المحاضرة السادسة عشرة من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام للشيخ أنس الموسى: حب الله في قلوب الأطفال الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاةوالسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا وزدنا علمًا ينفعنا.

وبعد:

فهذا هو الدرس السادس عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، ونحن اليوم مع مبحث متمِّم للمحاضرات السابقة التي تحدثنا فيها عن محبة رسول الله، وكيف ننشئ الصلة بين أبنائنا ورسول الله.

واليوم سنتابع بهذا الاتجاه ونبين كيف نبني محبة الله عزوجل في قلوب أبنائنا.

دائما عندما نتكلم عن تربية الأولاد نذكر كيف نوجِد ولدًا صادقًا خلوقًا كريمًا إلى غير ذلك من الصفات المحمودة، ونهمل مَعْلَمَاً هاما في التربية ألا وهو: علاقة الأبناء بالله عزوجل مَلِكِ الناس إله الناس.

قد تُطْعِم ولدك أفضل الطعام، وتكسوه أحسن اللباس، و تذوَّقُه مالذ وطاب من لُذاذات الدنيا؛ لكنك إن لم تذوِّقْه محبة الله عزوجل؛ فأنت بهذا تكون قد وفَّرت لولدك الحقير الفاني، وحَرَمته من العظيم الباقي.

المشكلة أيها الإخوة أن أولادنا لايعرفون عن الله إلا أن عنده نار تحْرق من يَكذِب، ويسرق ويعصي أباه وأمه إلى غير ذلك.. أبناؤنا لم يتذوقوا معاني صفات الجمال في الحق سبحانه وتعالى، فهم لايعرفون محبة الخالق سبحانه ولايتذوقون آثار نعم الله عزوجل التي تغمر حياتهم كلها؛ لهذا لابد أن نعلِّم الطفل علمًا إحساسيًا شعوريًا ذوقيًا أن كل نعمة يعيشها هي من عند الله، وأن المُنْعِم الحقيقي هو الله، وأن حب الطفل الفطري لأمه إنما هو نعمة من الله؛ فالله هو الذي أوجد له هذه الأم، ورزقها هذا الحنان؛ فالأم واحدة من النعم التي يَرْفُلُ بها الطفل.

كم نحن مقصرون؛ عندما أهملنا تربية قلوب أولادنا على حب الله، عندما لم نربط الكون بمكَوِّنِه سبحانه.. لابد أن نخبر أولادنا أن الماء والهواء والشمس والقمر هي من خلق الله ونعمه، ونكرر هذه المعاني حتى يصل الطفل ليقين أن } ومابكم من نعمة فمن الله{[النحل53]

مهمة: قد يظن بعضهم أن الحديث عن محبة الله عزوجل هو حديث يهم الكبار فقط، أما الصغار فهو أكبر من عقلهم..

الحقيقة أيها الإخوة  أن الطفل تربة خِصبة تستطيع أن تغرس فيها ماشئت، وكل ماتغرسه ستحصده لكن فيما بعد. لقد تَنَبَّه أعداؤنا لهذه الحقيقة؛ لذا فهم يغرسون في نفوس أبنائهم كُرْهَ الإسلام منذ نعومة أظفارهم، ويُعِدُّونهم لحربنا وهم يافعين؛ لهذا فإن التفريط في تنشئة الطفل على حب الله، وتأجيله حتى يصبح بالغًا هو تفريط خطير سينتج عنه فيما بعد خلل تربوي في نفسية الطفل.

حقائق هامة تتعلق بتربية الولد على حب الله عزوجل:

1-حب الله عزوجل واجب على الكبير والصغير؛ فعلى العبد أن يُحِبَّ مولاه، وخالقه فمن الخطأ أن يصل الولد لسن الثالثة عشرة مثلًا، وهو لايعرف عن خالقه شيئًا. لايعرف شيئًا عن صفاته وأفعاله؛ فلابد من تعريفه بربه حتى يتذوق معاني الحب لله كماقال رسول الله:” أحبوا الله لمايَغْذُوكم به من نِعَمه وأحبوني بحب الله”[1]

كما ندرب الولد على الصلاة، ويتعلمها من أمه وأبيه وهو يراهم يصلون، ونأمر الولد بالصلاة في سن السابعة؛ كذلك ندرب الولد، ونهيئ قلبه ليكون وعاءً لحب الله عزوجل منذ ولادته – كما سنتحدث بعدُ- ونأمربه في السابعة ونذوقه إياه.

طبيعة الطفل أنه يحب ما يحب والداه من أصناف المآكل؛ فلو أحب الوالدان ربهم فإن هذا يشعل فتيل حب الله في قلب الولد بالتقليد، والطفل في سنواته الأولى.

2-إصلاح الطفل لايُبْنى بغير حب الله عزوجل: يبذل أعداؤنا جهودًا كثيرة في إثارة الشهوات والإغراء بالفتن في نفوس أبنائنا، ولايقف في وجه هذه الإغراءات وهذه الفتن إلا رصيد كاف من حب الله وتعظيمه في نفس الطفل، وبعبارة أوضح معرفة الطفل بالله عزوجل تسهل عليه ترك المغريات.

فلو علمنا الولد أن الذي خلق عيناه هو الله، وبينا له قيمة هذه النعمة، ثم بينا له أن مِنْ شُكْر هذه النعمة العظيمة عدم النظر بها لما حرم الله، ثم ننتقل بالطفل من نعمة إلى نعمة بأسلوب بسيط يدركه عقله.

لابد من تكرار الإشارة إلى نِعم الله، وربطها بالمُنْعِم سبحانه بشكل متكرر حتى ترسخ في نفس الطفل على شكل قاعدة بيانات؛ فيتربى الطفل من نعومة أظفاره على مراقبة الله عزوجل، والحياء منه، وتعظيم أوامره ونواهيه.

3- الطفل يميل بالحب لمن يعطيه فلو فهم الطفل أن الله هو المعطي لكل شيء سيفيض قلبه حبًأ له.

ما أجمل أن يجيب الطفل لو سألناه من هو أحب شيء إلى قلبك؟ فيقول: الله عزوجل.

قد يسأل الطفل والداته من تحبين أكثر شيء؟ فتجيبه الأم أحب الله أكثر شيء..قد يستغرب الطفل كيف تحب أمُّه  أحدًا أكثرَ منه! فتجيبه الأم أحب الله؛ لأن الله هو من رزقني بولد مثلك، فأنا أحبه لأنه أعطانيك..معاني رقيقة ما أجمل أن يتربى عليها الناشئة.

4-نبين للطفل أن رسول الله الذي كنا نحدثه عنه كل يوم، وعن حبنا له كان يحب الله عزوجل ..رسول الله الذي قال:” ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما”[2]

كيف هو حال البيت الذي تشيع فيه هذه المعاني الفيَّاضة بحب الله عزوجل ؟ كيف شينشأ الطفل وهو يسمع والداه يدعوان: اللهم إني أسالك حبك .. اللهم اجعل حبك في قلبي أحبَّ إلينا من الماء البارد على الظمأ؟ لاشك سيتشرب معاني المحبة.

5-حب الله، ومعرفته يسهل على الطفل اتباع الأوامر الشرعية فيسارع الطفل في مراضي الله ويبتعد عن مساخطه، ويتمثل قول الله عزوجل:} قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله{ [آل عمران31].

6-على الوالدين أن يَعْلَما أنهما لن يدوما لولدهم، وأن الله فقط من يدوم له؛ فمن الجهل ربط الولد بالفاني، وعدم تعليقه بالباقي سبحانه وتعالى؛ علِّم ولدك معاني } وتوكل على الحي الذي لايموت{ [الفرقان 58]علِّم ولدك أن الله لايمرض، ولا ينام، ولايتخلى عنا به ثقتنا وعليه رجاؤنا، علِّمْه ماعَلَّم رسول الله ابن عباس عندما قال له:” ياغلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجمتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعو على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيئ قد كتبه الله عليك”[3]  رسول الله قال هذا الكلام لابن عباس وربَّاه عليه وهو في سن العاشرة تقريبًا.

اقرؤا على أولادكم قصة حاتم الأصم الذي أراد الحج وهو في حالة فقر شديدة فاستشار أهله قائلًا: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته، وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا، ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك، ونحن بهذه الحالة؟! وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مناوِلٌ للرِّزْق، وليس برزَّاق. فذكَّرتهم ذلك، فقالوا: صَدَقَت والله هذه الصغيرة، يا أبانا، انطلق حيث أحببت. فقام من وقته، وساعته، وأحرم بالحج، وخرج مسافرًا، وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسَّف على فراقه أصحابُه، وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: لو سكت ما تكلمنا. فرفعت الصغيرة طرْفَها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، ومولاي، عودت القوم بفضلك، وأنك لا تضيعهم، فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم. فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا، فانقطع عن عسكره، وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منهم ماء، وقرع الباب، فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم. فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي، وسيدي، سبحانك البارحة بتنا جياعًا واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا. ثم إنها أخذت كوزًا جديدًا، وملأته ماء، وقالت للمتناول منها: اعذرونا. فأخذ الأمير الكوز، وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء، فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم. فقال الأمير: لقد سمعت به. فقال الوزير: يا سيدي، لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج، وسافر ولم يخلف لعياله شيئًا، وأُخْبِرْت أنهم البارحة باتوا جياعًا. فقال الأمير: ونحن أيضًا قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يثقل مثلنا على مثلهم. ثم حل الأمير مِنْطَقَتَه من وسطه، ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليُلْقِ مِنْطَقته. فحلَّ جميع أصحابه مناطقهم، ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا. فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق. فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالًا جزيلًا، واستردها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدًا، فقالوا لها: ما هذا البكاء؟! إنما يجب أن تفرحي؛ فإن الله قد وسع علينا. فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا، ودبره بأحسن التدبير.

أخبروا أولادكم قصة سهل بن عبد الله مع خاله محمد بن سواريقول سهل: ”
“كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم بالليل، وكان يقول: يا سهل، اذهب ونم، فقد شغلت قلبي. وقال لي يوما خالي: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قلها في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوة. فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يوما: يا سهل، من كان الله معه وهو ناظِرٌ إليه وشاهِدَه لا يعصيه، إياك والمعصية.

لقد تأثر سهل بخاله الذي رآه خاضعا لله في الليل؛ فكان سهل صدىً لحال خاله، وأَثر من آثار التربية السليمة.

كم هو الفرق بين طفل تجره إلى الطاعة جرًا، وتمنعه عن المعصية قهرًا، وطفل يقبل بنفسه لطاعة مولاه؟!

اللهم أنا نسألك أن تعيننا على حسن التربية لأبائنا وتلهم قلوبهم حبك وحب نبيك.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

                    آمين آمين

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

        ____________

[1]: جامع الترمذي3789

[2]: صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك 6941

[3]: سنن الترمذي عن عبد الله بن عباس2516