المقالة الثالثة من سلسلة يحبنا ونحبه للشيخ أنس الموسى: – “هؤلاء هم أصحابه”

يقدم لنا فضيلة الشيخ دروساً غنية في الأسباب الجالبة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يشتمل ذلك من معرفة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وأخلاقه وسماته، ومعرفة صحابته وما يقدموا لنا من أعلى وأمثل النماذج في حب رسول الله المصطفى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

هذه هي الحلقة الثالثة من حلقات تتعلق باستجلاب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، نتحدث فيها عن أنموذج فريد من المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت محبة النبي واستحضارها لها صلة وثيقة بمعرفته صلى الله عليه وسلم ومعرفة سيرته، فإن استعراضًا سريعًا لبعض فصول سير أصحابه لا تقل أهمية في كونها سببا لاستجلاب تلك المحبة.
نتعرف على هذا الرعيل الرباني المحمدي الذي أحب رسول الله حتى الممات، نتعرف من بعض فصول سيرهم كيف أحبوه ولماذا أحبوه وما هي مظاهر هذا الحب وهل كانت هذه المحبة حكرًا على الرجال فقط أم يشترك فيها الرجال والنساء والغلمان؟
لهذا أسمينا هذا اللقاء: هؤلاء هم أصحابه.
نقول وبالله التوفيق: يقول علماء النفس: إن في داخل كل إنسانٍ إنسانًا …
حقًا لقد أضاف أصحاب رسول الله إلى إنسانهم إنسانًا آخر هو إنسان رسول الله، بل إن بعضهم استبدل إنسانه بإنسان رسول الله.
إن رسول الله لم يلق إليه كنز، ولم تكن له جنة يأكل منها، ولم يكن له قصور يسكنها … ومع ذلك أقبل إليه أصحابه يبايعونه رجالًا ونساءً، أحراًر وعبيدًا على شظف العيش مستضعفين يخافون تخطف الناس لهم.
أحبوه حبًا يعجز الواصف عن وصفه … لقد رخصت في سبيل نفسه نفوسهم … لقد رأوه أغلى من الأهل والزوج والولد.
ها هي السمراء بنت قيس الأنصارية رضي الله عنها أُخبرت بعد غزوة أحد أن زوجها قتل، وأن أباها قتل، وأن أخاها قتل فقالت: ما فعل رسول الله؟ قالوا: خيرًا هو بحمد الله كما تحبين، قالت أرونيه حتى أنظر إليه: فلما رأته قالت كل مصيبة بعد جلل يا رسول الله [1].
ما همَّها مقتل أبيها وزوجها وأخيها قدر ما همَّها سلامة رسول الله … هذا هو الهم الذي يؤرقها.
هؤلاء هم أصحابه …
وهذا خبيب بن عدي يقف على منصة الإعدام وقد تجمع حوله المشركون ينظرون إلى مُثْلة الإعدام. وهنا يسأله أبو سفيان: يا خبيب أيسرك أن يكون محمد في موطنك الذي أنت فيه الآن، وأنت في أهلك معافى؟ فقال: والله ما يسرني أن يكون رسول الله في موطنه الذي هو فيه الآن وتصيبه شوكة تؤذيه وأنا في أهل معافى [2].
ثم يقول أبو سفيان قولته: والله ما رأيت احدًا يحب أحدًا كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمدًا. ثم يموت خبيب بين طعنات الرماح وضربات السيوف وأبى عند الموت إلا أن يكون محبًا لرسول الله.
هؤلاء هم أصحابه …
رجال اشتروا الدنيا بالآخرة آثروا الله ورسوله على ما سواهما، سحبوا على الرمضاء وحبسوا في العراء تحت الشمس الملتهبة مكبلين مقيدين ليكون فكاكهم من العذاب النيل من رسول الله، لكنهم يأبون هذا ويفضلون الموت على أن تخرج من أفواههم كلمة تنال من رسول الله.
ها هي الأسرة الياسرية أول أسرة دخلت الإسلام بكل أفرادها – ياسر وابنه عمار وأمه سمية بنت خياط – يسومها المشركون سوء العذاب ويسقوهم الويل أصنافًا، وكان رسول الله يمر بهم وهو الشفيق الرفيق يقول لهم: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة” فكانت كلماته تنزل على قلوب هؤلاء المحبين المعذبين بردًا وسلامًا [3].
ثم أحيل ملف تعذيب الأسرة الياسرية لأبي جهل بما فيه من الغلظة والجفاء. لكن سمية بنت خياط أذلت وقهرت بإيمانها وثباتها على الحق وحبها لرسول الله جبروت أبي جهل وصلفه وغروره؛ فحمل أبو جهل حربته وغرسها في موطن عفتها؛ فسقطت أول شهيدة في الإسلام مكبلة مقيدة مُحِبَة لرسول الله بين زوجها وابنها المقيدين أيضا.
لقد أحبوا رسول الله وبايعوه فأبوا أن يقيلوا أو يستقيلوا البيعة التي بايعوا عليها رسول الله فكانوا آية في الصمود واليقين والثبات على العقيدة، قدمهم رسول الله للموت فكانوا يتقدمون إليه كأنما في نزهة، لا يبالون أسقطوا على الموت أم سقط الموت عليهم.
هذا رسول الله في أحد وقد تكاثر حوله المشركون فكانت تلك الصيحة من رسول الله: “من يردهم عنا وله الجنة” [4] فتقدم سبعة رجال سمعوا هيعة رسول الله للذود عنه فقتلوا وحدا بعد الآخر، تسابقوا في أشرف ميدان هو ميدان الدفاع عن رسول الله، شعارهم:
إني لأرخص دون نفسك مهجتي روح تروح ولا يمس حماكا
روحي وأبنائي وأهلي كلهم وجميع ما حوت الحياة فداكا
وها هو سعد بن الربيع يرسل رسالة إلى قومه وهو في الرمق الأخير يودع الحياة يقول لهم: لا عذر لكم إن خُلِصَ إلى رسول الله وفيكم عين تطرف. ثم يرسل رسالة أخرى لحبيبه يقول فيها: جزاك الله خير ما جزى نبيًا عن أمته [5].
هؤلاء هم أصحابه …
أحبوا رسول الله كما قال أنس بن مالك: كان رسول الله يقبل وما على الأرض شخص أحب إلينا منه [6].
أحبوه صغارًا أيضًا.
يقول عبد الرحمن بن عوف إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة سنهما … فغمزني أحدهما وقال: يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، وغمزني الأخر فقال لي مثل ما قال الأول. فدل عبد الرحمن بن عوف الغلامين على أبي جهل فسارعا إليه وابتدراه بسيفيها فضرباه وصرعاه [7].
هكذا كان الغلمان … كيف يرضى الفتيان أن يسب رسول الله حبيبهما ومن تربيا على حبه؟
هؤلاء هم أصحابه …
لقد أحبوه لأنه حبَّبَهم إلى الله وحبَّب الله إليهم، أمرهم بمكارم الأخلاق وصلة الأرحام، أطفأ من أرواحهم حب الثأر والانتقام فهدأت نفوسهم واطمأنت أرواحهم فهؤلاء هم أصحابه.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم ووفقنا اللهم لحبهما … آمين آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
صل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

[1] البيهقي في دلائل النبوة (3/301)
[2] البخاري كتاب المغازي3989 والطبراني برقم 5284
[3] حلية الأولياء وطبقات الاصفياء
[4] مسلم برقم 1789
[5] موطأ مالك باب الترغيب بالجهاد برقم (1691) الجهاد لابن المبارك 93
[6] مسند أحمد برقم 12526
[7] صحيح البخاري برقم 3141