “أوجدتم علي في أنفسكم من لعاعة الدنيا أعطيتها لأهل مكة أؤلف قلوبهم وتركتكم لإسلامكم وإيمانكم؟”
ثم قال: “لو شئتم لقلتم جئتنا طريدًا فآويناك، وجئتنا قليلًا فكثرناك، وجئتنا بعيدًا فقربناك” ثم يقول لهم: “يا معشر الأنصار لو سلك الناس واديًا، وسلك الأنصار واديًا لكنت في شِعب الأنصار، يا معاشر الأنصار أما ترضون أن يعود الناس بالشاة، والبعير وتعودوا أنتم، ومعكم رسول الله”؟ فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم [4].
هذا رسول الله …
منزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسم
لقد وصل الحب لرسول الله وبلغ مبلغًا جعل زيد بن حارثة حِب رسول الله يختار العبودية مع البقاء بجانبه على الحرية بعيدًا عنه صلى الله عليه وسلم.
انظر إليه يعيش في بيت النبي خادمًا له – ويا له من شرف – حتى وصل الخبر لوالده أنه عند رسول الله؛ فجاء والده وطلب من رسول الله أن يرده له.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد: “إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك” … فقال زيد: بل أقيم عندك [5].
لقد أسر رسول الله قلب زيد حتى آثر قرب رسول الله على أهله وعشيرته.
كيف لا يحبه العبيد وهو الذي قال: “من لطم مملوكًا فكفارته أن يعتقه” [6].
كيف لا يحبه العبيد وهو الذي قال عندما سأله رجل كم نعفو عن الخادم يا رسول الله؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة قال: “اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة” [7].
هذا هو رسول الله …
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له حدٌّ فيعرب عنه ناطق بفم
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وحب عمل صالح يقربنا إلى حبك يا رب العالمين.
آمين آمين آمين … وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] مسند أحمد برقم22211
[2] صحيح مسلم برقم99 باب فضائل فاطمة
[3] مسلم برقم 2631
[4] مسند أحمد برقم 12730
[5] معجم الطبراني الكبير برقم 4615
[6] مسلم برقم 1657
[7] سنن أبي داوود برقم 5164