المقالة الأولى من سلسلة إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والمحن للشيخ أحمد الأحمد: إرشاد النبي في فتن ومحن المشركين

يقدم لنا فضيلة الشيخ جواهر إرشادية من سيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، مستوحاً ومستخلصاً من مواقفه وتعاملاته مع المشركين واليهود والمناقين وغيرهم، ما يعين المسلم في ما اشتد عليه من الفتن والمحن، أينما كان وفي أي زمن كان، فرسالة المصطفى للعالمين، وكذلك ففي سيرته الدروس والتوجيهات النافعة والمفيدة لكل عصر وكل زمان لمن أراد اعتباراً.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد.
 
إن الإنسان يبتلى على حسب دينه، فإن كان في دينه قوةٌ اشتد عليه البلاء. فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:( الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ…). [1]؛ ليمحص الله المؤمنين؛ فلا يندسَّ فيهم غيرُ جدير بالانتساب إليهم. ومن الخطأ أن يُظَنَّ أن المصائب لا تكون إلا عقوبة لعاص، بل هي رفع درجات، أو تكفير سيئات.
لذلك كانت حياة سيدنا محمد في بدء الدعوة تمور مورا بالبلاء المسلط عليه وعلى أصحابه من قبل المشركين؛ ليجعل الله منه قدوة للناس.
مارست قريش على المسلمين كل أساليب القهر؛ لصدهم عن دينهم الذي هدد مصالحهم، وساوى بينهم وبين عبيدهم، ووقف سدا منيعا أمام شهواتهم الجامحة؛ فاتهموه بالجنون والسحر والكذب، وشتموه بأقبح الكلمات، وَعَدَوا على أتباعه المستضعفين، فأذاقوهم ألوان العذاب الذي تتفطر له القلوب، وتقشعر لهوله الجلود. ولقد كان نصيب سميةَ وزوجِها ياسرٍ من ذلك العذاب فادحاً. والرسول لا يملك إلا أن ينادي عليهم من بعيد (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ) [2] ثم ماتت سمية وزوجها ياسر تحت التعذيب الرهيب.
ومر مرة على خباب يَسحبون جسمه العاري على الجمر، وبلالِ بنِ رباحٍ يطرحونه عاريا على صخرة تلفظ فيح الحميم، ثم يأتون بصخرةٍ ثقيلة مستعرةٍ، ويلقون بها فوق جسده! وبلالٌ ينادي بصوت خافت مبحوح أحَدٌ أحَدٌ! والرسول يراهم ينظرون إليه فيعتصر الألم قلبه، ولا يملك لهم شيئا إلا أن يثبتهم، ويدعوَ الله لهم، ويذكرَهم بعظيم الأجر الذي ينتظرهم؛ على صبرهم واحتسابهم، ويذكرهم بثبات المؤمنين السابقين قال: ( كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَرُ له في الأرض فَيُجْعَلُ فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه) [3]؛ مما كان له أعظمُ الأثر في تثبيت الفئة المؤمنة.
ومن أنواع العذاب الذي مارسوه على المسلمين جميعاً كبارا وصغارا، مقاطعةُ بني هاشم وبني المطلب، وحصارُهم في شعب أبي طالب لثلاث سنين، متعاهدين على (أنْ لا يُناكِحوهمْ ولا يُبايعوهمْ، حتى يُسْلِموا إليهمُ النبيَّ) [4].
ثم تطاولوا على الأشراف كأبي بكرٍ (وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ يَضْرِبُونَهُمْ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ، وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ) [5] فأما الرسول فكان في منعةِ عمه أبي طالب، وبعد وفاته تمادوا عليه، فتفل عقبة بن أبي معيط في وجهه، وخنقه مرة بثوبه خنقا شديدا، وأبو بكر يدفع عنه ويقول أتقتلون رجلا يقول ربي الله؟ وبعد كل هذا السفه يقول النبي: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) [6].
وكان أشد ما صنعوه بالنبي، عندما ألقى عليه عقبة بن أبي معيطٍ وهو ساجد فرث ودم وسلا ناقة فلما قضى صلاته، قال: (اللهم عليك بقريشٍ، اللهم عليك بقريشٍ، اللهم عليك بقريشٍ، ثم سمى: اللهم عليك بعمرِو بنِ هشام، وعتبةَ بنِ ربيعة، وشيبةَ بنِ ربيعة، والوليدِ بنِ عتبة، وأمية بنِ خلفٍ، وعقبةَ بنِ أبي معيطٍ، وعمارةَ بنِ الوليد)، يقول ابن مسعود: (فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدرٍ، ثم سحبوا إلى القَلِيبِ، قَلِيبِ بدرٍ) [7].
وما دعا رسول الله عليهم إلا بعد أن طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، ولم يبق في القوس منزعٌ، ورأى أن بقاء هؤلاء يعتبر حجر عثرةٍ أمام انطلاق الدعوة، ومع ذلك لم يَدْعُ على جميع الكفار أن يستأصل الله شأفتهم! كما فعل نوحٌ عليه السلام، بل خص أفراداً بعينهم، ثم عاد إلى طبيعته الرحيمة الودودة، وسنلحظ هذا في رحلته إلى الطائف عندما أهانه العِلْيَةُ والسفلة على حد سواء، وأدموه بالحجارة، فدعا دعاءه الحزين! (اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ). [8] فنزل ملك الجبال يستأذنه (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا) [9].
وظلت ثقيفٌ على كفرها، وصدَّتْ عن سبيل الله كثيرًا، واشتركت مع هوازن في حرب المسلمين يوم حنينٍ، فهُزِمُوا وتحصنوا بالطائف وحوصروا قال الصحابة: (يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا!) [10].
وإمعانا من النبي في الحفاظ على أصحابه أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة؛ ليكونوا مخزونا استراتيجيا للمسلمين في حال فكرت قريش باستئصالهم في مكة؛ فهاجر ما ينيف على الثمانين بين رجل وامرأة، وأشار على من تبقى بالهجرة إلى المدينة بعد بيعتي العقبة، فتتابعوا مهاجرين خفية، ثم لحق بهم بصحبة أبي بكر يوم اتخذت قريش قرار قتله. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد والحمد لله رب العلمين.

 

[1] رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. (2398)
[2] رواه الحاكم: في المستدرك (5646)، والبيهقي: في شعب الإيمان (1631)
[3] البخاري: صحيح البخاري (3639، 6544،3416)
[4] أخرجه البخاري (1590)، ومسلم (1314) (344)
[5] إسماعيل بن محمد الملقب بقوام السنة الحجة في بيان المحجة 2/365، وحياة الصحابة 1/337
[6] محمد بن عبد الواحد المقدسي الأحاديث المختارة أو المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، 10/14
[7] البخاري، في الصحيح، (1/194)
[8] الطبراني في المعجم الكبير (14764) وذكره الهيثمي في “مجمع الزوائد” (6/35)، وقال: «رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق؛ وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات».
[9] البخاري، في الصحيح، (3231)
[10] رواه الترمذي 3942 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ