المحاضرة السادسة والعشرون من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام للشيخ أنس الموسى: التربية على العقيدة السليمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. 

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا وزدنا علما ينفعنا.

وبعد:

ما نزال نتحدث عن مسؤولية المربين عن التربية الدينية، واليوم سنخصص الحديث لتربية الأولاد على العقيدة السليمة؛ لينشأ أولادنا على عقيدة سليمة لاعوج فيها، ولاخلل.

قد يخطر في البال، ونحن نذكر كلمة العقيدة أن هذا الموضوع لايتعلق بتربية الأولاد بل هو موضوع تخصصي ليس هذا مكانه ..والحقيقة أن قضية التربية على العقيدة لهو شديد الأهمية لأسباب كثيرة نذكر منها:

1-إن العقيدة الإسلامية هي أساس الأخلاق، والسلوك الصحيح فإذا أردتُ تربية ولدي على خلق صحيح؛ فلا بد من غرس اعتقاد صحيح عن الله، والرسول، والكون والإنسان والقضاء والقدر..

لو نظرنا لقول رسول الله عندما جاءه الرجل يقول له: يارسول الله قل في الإسلام قولا لا أسال عنه أحداً بعدك ..فقال له رسول الله:” قل آمنت بالله ثم استقم” [1] لقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ إلى أن الاستقامة ثمرة الإيمان الصحيح؛ كما قال تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) [فصلت30 ] إيمانهم بالله مؤثر باستقامتهم  فلا يمكن أن نطلب استقامةً حقةً من غير المؤمنين.

مهمة: لقائل أن يقول: قد يكون هناك أخلاق فاضلة بدون اعتقاد صحيح بل بدون اعتقاد؟

الجواب: سنجيب من خلال جوابٍ لأحد الأشخاص الذين كانوا يحاضرون في إنكار وجود الله عزوجل بعد أن هداه الله للحق، والرشاد حيث رد على من يعترض عليه إيمانه بالله عزوجل فقال لهم: كيف تنكرون عليَّ الإيمانَ، ولولا الإيمانُ بالله لسرقني ابني، ولخانتني زوجتي؟! 

لهذا لو أردنا استثمار السلوك الصحيح في نفوس أولادنا؛ علينا أن نحقق العقيدة الصحيحة. 

في العصر الحديث تُبذل جهود، وتُدفع أموال لتعريف الأبناء بحقوق الأمهات فابتكروا لها عيداً خاصاً بها، و جعلوا لها يوماً خاصاً تعطِّل فيه كل الدنيا توقيراً لحق الأم ..وفي النتيجة ماهي الثمرة التي حصلت عليها تلك الأم؟ الجواب: لقد حصلت من ولدها على هديةٍ، وزيارةٍ خاصةٍ، وبعد أن ينته ذلك اليوم تُتْرَكُ الأم في دار العجزة تعاني الوحدة، ويهتم بها شخصٌ لايمت لها بقربى.

إن الإسلام يَعْتَبِرُ هذا الذي حصلت عليه الأم في يوم عيدها عقوق لايغفره الله؛ بل إن ما بحث عنه غير المسلمين، هو جزء لايُذْكَرُ في جانب البرِّ الذي أمر به الله عزوجل وحض عليه حيث قرن الله الإحسان للوالدين بتوحيده سبحانه؛ الذي هو أس كل حياة على هذه الأرض بل لقد نهى الله عزوجل الولد أن يقول لوالديه كلمة التأفف (أف) فقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبرأحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍ ولاتنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) [الإسراء 23-24] 

بل لقد نبه رسول الله إلى بر الوالدين بعد وفاتها فقد جاء رجل لرسول الله فقال: يارسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال:” نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لاتوصل إلا بهما وإكرام صديقهما”[2] هل حقق دعاةُ عيد الأم جزءاً بسيطاً مما دعت إليه العقيدة السليمة ؟ 

لا يتوقف أثر العقيدة السليمة على الأخلاق الفاضلة عند جانب بر الوالدين، بل يتعداه ليشمل حق الجار، والأمانة، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، والإيثار ووووإلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة التي كانت أثراً من آثار التربية على العقيدة السليمة.

2-إن التربية على العقيدة السليمة حق الولد على والديه  فمن واجب الوالدين تعريفُ الولدِ بربِّ العالمين مَلِكِ الناس إله الناس، وتعريفه بعقائد الإسلام، وهذا منهج القرآن فقال تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يابني لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) [لقمان13]

وانظر كيف علَّم رسول الله الغلام الصغير -ابن عباس رضي الله عنه- وقد كان يركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:” ياغلام إني أعلمك كلمات احْفَظ الله يَحْفَظْكَ احفظ الله تجدْه تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك ألا بشيْ قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف” [3]

3-ما أكثر الإفساد الوارد – من أعداء المسلمين- إلى أبنائنا، والذي يشمل تلك الأفكار الهدامة، والعقائد الفاسدة التي تهدف لإفساد عقائد الأبناء؛ وصولاً لإفساد أخلاقهم. فبدأ الإلحاد بالانتشار بين أبناء المسلمين، وبدأت صورٌ خطيرةٌ – من الأخلاق الفاسدة التي ما كنا نراها في المجتمعات المسلمة – بالانتشار، وما هذا إلا بسبب تقصير الآباء في تربية أبنائهم على العقيدة السليمة، فإذا تشوشت العقيدة انهارت الأخلاق، والقيم والمبادئ؛ لهذا كان لابد من تربية الأولاد على العقيدة السليمة.

4-من أسباب الاهتمام بتعليم الأبناء العقيدة السليمة، أن تعليم العقيدة في الصغر أسهل بكثير من تعليمها في الكبر؛ لأن الطفل في الصغر يكون على الفطرة الصحيحة قبل أن تجتاله الشياطين عنها، فالله عزوجل يقول في الحديث الإلهي: “وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم  وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ..” [4]

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” [5] لم يقل رسول الله أو يُسْلمانه لأنه أصلا مولود على فطرة الإسلام التي فَطَرَ الله الناس عليها. 

فواجب المربي أن يحافظ على الفطرة السليمة لولده، ولا يسمح للعقائد الفاسدة أن تغزو عقله حتى يشتد عوده؛ فإنه من الصعب عند ذلك تغير تلك الأخطاء.

 انظر إلى أثر التربية على العقيدة السليمة كيف فعلت فعلها مع ابنة حاتم الأصم رحمه الله تعالى، الذي كان يريد الذهاب للحج فدخل على أولاده، وجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته، وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا، ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك، ونحن بهذه الحالة؟! وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناولٌ للرزق، وليس برزاق. فذكرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة، يا أبانا، انطلق حيث أحببت. فقام من وقته، وساعته، وأحرم بالحج، وخرج مسافرًا، وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسف على فراقه أصحابه، وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: لو سكت ما تكلمنا. فرفعت الصغيرة طَرْفَها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، ومولاي، عوَّدت القوم بفضلك، وأنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم. فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا، فانقطع عن عسكره، وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب، فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، سبحانك البارحة بتنا جياعًا واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا. ثم إنها أخذت كوزًا جديدًا، وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا. فأخذ الأمير الكوز، وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء، فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به. فقال الوزير: يا سيدي، لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج، وسافر ولم يخلف لعياله شيئًا، وأخبرت أنهم البارحة باتوا جياعًا. فقال الأمير: ونحن أيضًا قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم. ثم حل الأمير مِنْطَقَتَه من وسطه، ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليلق منطقته. فحل جميع أصحابه مناطقهم، ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا. فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق. فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالًا جزيلًا، واستردها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاءً شديدًا، فقالوا لها: ما هذا البكاء؟! إنما يجب أن تفرحي؛ فإن الله قد وسع علينا. فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا، ودبره بأحسن التدبير.

وانظر إلى تلك الفتاة التي رفضت أمر والدتها خلط الحليب بالماء لأن الله يراها 

فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال:” بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس المدينة إذ أعيا واتكأ على جانب جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها يا ابتناه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء فقالت لها: يا أمتاه وما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً فنادى ألاَّ يشاب اللبن بالماء فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فانك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر فقالت الصبية لآمها: يا أمتاه ما كنت لأطيعه في الملأ واعصيه في الخلاء.

هذه هي آثار التربية على العقيدة السليمة خُلق المراقبة لله عزوجل الذي هو مصدر كل خُلُقٍ كريم. 

إن تربية الأولاد على عقيدة القضاء والقدر؛ يزرع السكينة في نفوس الأبناء، ويزيل  هذا القلق الذي يغزو قلوب الشباب من المستقبل. 

تعريف الولد بأن الموت مصير كل حي يعينه على النظر للحياة بشكل مختلف حيث يعيش واثقا بربه. 

ماذا قدم الوالدان لأبنائهم إن لم يقدما لهم العقيدة السليمة؟ لقد حَرَمَا ولدَهم من سر السعادة ولو أعطياه الدنيا بحذافيرها. 

مهمة: لانقصد بالعقيدة السليمة تللك المناقشات الفلسفية التي تعج بها كتب الاعتقاد بل نقصد بها النظرات الصحيحة للإيمان بالله عزوجل، والرسل، والملائكة. فالتربية على العقيدة قسمان: عقلية علمية، وعملية سلوكية، ويجب أن نربي في أولادنا كِلَا القسمين بما يتناسب مع أعمارهم ومستواهم.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية. 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

___________

[1]: مسلم 38 والترمذي في كتاب الزهد باب ماجاء في حفظ اللسان 2410

[2]: سنن أبي داوود 5142

[3]: سنن الترمذي 2516

[4]: مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها 5113

[5]: البخاري كتاب الجنائز باب ماقيل في أولاد المشركين 1302