المحاضرة السادسة من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام: الأسرة السليمة ضرورة لتربية الطفل

يقدم لنا فضيلة الشيخ سلسلة في فقه تربية الأولاد على المنهج الإسلامي الصحيح، مع تناول دلالاته في القرآن والسنة والتراث، ومع بيان شروط ومقتضيات وثمار هذا المنهج التربوي، وإبراز واجبات المربي ومسئولياته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

“اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا وزدنا علمًا ينفعنا”

وبعد:

بدأنا المحاضرة الماضية بالمرحلة الأولى من مراحل تربية الأولاد، وهي المرحلة التأسيسية والتي تكون قبل الزواج،

وقلنا: إن اختيار الزوجة أساس في هذا الامر، وأن امتلاك الإنسان للثقافة التربوية أمر هام، وأن بناء الإنسان نفسه ليكون قدوة صالحة لأبنائه أمر هام.

بعض الناس يتمسك ببعض عناصر التربية، ويعطيها الصدارة، ويغفل أو يتغافل عن قضايا هامة في التربية.

فمثلا: تهتم بعض الأسر باختيار الاسم الحسن لمولودهم، ويبحثون في القرآن والسنة والمعاجم، ويستشيرون أهل الخبرة؛ للحصول على الاسم المناسب.

بعض الأسر تولي العناية الكبيرة لموضوع حلق شعر المولود، ويستشيرون أهل العلم عن زمن حلق شعر المولود، وماذا يتصدقون بوزنه ذهبًا، أم فضًة؟

بعض الأسر تهتم بالعقيقة عند قدوم المولود، ويسألون عن سن العقيقة، وهل يعق بخروف واحد، أم أكثر، وهل يختلف الأمر باختلاف جنس المولود بين ذكر، وأنثى؟

لا مشكلة أن تفكر الأسرة بالاسم الحسن لمولودهم؛ فهذا مما رغبت فيه السنة ولا مشكلة أيضًا أن تهتم الأسرة بتطبيق السنن، والأحكام الواردة عند قدوم مولود جديد؛ لكن المشكلة؛ عندما تظن الأسرة أن اختيار اسم حسن لمولودهم، وحلق شعره والعق عنه، هو كل التربية.

لما سبق سنبدأ الحديث عن بعض هذه الأمور الجوهرية المؤثرة في التربية، وسنبدأ بأهم أمر ألا وهو:

المحافظة على كيان الأسرة المتماسكة السليمة التي تشكل الوعاء النفسي، والعاطفي، والفكري، والديني للولد؛ فبمقدار المحافظة على التوازن، والاستقرار بالأسرة ينشا الولد نشأة صالحًة؛ لهذا فإن الإسلام حرم جميع العلاقات التي تحدث بين الرجال والنساء وينشا عنها مولود مادامت هذه العلاقات تحدث خارج نطاق الزوجية. قال رسول الله: “الولد للفراش وللعاهر الحجر” (البخاري 6368) فلا يثبت نسب لمولود دون عقد زواج  فكل علاقة خارج نطاق الزوجية تفضي إلى مولود بالحرام؛ هو جناية عظيمة بحق الولد.

لقد بين الباري سبحانه وتعالى، وأشار إلى هذه الحقيقة في كتابه عندما ذكر القتل فقال: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: ۳١]، وقال بعد ذلك في نفس السورة {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} [الإسراء: ۳۳]، وذكر بين هاتين القِتلتين الآية التي تشير إلى حرمة الزنا في نفس السورة حيث قال: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: ۳۲]، وهذا يشي بأن الزنا الذي ينشأ عنه مولود؛ ما هو إلا صورة من صور القتل المحرمة … إنه قتل معنوي لهذا المولود الذي سينشأ مجهول الأصل قد لا يعرف من هو أبوه، أو أمه أو كليهما؛ هذا قتل للمولود لأنك جعلته بلا نسب، وليس له أصل ينحدر منه، ولا عائلة ينسب لها؛ بل إن بعض أولاد الزنا في الغرب لا يُعرف لهم أصل بل أصلهم رقم ينتسبون إليه …أليس هذا قتلا لهذا المخلوق؟! عندما يَكْبر هذا المولود، ويشاهد أقرانه في المدرسة، والشارع ينادون آبائهم، وأمهاتهم، وأسرتهم، ويشاهد أقرانه يخرجون من المدرسة يذهبون لبيتهم، ويجلسون مع أسرهم؛ أما هو ففي ملجأ أو دار خاصة أو عند أسرة لا تمت له بصلة، ولا تجمعهم به أي عاطفة.

كيف سينشأ هذا الطفل؟ في الأعم الأغلب سينشأ بعيدًا عن كل معاني التربية.

لم يحرم الله عز وجل الزنا؛ لمجرد اللقاء المحرم الحاصل بين طرفين؛ بل هناك آثار كثيرة تنشا عن هذه العلاقة المحرمة، أهمها الآثار التي ترجع بالضرر على المولود من هذه العلاقة.

الرجل الذي يرخي العنان لشهواته خارج نطاق الأسرة، مع فتاة بالحرام غيرُ مستعد لتحمل التبعات المترتبة على هذه العلاقة؛ فهو لا يتحمل مسؤولية تربية، ولا مسؤولية ناشئة، ولا مسؤولية متابعة لهذا المولود؛ لهذا سد الإسلام، وشدد وأغلق كل النوافذ التي توصل لوقوع العلاقة المحرمة بين طرفين، وسهل إجراء عقد النكاح بحيث لا يكون هذا العقد عقبة أمام كل رجل يود الارتباط بامرأة كما أمر الله.

لقد أعطى الإسلام، وأولى أهمية عظيمة للمولود قبل ولادته؛ فحرم على الرجل أن ينشئ علاقة ما خارج نطاق الزوجية؛ بل وضع عقوبة لمن يقارف هذه الكبيرة تختلف باختلاف حال المرتكب لها بين كونه متزوجا، أو عزبًا؛ وكانت عقوبته بناء عليه تتردد بين الجلد، وبين الرجم بالحجارة حتى الموت؛ وما هذا التغليظ في العقوبة؛ إلا بسبب الخطر الشديد المترتب على هذه العلاقة المحرمة؛ “فالقتل أنفى للقتل”.

شتان بين أسرة تستعد لاستقبال مولودها لتفكر بالطريق الأمثل لتربيته ليكون فردًا صالحًا في المجتمع فهي تدعو الأهل، والأحباب للمشاركة بالفرح بقدومه، وبين امرأة أخرى حملت من سفاح تنتظر اليوم الذي ستضع فيه مولودها للتخلص منه في مكان مظلم؛ تتخذ كل الوسائل الممكنة، وتتحوط ألّا يعرف بقدوم المولود أحد؛ وينته المطاف بالمولود على أحد الأرصفة، أو عند حاوية قمامة، وعلى أحسن تقدير على باب أحد المساجد علّ الله يرزقه بأسرة صالحة تحنو عليه، وتحسن تربيته وتنسيه لؤم من كانا سببًا في وجوده.

إن المجتمعات التي تبيح العلاقات المحرمة؛ إنما هي في الحقيقة تشجع على هذا القتل المعنوي، الذي يتمثل بحالات الاكتئاب التي يعاني منها هؤلاء المواليد أضف إلى ذلك ضعف الشخصية، وعدم الاتزان في الحياة فهو لا يعرف معنى الأبوة والأمومة، كما أنه لا يعرف معنى الأخوة فليس له أخ، ولا قربى، فليس له عمة ولا خالة، ولا جد، أضف على ذلك ما سيحمله من حقد على المجتمع لأنه لم يشعر بدفء العلاقات الأسرية.

الأمر الثاني: عندما رتب الله بناء الأسرة رتبه على أساس متماسك؛ عناصره أب وأم، وإخوة وأقارب، وأوجب الله لهذا الطفل الضعيف قبل أن يأتي للدنيا مجموعة أحكام يجب على الوالدين مراعاتها. فمثلا: حرم الإسلام إسقاط الجنين بأي طريقة بعد نفخ الروح فيه؛ فهو مشروع إنسان فأعطاه حق الحياة.

لقد أعطى الله الجنين حقوقا حتى قبل ولادته؛ فله الحق في الوصية والميراث مادام ولد حيا، فإذا ولد ثبت له حق النسب، وحق الرضاع، وحق النفقة، وحق الحضانة.

إن الأسرة التي تلتزم بهذه الحقوق، والواجبات، وتترك المحظورات التي ذكرناها؛ لابد أنها أسرة متماسكة، ولا شكك أن المولود الذي يتربى في أحضان هذه الأسرة سينشأ نشأة صالحة، وستصل هذه الأسرة لنتيجة صحيحة.

أما الأسرة المتهلهلة المتفككة التي تعشش فيها المشاكل؛ لا شك سينشأ فيها ولد يعاني عقابيل هذا التفكك.

وأخيرًا: لن يغني الطفل حليب اصطناعي – مهما كان طعمه لذيذًا – عن حليب الأم، ولن يرتاح طفل بين ذراعي ممرضة، أو مربية – مهما يحمله قلبها من الحنان – عن ذراع الأبوين، وحنانهما، ودفء قلبيهما.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم