المقالة الثانية من سلسلة فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: كيف كتبت السيرة النبوية وكيف يجب فهمها؟

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

لئن كان الله سبحانه قد كلف بني إسرائيل بأمانة الحفاظ على الكتب المُنْزَلَةِ إليهم، فنسوا وكتموا، وحرَّفوا، وأضافوا إليها ما ليس منها؛ فقد تكفل هو نفسُه بحفظ القرآن، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: ٩]. والسنةُ النبويةُ والسيرةُ هما المفتاح الأول لفهم كتاب الله، وتوضيحِ مجملاتِه؛ فإن ضاعا، ضاع القرآن معهما؛ لذلك ألهم الله علماءَ الإسلام ضرورةَ تدوينِ سنة النبي وسيرتِه على نحوٍ لا يشوبُه وهمٌ، ولا يتسلل إليه خلطٌ أو افتراءٌ.

فنهض بهم ذلك الإلهامُ إلى تحمل أقسى الجُهْدِ؛ لوضع منهجٍ علميٍ تُحَصَّنُ فيه حقائق السيرة، والسنةِ النبويةِ المطهرةِ. فوضعوا قواعدَ مصطلح الحديث، وعلمَ الجرح والتعديل، وتراجِمَ الرجال؛ للتحقق من رواية الأخبار؛ مما بهر عقول العلماء. فبدأت كتابة السنة في حياة رسول الله بإذن منه؛ عندما اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن، والحديث النبوي. وجاءت السيرة النبوية التي تَعْنِي كتابةَ حياةِ رسول الله ومغازِيهِ، بعضُها في كتاب الله وفي سنة رسوله، وأكثرُها في كتب المؤلفين في السيرة.

ضِمْنَ هذه القواعدِ العلميةِ آنفةِ الذكر، وصلت إلينا سيرةُ المصطفى صلّى الله عليه وسلم، بَدءاً من نَسَبِهِ وولادته، وانتهاءً بوفاته، لم يُغادَرْ منها شاردةٌ، ولا واردةٌ. لكن ظهرت في القرن التاسعَ عشرَ طرائقُ كثيرةٌ متنوعةٌ في كتابة التاريخ وتدوينِه، وقد تلاقى معظمُ هذه المذاهبِ فيما أُطْلِقَ عليه اسمُ (المذهبُ الذاتي). ولا يرى أقطاب هذا المذهبِ من ضيرٍ في أن يقحم المؤرخ نزعته الذاتيةَ، أو اتجاهَه الفكريَ، أو الدينيَ، أو السياسيَ، في تفسير الأحداث وتعليلها، والحُكْمِ على أبطالها.

وقد سار على هذا المذهب طائفة من الباحثين من علماء الأزهر في كتابة السيرة وطريقةِ تحليلِها، ممن أخذوا على عاتقهم التزام ما يسمى (بالإصلاح الديني)؛ بسبب انبهارهم بالنهضة العجيبة، التي نهضها الغرب في شتى المجالات الفكرية، والعلمية، والحضارية! إلى جانب ما انتاب المسلمين من الضيعة والتخلف؛ فظنوا أن الغرب لم يتحرر من أغلاله إلا يومَ أَخْضَعَ الدين لمقاييس العلم.

إذاً فليلحقوا بركبهم، وليتخلصوا من سائر الغيبيات التي لا تخضع لمقاييس العلم بزعمهم، ولا تدخل تحت سلطان تجربة الإنسان ومشاهدته. واعتمادا على هذه الطريقة أخذ هؤلاءِ الكتابُ يَستَبْعدون، أو يؤولون كل ما قد يخالف المألوف من الخوارق والمعجزات، من سيرته صلّى الله عليه وسلم.

فأولوا طَيْرَ الأبابيلِ بالميكروبات، والإسراءَ بسياحةِ الروح في عالَمِ الرُّؤَى، والملائكةَ الذين قاتلوا مع المسلمين يوم بدر بالدَّعم المعنوي. وهذا بلا ريب ينسف العقيدةَ الإسلاميةَ من جذورها. ولكنْ سُرعانَ ما انجابت الغاشيةُ أمام أبصار الجيل الواعي المثقفِ اليوم؛ فانطلق يتعامل مع حقيقة العلم وجوهره، بعد أولئك الذين أخذوا بألفاظه، وانخدعوا بشعاراته، فأيقنوا ببصيرةِ الباحث العليم، بأن المعجزات لا تتنافى مع موازين العلم؛ لأن العلاقة بين الأسباب ومسبباتها ليست إلا علاقةَ اقتران مطرد، وأن الفاعل الحقيقي هو الله يفعل بمقارنة الأسباب لا بها؛ فالنار لا تخلق الحرق، بل الله هو خالق الحرقِ بمقارنة النار، لا بها.

 وقد بالغ علماء الإسلام- وعلى رأسهم حجة الإسلام الغزالي- في شرح هذه المسألة، والتدليل عليها، وجاءت تجربة العالم الروسي بافلوف في رد الفعل الشرطي المنعكس مؤكدة صحة ما ذهب إليه علماء الإسلام. وبناء عليه أصبحت مدرسة الإصلاح الديني من المنسيات، بل من سقط المتاع. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.