المحاضرة الرابعة من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام للشيخ أنس الموسى: محبة الولد من الفطر السليمة

يقدم لنا فضيلة الشيخ سلسلة في فقه تربية الأولاد على المنهج الإسلامي الصحيح، مع تناول دلالاته في القرآن والسنة والتراث، ومع بيان شروط ومقتضيات وثمار هذا المنهج التربوي، وإبراز واجبات المربي ومسئولياته.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا وزدنا علما ينفعنا.
وبعد:
فمع الدرس الرابع من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام، واليوم سنتحدث عن حقيقة ثابتة وهي: أن محبة الولد أمر فَطر الله عليه قلوب الوالدين؛ لأن رقة الطفل، وضعفه يستثيران الرحمة في قلب الوالدين، ولأن الولد يمثل امتداد الوالد بعد موته؛ ولهذا قال الله عز وجل: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} [الكهف: ٤٦].

جاء الأقرع بن حابس التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم فوجده يقبل الحسن بن علي فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: “من لا يرحم لا يرحم” [1].

لقد كان الأقرع يظن أن تقبيل الولد أمر معيب، وأن عدم تقبيل الولد نوع من الرجولة. لقد ظن أن اللطف، واللين، والمحبة من خصال النساء فقط فهي التي تميل للولد؛ لهذا وفي رواية أخرى قال للأعرابي: “أو أملك لك إن نزع الله الرحمة من قلبك؟!” [2].

لقد أوصى القرآن الولد بوالديه فقال: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} [الأحقاف: ١٥]، لكنّا لا نجد في القرآن آية تحرك عاطفة الوالدين نحو الولد؟ السبب أن هذه العاطفة فُطر عليها قلب الوالدين؛ فلا تحتاج لتذكير ولا تحفيز.

ولكن الله في ذات الوقت أوصى الوالدين بالولد بقوله: {يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} [التحريم: ٦]، وقال أيضًا: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: ١۳۲].

فالله يأمر الوالدين بحسن تربية الولد، وأن يَقِياه النار.

ما دام حب الولد فطري فلم أمر الله الوالدين بحسن تربية الولد؟ الجواب: أحيانا قد تغلب عاطفة الحب الفطرية فتجعل الوالد يضعف أمام تربية الولد؛ لأن فن التربية يستلزم أحد أمرين: إما أن تُلزم الطفل بشيء يكرهه، أو تمنعه عن شيء يحبه.

فالإنسان إما أن تضعف عاطفته، وتتكلس مشاعره، وتميل نحو القسوة -وهذا مرض يحتاج لعلاج-، وإما أن يحدث العكس فيميل الأب لئلا يمنع ولده عن شيء مهما كان هذا الشيء.

بعض الآباء مر بمنعطف أُسري قاس؛ فهولا يريد أن يحدث مع ولده ما حدث معه؛ فلا يحب أن يرى ولده باكيا مهما كانت
الظروف؛ فلا يعاقب ولده، أو يزجره عن خطأ مهما كان؛ كردة فعل عما عايشه.

المحبة عاطفة دافعة للإحسان للمحبوب، وما ينبغي لهذه العاطفة أن تبرد؛ لأن وجودها مصدر خير، كما لا ينبغي أن تطغى لتمنع من تربية الولد؛ فلابد من ميزان يضبطها.

الطفل الذي لا يدخل ميدان التربية؛ تضعف ملكاته النفسية؛ فيصير ضعيفا لا يقدر على الوقوف في وجه مصاعب الحياة، ومشاقها؛ فينشأ كليلا مهزوما.. السبب؟ عاطفة غير متوازنة من جهة الأبوين تَعلّم الولد منها أن يأخذ كل شيء رخيصًا أوبلا ثمن؛ فبدل أن تكون هذه العاطفة سبب نجاح صارت سبب فشل.

فقسا ليزدجروا ومن يك راحما   فليقس أحيانا على من يرحم.

العاطفة غير المتوازنة قد تجعل الوالدين يتلذذان بإساءات ولدهما؛ فما ينبغي أن تستولي محبة الولد على قلب الوالدين.
الحب شيء، والتربية شيء آخر. فمن تمام المحبة أن تزجر ولدك لو أخطأ، وتقومه لو اعوج.

هذا الحسن بن علي يأخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله: “كخ كخ ارم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟” [3].

لقد كان الحسن ريحانة رسول الله ومع ذلك؛ ما ترك تنبيهه للخطأ.

لقد جعل رسول الله من دلائل حبه لمعاذ بن جبل إرشاده فقال له: “يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك؛ لا تدعن دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك” [4].

لماذا لا يدفعنا حب الولد أن نتعلم أسس تربيته؟

قد تحدث منافسة بين الوالدين على حب الولد؛ فكل واحد منهما يريد أن يستولي على قلب الولد؛ فيضيع الولد بين رغبات الأبوين المتنافسين في المحبة؛ لأن هذه العاطفة لم تسخر تسخيرا صحيحا.

قد تضعف عاطفة الأبوة، بل ربما تضمحل؛ فتجعل الأب يوزع ثروته لحديقة الحيوان، أو لكلب، ويحرم منها أولاده!!
لابد من ترجمة المحبة بحيث ترجع بالنفع على الولد، فعندما تشجع ولدك، وتعوده الخير فهذه ترجمة صادقة للمحبة. أما عندما تنشغل عن ولدك بكسب المال في سبيل أن يلبس ولدك أحسن الثياب، ويأكل ألذ الطعام؛ فهذه ترجمة خاطئة للمحبة، جعلت المحبة تتنفس باتجاه واحد وهو الحاجات الآنية العاجلة.

الترجمة الصحيحة للمحبة؛ أن تتفرغ لولدك؛ فتعلمه قراءة القرآن، والعقيدة الصحيحة، وتحببه بالله، وتحبب الله إليه، وتحببه برسول الله، وترشده لأحكام الإسلام.

قال رسول الله: “فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” [5].

 

[1] البخاري 5996
[2] البخاري 5652
[3] البخاري 1420
[4] أبو داوود 1522
[5] البخاري 4826