المقالة الثالثة من سلسلة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والمحن للشيخ أحمد الأحمد: إرشاد النبي في فتن ومحن المنافقين

يقدم لنا فضيلة الشيخ جواهر إرشادية من سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مستوحاً ومستخلصاً من مواقفه وتعاملاته مع المشركين واليهود والمناقين وغيرهم، ما يعين المسلم في ما اشتد عليه من الفتن والمحن، أينما كان وفي أي زمن كان، فرسالة المصطفى للعالمين، وكذلك ففي سيرته الدروس والتوجيهات النافعة والمفيدة لكل عصر وكل زمان لمن أراد اعتباراً.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

إن مما يشرف الإنسان أن يكون رسولُ الله قدوةً له في كل شيء؛ لأنه الإنسان الكامل.
حين هم يهود بني النضير بقتل النبي، ناقضين بذلك عهدهم، منحهم النبي عشرة أيام؛ ليرحلوا، فقبلوا وأخذوا يتجهزون، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول، سيد المنافقين: لا تخرجوا؛ فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ، يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ، حَتّى أرسلوا للنبي لن نرحل، واصنع ما بدا لك [1]. ونزل في هذا قرآن، ومع ذلك عفا عنه النبي.
ومن مواقفهم المخزية حين خرج المسلمون إلى أُحُد، وعددهم ألف رجل والمشركون ثلاثة آلاف، وعندما تراءى الجمعان، وصارا وجها لوجه، انسحب ابن أبي بثلث الجيش من الميدان بحجج واهية؛ فرفع بذلك معنويات المشركين، وفت في عضد المسلمين، ولم يعاتبه النبي.
ولما قفل الرسول راجعا من غزوة بني المصطلق، ونزل على ماء ازدحم أنصاري ومهاجري على الماء، فكسع المهاجري الأنصاري برجله على مؤخرته، فتعاركا، فنادى الأنصاري يا للأنصار! ونادى المهاجري يا للمهاجرين! يقول زيد بن أرقم: فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبي بن سَلُولَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ، حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَقَالَ: لَئِنْ رجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَأَخْبَرَ به النبي، فأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ.
فمَشَى بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمْ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا [2]. ومن عظيم حكمة النبي أنه أمر بالرحيل فوراً قبل أن يستفحل الأمر، وسار بالناس؛ لتطويق المشكلة والحد من تداعياتها.
وفي رواية أن النبي قال لزيد يا غلام، لعلك غضبت عليه؟ قال: لا واللَّه، لقد سمعت منه. قال: لعله أخطأ سمعك؟ قال: لا يا نبي اللَّه. قال: فلعله شبه عليك؟ قال: لا واللَّه لقد سمعت منه يا رسول اللَّه [3].
تَظْهَرُ حكمةُ النبي في عدم التسرع حتى يتأكد من صحة النقل قبل أن يتبنى هذا القول ويبني عليه؛ إذ يمكن أن يكونَ الناقلُ مغرضاً أو صاحبَ هوى؛ ويمكن أن يكونَ ناقله غيرَ دقيق في نقله؛ أو يكونَ فَهِمَ الكلامَ على غير وجهه.
فما أحرانا أن نتأسى برسول الله! فنتريث عندما تُنقَلُ إلينا الأخبار السيئة، سيما والعدالة في زماننا مخرومة. فكم من دم سُفِكَ! وكم من إنسان ظُلِمَ؛ بسبب التسرع.
ولما كانت الدعوة الإسلامية لا يقوى عودها، ولا تصبح عصية على من يريد النيل منها إلا بالمال والإيواء والنصرة- كان كلام ابن أبي بقطع هذه الشرايين خطيراً للغاية؛ لذا استدعى النبي ابن أبي وأصحابَه، وسألهم عما قالوا، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ اللهِ.
ولا يعني هذا أن النبي خدع، ومرت الكذبة عليه، بل تأليفا لقلوبهم قَبِلَ حلفهم.
ونزل القرآن يكذبهم، فقال: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا)، وقال: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: ٧-٨].
ولا شك أن النبي كان مكظوما جدا؛ لأن ابن أبي لا يستبعد أن يكون قد قال هذا الكلام، ولكن سَرَّى عنه بعضَ ما هو فيه مجيءُ ابنه عبد الله، وكان صادقا في إيمانه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ؛ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْك رَأسه! فقال بَلْ نَتَرَفَّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا [4].
قد يظن ظان أن عبد الله يمثل على الرسول، لا والله؛ بدليل أنه قال لأبيه عندما أراد دخول المدينة وراءَك. قال: ما لك؟ ويلك! قال: والله لا تدخلها، حتى يأذن لك رسول الله، وتعلمَ اليوم من الأعز من الأذل؟ [5].
وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد نار الفتنة، وقَطْعِ دابرِ الشر؛ بصبره على عبد اللَّه بن أُبيّ، وتحملِهِ لـه، وإحسانِه إليه، وعَفْوِهِ عنه؛ لأن هذا الرجل لـه أعوان، ويُخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية. ولعل تسامحه معهم كان سببا في إيمان أكثرهم.
روى الشيخان: أن عبد الله بن أَبي لما توفي، جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له، فأعطاه قميصه، وقال: «آذنِّي أصلِّ عليه» فآذنه، فلما أراد أن يصلِّي جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلِّي على المنافقين؟ فقال: «أنا بين خِيَرتين، قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠]» فصلَّى عليه فنزل هذه الآية: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: ٨٤] [6].
فكان لهذا التصرف النبوي الحكيم أثره البالغ؛ حتى كاد أن ينهي النفاق في المدينة. حقا، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: ۲٦٩]. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

 

[1] مغازي الواقدي 1/368
[2] سيرة ابن هشام 2/291-290 بتصرف
[3] المقريزي إمتاع الأسماع 1/208
[4] ابن كثير السيرة النبوية، 3/301
[5] السيرة الحلبية 2/393
[6] أخرجه البخاري 4393 ، 4395 ، 5460، وأخرجه مسلم 2774