المقالة التاسعة عشرة من سلسلة مقالات فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: عام الحزن

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. لمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ، فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وأبو جهل يقول “أترغب عن ملة عبد المطلب” حتى مات وهو يقول: (على ملة عبد المطلب) فحزن رسول الله وقَالَ واللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ.) [1] 

قال ابن هشام: كانت خديجة وزير صدق على الإسلام، يشكو الرسول إليها ويجد عندها أنسه وسلواه. أما أبو طالب: فقد كان عضدا وحرزا في أمره، وكان ناصراً له على قومه، فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياته، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً. [2]

يستفاد مما مر:

أولاً: قضى الله الحكيم أن يفقد الرسول عمَّه أبا طالب، الذي كان حصناً يحوطه من جميع جوانبه، يدفع عنه الأذى والضر، كما فَقَدَ زوجته خديجة الوفية، صاحبة العقل الرشيد، والرأي السديد، والقلب الكبير، الذي غمر رسول الله بحنانه وأنسه، فكان يأوي إليها كلما حزبه أمر، فيجد عندها عزاءه وراحته وسلواه. تُوُفِّيَا قبل أن يُمَكَّنَ للمسلمين في الأرض؛ لعل الحكمة الرَّدُّ على الغافلين، الذين يرون في أبي طالبٍ الحاميَ للدعوة والدعاة، ولولاه لماتت الدعوة في مهدها، ولما وصلت إلى أهدافها؛ فأراد الله أن يُثْبِتَ للجميع أن النصر من الله القائل: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). [3] 

ثانياً: الحزن الذي كان يعصف برسول الله، له عدة أسباب، منها:

فراق القريب والحبيب

ما يجده من المشركين من الأذى والسخرية

– موتُ عمه على الكفر، يضاف إلى ذلك – وهو الأشدُّ – انْغِلَاقُ معظم أبواب الدعوة الإسلامية في وجهه: من توجيه، وإرشاد، وتعليم، وما تبقى له من نوافذ يراها لا تأتي بنتيجة، فهذا الذي كان يفري قلبه فرياً.

ثالثاً: لما مات أبو طالب، نالت قريشٌ من رسول الله ما نالت: فمرةً يَنْثُرُ السفهاءُ التراب على رأسه، ومرةً يضعون بين كتفيه سلا الجزور وهو ساجد، ومرةً يخنقونه بثوبه؛ حتى قال: (ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب) [4]، حصل ذلك؛ ليكون قدوةً للدعاة من بعده.

رابعاً: من وفاء النبي أنه حاول إنقاذ عمه من النار، لكنه لم يفلح، فراح يستغفر له، فنهي عن ذلك، فشفع له حتى صار أخف أهل النار عذاباً، وهذه من خصائص النبي. 

خامساً: دعوة النبي لأبي طالب إلى الإسلام وهو على فراش الموت يحتضر، يؤخذ منه أن الإيمان ساعة الاحتضار مقبول، ما لم يغرغر. كما يؤخذ منه جواز عيادة الكافر في مرضه لدعوته للإسلام، لعل الله ينقذه من النار.

سادساً: قد يُقَيِّضُ الله للداعية مَنْ ينصره مِنْ غير المسلمين، كما انتفع رسول الله من حماية عمه أبي طالب، ومثل هذا لا يتعارض مع النهي عن موالاة الكفار؛ لأن الموالاة المنهيَّ عنها هي التي فيها محبةٌ لدينهم، ورضاً بباطلهم، وتنازلٌ عن شيء من ثبوتيات الإسلام.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] التوبة: 113

[2] سيرة ابن هشام، ج1، ص416.

[3] سورة غافر، 51.

[4] دلائل لنبوة للبيهقي، ج2، ص350