المقالة التاسعة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: اشتراكه صلّى الله عليه وسلم في بناء الكعبة

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. بنى إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام الكعبة؛ لتكون مسجدا يذكر فيه اسم الله وحده؛ وليكون مثابة للناس وأمنا، ورمزا لوحدة الأمة الإسلامية عندما تتوجه في الصلاة إليها من شتى أنحاء الأرض، ورابطةً للمسلمين يلتقون في رحابها مهما تفرقت بلدانهم، وتباعدت ديارهم، واختلفت أجناسهم، يتعارفون فيما بينهم، ويحسون بعظمة الأمة التي ينتمون إليها، ويتدارسون المشاكل التي تعترض العالم الإسلامي، ويتعاونون في وضع الحلول المناسبة لها.

وقد أضفى الله على الكعبة قداسة اكتسبتها من الذكريات والمعاني التي حفّت بها، قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: ۱۲٥]، وهذا هو المعنى الذي يلحظه الطائف بالبيت الحرام، بعد أن يملأ قلبه من معنى العبودية لله وحده، والقصدِ إلى تحقيق أوامره. ومن هنا جاءت قداسة البيت، وعظم مكانته عند الله تعالى، وكانت ضرورةُ الحج إليه والطوافُ به. وأما ذات الكعبة فحجارة لا تضرّ ولا تنفع.

تعرضت الكعبة للعوادي التي صدعت جدرانها، فهبت قريش لإعادة بنائها بناء يليق بولائهم لها؛ لذا تواصوا على أن يخصوها بأطيب كسبهم من أموالهم الحلال، وقسموا أركانها بين القبائل؛ لينال الجميع هذا الشرف، فلما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا في من يضعه في مكانه، واحتدم الخلاف، واستعرت المغايظ، وغشيتهم نُذُرُ حرب أهلية طاحنة، فأشار عليهم أحدهم أن يحكّموا أول داخلٍ من باب الصفا، فقبل الجميع، فطلع عليهم محمد بن عبد الله في لحظة من أسعد لحظات الحياة، فهتفوا جميعاً هذا الأمين محمد، فقال الأمين هلم إلي ثوباً، حمل الرسول الحجر ووضعه على الثوب، ثم نادى رؤساء القبائل جميعاً، وقال: ليأخذ كلٌّ بطرفٍ ويرفعوه معاً، فلما ساووا به مكانه المرموق، حمله الرسول وثبته في مكانه، ثم واصلوا العمل، وقد دفنت الفتنة في مكانها.

وحذار أن يحال ذلك لعبقريةٍ وذكاءٍ خارقين، وفطرةٍ قويمةٍ، وإن كان هو كذلك؛ لأن الأصل الأصيل في تكوينه عليه الصلاة والسلام أنه رسولٌ ونبيٌّ لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ثم تأتي المزايا الأخرى كُلُّهَا: من عبقريةٍ، ودهاءٍ، وذكاءٍ، مبنيةً على هذا الأساس، ولا حقةً به.

يتبدى لنا من خلال الهُتافِ الذي ارتفعت به حناجر القرشيين عند رؤية سيدنا محمد، وقولهم: هذا الأمين- مدى سمو منزلته بينهم، فقد كانوا يلقبونه بالأمين، وكان محبوباً لديهم أجمعين، وكانوا لا يرتابون في صدقه إذا حدث، ولا يشكون في كريم أخلاقه إذا عومل، وفي عظيم أمانته إذا أؤتمن.

وشارك النبي صلّى الله عليه وسلم قريشا في بناء الكعبة مشاركة فعالة، وذلك قبل البعثة، فكان ينقل الحجارة على كتفه، ما بينها وبينه إلا إزارُه، وحصلت معه في أثناء نقله للحجارة حادثة تدل على حفظ الله له من دنس الجاهلية.

فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ حِجَارَةً. فَقَالَ الْعَبَّاسُ، لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى عَاتِقِكَ مِنَ الْحِجَارَةِ، فَفَعَلَ فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ [1].

وهكذا كان يصنعه الله على عينه، ويحفظه من أقذار الجاهلية، حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأحفظهم للأمانة، حتى سمي في قومه بالصادق الأمين، الأمر الذي جعل قومه يستأمنونه على أنفس أموالهم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] البخاري 3829، 7/ 180، ومسلم 76، 1/ 267.