المقالة الثالثة من سلسلة فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: سرّ اختيار الجزيرة العربيّة مهدا لنشأة الإسلام

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.

لبيان الحكمة الإلهية في اختيار شبه الجزيرة العربية؛ لتكون مهدا لنشأة الدعوة الإسلامية، وعلى يد العرب دون سواهم – ينبغي أن نعلم خصائص كلٍ من العرب وغيرِ العرب ممن كانوا يعيشون حولهم.

ففارسُ كانت نهباً لوساوسَ دينيةٍ فلسفية؛ حيث يبيحون نكاح المحارم، وهذا تنكره الفطرة السليمة، والأخلاق الكريمة.

ويعتبرون الناسَ شركاءَ في المال والنساء كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ.

وزرعوا في قلوب رعاياهم أن في عروق الأكاسرة تجري دماءُ الآلهة؛ فقدسوهم.

 والرومان عم الفساد عندهم كل شيء؛ فالزواج أصبح شبه مستحيل بسبب تكاليفه الباهضة، فشاع فيهم الزنا، واختلطت الأنساب.

وأصبحت الرشوة أصلاً في التعامل مع موظفي الدولة، فلا تنجز معاملة بلا رِشوة،

وأثقلت الضرائب الضخمة كاهل الفقراء قبل الأغنياء.

والأمراء يتمتعون برؤية الأسد وهو يأكل العبد بعد صراع في داخل قفص حديدي.

وأما الهنود فيعبدون كل شيء الجبالَ، والأنهارَ، والمعادنَ، وآلاتِ الحربِ، والكتابةِ، والنجومَ، والفئرانَ، والبقرَ.

وعمت الشهوة الجنسية الجامحة البلاد؛ فالكهان يرتكبون أبشع الفواحش في المعابد، ويتقربون بذلك إلى الآلهة.

والنساء بمنزلة الإماء، وقد يكون للمرأة أكثرُ من زوج.

وقَسَّمُوا الشعب إلى طبقات: أعلاها طَبَقَةُ البراهمة: وهم الكهنة والحكام.

وأدناها طبقةُ شودرا، وتشمل أكثر من تسعين بالمائة من الشعب وتعتبر أحطَّ من البهائم والكلاب، وعليهم أن يخدموا البراهمة بلا أجرة.

واليونان فقد كانت غارقةً في خرافاتها وأساطيرها الكلامية

وأما جزيرة العرب: فكانت هادئةً منعزلةً عن مظاهر هذه الاضطرابات كُلِّهَا؛ فلم يكن لدى أهلها من الترف والمدنية الفارسية ما يجعلهم يتفننون في خلق وسائلِ الانحلال، وفلسفةِ مظاهرِ الإباحية، ووضْعِهَا في قوالبَ من الدين، ولم يكن لديهم القوةُ العسكريةُ الرومانية لقهر وإذلال الشعوب، ولم يؤتوا من ترف الفلسفة والجدل اليوناني ما يجعلهم فريسة للأساطير والخرافات.

كانوا مجبولين على الفطرة، ومكارم الأخلاق، كالوفاء، والنجدة، والشجاعة، والكرم، والإباء، والعفوِ عند المقدرة.

يعظمون الأشهر الحرم والبيت الحرام؛ فيحرصون على بنائه بالمال الحلال، حتى قُطَّاعُ الطرق لا يتعرضون لهداياه بسوء، ويبالغون في إكرام الضيف.

غيرَ أن هذه الصفاتِ النبيلةَ التي كانوا يتواصون بها يشوبها شيء من الزغل أحيانا، بسبب عدم وجود من يعلمهم.

فكانوا يسطون على أموال الأغنياء ليعطوها الفقراء، ويدخلون لعبة الميسر ليمنح الفائز ما يربح للمعوزين، ويئدون بناتِهم بدافع الشرف، ويُتْلِفُون أموالهم الضرورية بدافع الكرم، وينشبون الحروب الطاحنة لنجدة المستجير، ويطوفون بالبيت عراة لعدم وجود ثياب لم يعصوا الله فيها؛ ولعل آية (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [سورة البقرة 2/ 198] تدل على الاعتذار لهم أكثرَ من أن تدل على تسفيههم، أو تعييرهم بها؛ لأن الحامل لهم على ذلك محض الجهل.

بينما كانت الشعوب المتحضرة تحدوهم إلى تلك المفاسد الفظيعة مشاعلُ الحضارة والمدنية والثقافة؛ فيفعلون ما يفعلون عن تَبَصُّرٍ، وتخطيطٍ، وفكر.

فشاء الله بحكمته الباهرة أن يختار من العرب الأميين الذين لا يعرفون الحضارة والفلسفة والمناهج المعقدة – نبياً أمياً لم يطلع على الكتب القديمة، وتاريخِ الأمم البائدة، وحضاراتِ الشعوب؛ حتى لا يظن ظان أن سلسلةُ التجارِبِ الحضاريةِ، والأفكارِ الفلسفيةِ، أَبْدَعَتْ أخيراً هذه الحضارةَ الإسلامية الفذةَ والتشريعَ المتكامل.

وتَوَسُّطُ جزيرةِ العربِ بين تلك الحضارات يُسَهِّلُ انتشارَ الدعوة بينهم.

وما تمتاز به اللغة العربية عن غيرها من خصائصَ تُخَوِّلُها الحكمةُ الإلهيةُ أن تكون وعاء للقرآن الذي سيكون المعجزةَ الخالدةَ في بلاغته متحدياً بها البشرَ إلى يوم الدين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.