المقالة الثامنة عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: أول وفد إلى رسول الله

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

في الوقت الذي كان فيه النبيُّ وأصحابُه يلاقون من قريش شتى ألوان العذاب، تسوق الأقدار إلى رسول الله قريباً من عشرين رجلاً من الحبشة، يسألونه عن الإسلام … فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: خَيَّبَكُمُ اللهُ مِنْ رَكْبٍ: بَعَثَكُمْ مَنْ وراكم مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ، فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ فَلَمْ نَطْمَئِن مَجَالِسَكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُمْ، فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا نَأْلُوا أَنْفُسَنَا خَيْرًا. [1]

نستفيد من خبرِ هذا الوفدِ الذي جاء من وراء البحر أموراً عدة:

أولاً: عالمية الرسالة المحمدية: قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) [2]. وقال رَسُول اللهِ: “فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ.” [3]

ثانياً: شُحِنَتْ كُتُبُ السيرة والتاريخ بالمبشرات بظهور النبي الخاتم وكان مصدرها علماء أهل الكتاب. تذكر اسمَه وصفاتِه ومهامَّه، وعالميةَ رسالته.

قال كاهن عَمُّورِيَّة: لسلمان الفارسي قد أظلك خروج نبي يخرج بأرض العرب، يُبْعَثُ بدين إبراهيم الحنفية، يكون منها مهاجره وقراره إلى أرض يكون بها النخل بين حرتين ، بظهره خاتم النبوة بين كتفيه، إذا رأيته عرفته، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. [4]

ولكثرة الصفات التي ذكرت في التوراة والإنجيل، كان أهل الكتاب يعرفونه دون أن يسألوا عنه أحداً؛ فبحيرا الراهب حين رآه عرفه، فقال لعمه أبي طالب: ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إِلَى بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَوَاللهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ لَيَبْغُنَّهُ شَرًّا، فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ، فَأَسْرِعْ بِهِ إِلَى بِلَادِهِ. [5]

وقال عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ: قَدِمْتُ بِرَقِيقٍ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ أَعْطَانِيهِمْ، فَقَالُوا لِي: يَا عَمْرُو، لَوْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ، لَعَرَفْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخْبِرَنَا، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ أَهُوَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَمَرَّ عمر فَقلت: أهوَ هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَدَخَلْنَا الدَّارَ، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ فَنَادَوْنِي: يَا عَمْرُو، هَذَا رَسُولُ اللَّه. فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ هُوَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهِ أَحَدٌ، عَرَفُوهُ بِمَا كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. [6]

وهذا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا، من أعلم اليهود بالتوراة، سأله النبي: (أَتَعْلَمُنِي رَسُولَ اللَّهِ؟) قَالَ: “اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ، وَإِنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوكُ.” [7]

قال الله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.) [8]

ثالثاً: إن قدوم هذا الوفدِ لِلِقَاءِ رسولِ الله، والتعرف على الإسلام في هذا الوقت بالذات، والمسلمون يعانون من المشركين أشد أنواع العذاب والأذى، لَدَلَالَةٌ باهرةٌ على أن المتاعب والمعاناة لابد منها لتحقيق النصر، ودلالةٌ على أن أعداء الدعوة الإسلامية مهما حاولوا، لن يستطيعوا أن يمنعوها من تحقيق أهدافها، وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

____________________________

[1]] دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص306.

[2] سورة سبأ / 28.

[3] رواه مسلم /523.

[4] السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، لابن حبان، ج1، ص245.

[5] دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص29.

[6] السيرة النبوية لابن كثير، ج1، ص332.

[7] السيرة النبوية لابن كثير، ج1، ص324.

[8] سورة البقرة، آية 14.