المقالة الثامنة من سلسلة فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: تجارة النبي بمال خديجة وزواجه منها

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

كانت السيدة خديجة مثلا في الجمال، وطهارةِ النفس، وكانت وافرة الثراء، تستأجر من تثق به؛ لِيَتَّجِرَ لها بمالها وكانت تَعْرِفُ في محمد صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة، فلما اكتمل شبابه، رغبت في أن يسافر بتجارتها إلى الشام، وله ضعف ما تعطي غيره، فاستجاب، ولما وصلت القافلة إلى الشام، باع بضاعته، فربح ربحا عظيما، واشترى بضاعة من الشام، فباعتها خديجة في مكة، فبارك الله لها، وربحت ضعف ما كانت تربح، واعتادت عندما تدفع للأجير أجرته يتملق ويطلب المزيد ويشكو الحاجة أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أخذ أجرته بعزة نفس شاكرا راضيا، فامتلأ قلبها إعجابا به، وجاء ميسرة يحدثها عما شاهده من حسن خلقه، وكرم صحبته، وعظم أمانته، فرجت أن يكون لها بعلا، فعرضت نفسها عليه بواسطة صديقتها نفيسة فوافق، وكلم أعمامه فخطبوها له وتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاما ولها من العمر أربعون.

فغمرته بحنانها، وملأت حياته سعادة، وواسته بمالها فلما بعثه الله نبيا كانت أول من صدقته وآمنت به، وشدت من أزره.

أول ما يدركه الإنسان من هذا الزواج الميمون عدم اهتمام الرسول بأسباب المتعة الجسدية، فلو كان مهتما بذلك لطمع بمن هي دونه سنا، أو بمن ليست أكبرَ منه على أقل تقدير.

وهذا يرد على الموتورين من المبشرين والمستشرقين وأذنابهم زعمهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهوانيًّا مِزواجًا، غارقا في لذات الجسد، ينساقُ وراءَ شهوته الجامحة؛ لإرواء غرائزه الجنسية. كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا    

ولنفترض جدلا أن النبي تزوج لإشباع رغبة طبيعية فيه، فما المشكلة في ذلك؟ فهل الفحولة في الرجل عيب؟

ثم ما العيب في أن يعدد الرجل الزوجات؛ ما دام هذا الزواج أمرًا مستساغًا لا يخالف دينا صحيحا، ولا عرفا سائدا، وفي الوقت ذاته يجد الرجل فيه استقرارَ العاطفة، وطمأنينةَ النفس، وتجد المرأة من يعفها، ويحميها، ويتكفل بنفقاتها.

والمتتبعُ لسيرة النبي يجده قضى شرخ الشباب، وميعة الصبا عفيفا طاهرا نزيها، لم يتدنس بشهوة مما غرق به الشباب من حوله.

ولو كان شهوانيا لَمَا تزوج أَيِّماً تَكْبُرُهُ بخمسةَ عشرَ عاما، وقد تزوجت قبله مرتين، وعاش معها حتى جاوز الخمسين ولم يعدد الزوجات، فلَمَّا ماتت مكث سنتين ولم يتزوج، ولَمَّا تزوج اختار أرملة كبيرة السن!

ثم هل يعد شهوانيا من حُبِّبَ إليه الخلوةُ في غار حراء، يقضي فيه الليالي ذوات العدد، بعيدا عن زوجته الحبيبة حتى اختاره الله لرسالته.

هل يعتبر شهوانيا من اشتهر بالزهد، فكان يمر عليه الشهر والشهران دون أن توقد نار في بيوته التسعة، ليس لهم طعام إلا الأسودان التمر والماء؟

هل يعد شهوانيا من اشتهر بالعبادة، فكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه؟ وكان يصوم حتى لا يكاد يفطر؟

هل يعد شهوانيا من كان كثيرَ البكاء، متواصلَ الأحزان، دائمَ التفكير بنشر نور الإسلام في ربوع الأرض؟

وربما يقول قائل لماذا يجوز لمحمد أن يجمع بين تسع زوجات، بينما لا يسمح بمثله لأمته؟ الجواب إن الله أباح لنبيه معدودات تسعة، بمعنى أنه لو مِتْنَ أو طُلِّقْنَ لا يحل له غيرُهن بينما أباح لأمته عَدَدَ أربعة، فإن طلقن فللزوج أن يتزوج بأربع أخريات. وبهذا يكون قد ضُيِّقَ على محمد صلى الله عليه وسلم وُوِّسَع على أمته. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.