المقالة الثانية من سلسلة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والمحن للشيخ أحمد الأحمد: إرشاد النبي في فتن ومحن اليهود

يقدم لنا فضيلة الشيخ جواهر إرشادية من سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مستوحاً ومستخلصاً من مواقفه وتعاملاته مع المشركين واليهود والمناقين وغيرهم، ما يعين المسلم في ما اشتد عليه من الفتن والمحن، أينما كان وفي أي زمن كان، فرسالة المصطفى للعالمين، وكذلك ففي سيرته الدروس والتوجيهات النافعة والمفيدة لكل عصر وكل زمان لمن أراد اعتباراً.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛

هاجر النبي إلى المدينة، فوجد فيها قبائل يهودية، فلم يعاملهم بسياسة الإقصاء، ومصادرة الحريات، بل تعهد لهم بكل الحقوق، كحقِّ الحياة، وحقِّ اختيار الدين، وحقِّ التّملّك … إلخ وكان يستميل قلوبهم؛ فيعود مرضاهم، ويعزي بموتاهم.
وكتب بينه وبينهم معاهدة فحواها يدور: على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، ومنع موالاة المشركين، وتحريم تقديم أي عون لهم، والدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو … [1]
كان يمكن لهذه المعاهدة أن تؤتي ثمارها، لو صدق اليهود بالوفاء ببنودها، لكن ما إن دخل العرب في الإسلام، وأخذت الحزازات القديمة تتلاشى، وبدا أن الإسلام سوف يصنع من العرب أمة واحدة، أحس اليهود بالخطر، فشرعوا يكيدون لهذا الدين, ويمكرون بأهله، وبعثوا الأحقاد القديمة بين الأوس والخزرج.
مر شأس اليهودي على نفر من الأوس والخزرج، فغاظه ما رأى من أُلْفَتِهِم، وصلاح ذات بينهم، بعد الذي كان بينهم من العداوة والشر، فأمر فتى من اليهود أن يعمد إليهم، ويُنشِدَهم بعض أشعارهم التي قالوها في حروبهم، فغلى الدم في عروقهم، واستيقظت نعرة الجاهلية، وأعادوها جذعة، وتواعدوا على الحرب يوم غد في الحرة. (فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: يا معشرَ المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به …) [2].
ولولا أن رسول الله تلافى الأمر بسرعة، فجمع الشمل، ورأب الصدع بكلماته المؤثرة؛ لحصل بينهم شر لا يعلم مداه إلا الله.
وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية، كلهم شاركوا في المعاهدة آنفة الذكر، والجميع نقضوها بطرق مختلفة.
فأما بنو قينقاع فنقضوها بطريقة تناهت خسة ودناءة، حين أَتَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى صَائِغٍ مِنْهُمْ لِيَصُوغَ لَهَا حُلِيًّا, فَلَمَّا جَلَسَتْ عِنْدَ الصَّائِغِ عَمَدَ إِلَى بَعْضِ حَدَائِدِهِ فَشَدَّ بِهِ أَسْفَلَ ذَيْلِهَا وَجَيْبَهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ، فَلَمَّا قَامَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ فِي سُوقِهِمْ نَظَرُوا إِلَيْهَا مُنْكَشِفَةً فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ مِنْهَا وَيَسْخَرُونَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَابَذَهُمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ [3] فأجلاهم إلى أذرعات في الشام وأخذ الأموال والسلاح.
وأما بنو النضير، فحاولوا اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج إليهم؛ يستعين بهم في دية قتيلين من بني عامر؛ كما تنص المعاهدة فكلفوا أحدهم بإلقاء صخرة عليه، فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء، فقام مسرعا إلى المدينة، فأرسل إليهم إنذارا بالجلاء، فأبوا فأمر بقطع نخيلهم (وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالأْموَالِ إِلَّا الْحَلْقَةَ) [4]. فرحلوا إلى خيبر.
ولا يصح أن يقال قطع الشجر فساد في الأرض؛ لأنه قد توجبه ضرورةٌ حربية لا مناص منها؛ علما أنهم ما فعلوا ذلك إلا بإذن الله. قال تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) [الحشر: ٥].
فهل اعتبر اليهود بما أصابهم فرجعوا إلى رشدهم، وتابوا عن الغدر والمكر؟ لا؛ لأن الغدر والمكر متأصل فيهم.
قام أحبار اليهود بجمع عشرة آلاف مقاتل من قريش وغطفان الذين أعطوهم ثمار المدينة لعام كامل لغزو المسلمين [5] وطارت الأخبار إلى النبي، فحفر الخندق، وقاوم المسلمون المشركين من ورائه. وفي هذه الأزمة نقضت بنو قريظة عهدهم.
فاشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف. قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب: ١۰-١١].
ومن عجائب قدر الله أنه لا منحة إلا بعد محنة، ولا نصر إلا بعد شدة. وبدأت بشائر النصر تظهر! فهذا نعيم بن مسعود الغطفاني تسوقه الأقدار في الوقت المناسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأعلن إسلامه (فقال: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أنت فينا رجلٌ واحدٌ، فخذل عنا إن استطعت [6] ( فإن الحرب خدعة). [7] فاستطاع نعيم بدهائه أن يزرع بذور الشك بينهم؛ فكسر شوكتهم، وفل عزمهم.
ودعا رسول الله على الأحزاب! فاستجاب الله دعاءه؛ فأرسل عليهم ريحا صرصرا، وقذف في قلوبهم الرعب، فانهزموا وانقلبوا صاغرين، وانطلق رسول الله بجند الله إلى بني قريظة، فضرب عليهم حصارا خانقا، فقبلوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، (فحكم بِأَنْ يُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصَابَ الْحُكْمَ) [8]
وصدق رسول الله (ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم) [9] وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم كانوا يظلمون. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] أبو أحمد حميد بن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الخرساني المعروف بابن زنجويه، الأموال، رقم، (750)، سيرة ابن هشام (3/34).
[2] الطبري، في التفسير، (7524).
[3] السنن الكبرى للبيهقي (9/337).
[4] مصنف عبد الرزاق (9732).
[5] المغازي للواقدي (1/174).
[6] محب الدين ابن النجار الدرة اليتيمة في أخبار المدينة(1/80).
[7] البخاري، في الصحيح، (3415)، ومسلم، في الصحيح، (154 – 1066).
[8] عبد الرزاق، المصنف، (9737).
[9] الطبراني، المعجم الكبير (10992). البيهقي، شعب الإيمان، (3039).