المحاضرة الثلاثون من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام للشيخ أنس الموسى: تربية الفتيات على الحجاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمرنا، و زدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

سيكون حديثنا في هذه المحاضرة عن قضية الحجاب الشرعي للبنات، و سنختتم بهذه المحاضرة موضوع التربية الدينية للأولاد.

لن نذكر ما اعتاد الفقهاء ذكره في موضوع الحجاب و أبواب ستر العورة، وما يجوز إظهاره منها، وما لا يجوز.

بل سنتناول موضوع الحجاب من حيث التربية، والتدريب عليه؛ وصولاً لتلتزم  الفتاة به عن قناعة، ورضاً. فالذي سنتحدث عنه كيف نرقى بفتياتنا للقناعة التامة بالحجاب الشرعي الذي يحقق رضا الله عزوجل.

مشكلة تحتاج لحل:

لقد فقد الحجاب الشرعي في الأسر المسلمة معناه، كما هو حالُ كثيرٍ من التعاليم، والفرائض الشرعية الأخرى .

حقيقة الإسلام أيها الإخوة إنه: صورةٌ، ومعنىً، شكلٌ، ومضمونٌ، فإهمال الشكل لا يرضي الله عز وجل، وكذلك التمسك بالشكل، وإهمال المضمون لا يرضي الله عز وجل أيضاً؛ فلابد إذا من مراعاة الشكل الذي فرضه الإسلام، والمضمون الذي يحقق العلة من تشريعه.

لو تكلمنا عن الحجاب لرأينا صوراً كثيرة لاتمثله فنرى على سبيل المثال:

صورة أولى: امرأة محجبة تخالط الرجال، وربما تمازحهم، وتتكلم معهم بطلاقة كأنهم أحد أقاربها المحارم، وكل مافي الأمر أنها تضع قطعة قماشٍ على رأسها حتى لايرى الناس شعرها..نقول لمثل هذه المرأة: لقد تمسكت بشكل الحجاب، وأهملت مضمونه.

صورة ثانية: امرأة تهمل غطاء شعرها، وتظهر مفاتنها أمام الرجال الأجانب، ولو سألتها عن هذا لقالت: العبرة بالعفَّة، والأخلاق، والتربية، وما تتحلى به المرأة من الوعي الذي يمنعها من الانحراف نحو الخطيئة.. نقول لهذه المرأة: لقد تمسكت بالمضمون كما تدَّعين، ولكنك أهملت الشكل .

ونقول للمرأة في كلا الصورتين: الإسلام دعانا لمضمون مغلفٍ بالشكل، ولاينفك أحدهما عن الآخر.

كيف نرقى بفتياتنا ابتداءاً من سن الطفولة، وصولاً لسن البلوغ، وهن متقبلاتٍ للحجاب الشرعي، متفاعلات معه عن اختيارٍ، ومحبة ورضاً لحكم الله عز وجل؟

سنذكر بعض الأمثلة العملية ثم نجيب عن السؤال:

مثال 1: فتاة وصلت لسن البلوغ، وربما تجاوزته (في سن 18-20) وهي غير محتجبة. نسأل والدها لِمَ لا تأمر ابنتك بالحجاب؟ فيجيب: أريد لابنتي أن تضع الحجاب عن قناعة، ورضاً من نفسها، فأنا لا أريد حجاباً قسرياً قهرياً.

نقول لهذا الأب، ونسأله: كلامك جيدٌ، ولكن ماهو المنهج الذي اتبعته لتصل ابنتك إلى هذه القناعة الشخصية؟، وما هو الجهد الذي تبذله للوصول لهذا الرضا الكامل عن الحجاب؟ هل شرحت لابنتك مثلاً: أن الله فرض عليها الحجاب، كما فرض عليها الصلاة؟ هل حدثت ابنتك عن فضل الحجاب، وأثره على سلامة المجتمع، والفرد؟ هل حضرت لبيتك إحدى الداعيات لتتحدث عن الحجاب بحضور بناتك؟ هل قرأت لها سِيَرَ السلف الصالح، وكيف كان حجابهن؟ هل اشتريت كتباً تتحدث عن الحجاب، وتركتها في متناول يد ابنتك لتقرأ مافيه؛ فتتعرف على الحجاب؟ هل هل هل..؟

الحقيقة لم يفعل الأب كل هذه الأشياء، ولا حتى بعضها، وإلا لالتزمت ابنته الحجابَ ولكنه أهملها، ولم يرشدها؛ ظناً منه أنها سوف تتحجب بنفسها، وما درى هذا الأب ما تفعله وسائل الإعلام من شيطنة الحجاب؟ وما درى هذا الأب ما يفعله الشارع، والسوق، والمدرسة من تشويه صورة الحجاب الشرعي؟ وما درى الأب ما تبثُّهُ الصدِيقَةُ السيئة في عقل ابنته من تبغيضٍ للحجاب؟ وما عرف الأب الأخطاء الكثيرة التي تفعلها بعض القريبات، وما يقلنه أمام ابنته بما يؤثر سلباً على قناعتها بالحجاب؟…كل ما سبق، وغيره كثيرٌسيقف أمام رغبة الأب بقناعة ابنته بالحجاب دون طلب منه. ومايزال الأب يتمنى أن تضع ابنته الحجاب عن قناعة، وهيهات ذلك!!

مثال2: فتاة في الصف الخامس من المرحلة الابتدائية تطلب من والدها أن تضع مثل الحجاب الذي تحتجب به والدتها؛ فيرفض الوالد طلب ابنته؛ باعتبار أن ابنته صغيرة ولكن الفتاة تصر فوعدها أبوها لو أنها نالت المرتبة التامة في الصف السادس؛ فإنه سيحضر لها نفس حجاب والدتها. وفعلاً اجتهدت الفتاة، ونالت المرتبة الأولى ووفَّى والدها بما وعدها؛ فجعل الوالد مكافئة ابنته على تفوقها حجاباً كحجاب والدتها.

ما الفرق بين الصورتين؟ الجواب: الفرق هو منهج التربية.

والآن ننتقل للحديث كيف نرقى ببناتنا لتقبُّلِ الحجاب عن رضاً، وقناعة، وحب

1-أول مرحلة هو أن تكون والدة الفتاة محجبةً بظاهرها، وسلوكها، وفكرها، ولسانها: كثيرة هنَّ النساء اللاتي يتكلمن عن الحجاب بانزعاج، وضيقٍ وتضجرٍ أمام البنات الصغيرات؛ فتسمع الطفلة هذه الكلمات التي تنال من قيمة الحجاب فتتشكل لديها قناعةٌ، وصورةٌ سيئةٌ عن الحجاب.

لو امتلكت الأم فكر القناعة بالحجاب، والثقة بحكم الله عزوجل، وتذوقت الآيات، والأحاديث الدالة على فرضية الحجاب كقول الله عزوجل: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) [الأحزاب 59] لتأثرت ابنتها بها دون بذل كثير جهد، وهذا مايسمى التربية بالقدوة.

ما أجمل أن تذكر الأم أمام بناتها ماقالته السيدة عائشة عن نساء الأنصار: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت (يا أيها النبي قل لأزواجك) [الأحزاب 59] شقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فاعْتَجْرنَ بها[1]، الاعتجار بالعمامة هو: أن يلفها على رأسه، ويردَّ طرفها على وجهه، ولايعمل منه شيئاً تحت ذقنه.

 وتذكر لها قول السيدة عائشة أيضاً: “يرحم الله نساء المهاجرين لما أنزل الله: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) [النور31] شققن مروطهن فاختمرن بها”[2]

فاختمرن بها: أي غطين وجوههن.

2-تشجيع البنت على الحجاب، وهي صغيرة يرسِّخُ في نفسها حبَّ الحجاب، وحب العفة، وحب البعد عن الرجال الأجانب..

3-إن سماح الأم لابنتها الصغيرة أن تخرج بدون حجاب، أو تلبس لباساً متهتكاً، ويُظْهِرَ الناس لهذه الفتاة الإعجابَ بجمال شعرها، وجمال قوامها، ومظهرها الجذاب باللباس الفاضح؛ يؤدي لأن تتذوق الفتاة الصغيرة لذة إعجاب الناس بها؛ فتتعشق هذا النوع من المظهر لأنه يعود عليها بمدح الناس، وثنائهم؛ وبالتالي لن تتمكن هذه الأم المهمِلة من ضبط عواطف ابنتها، لو وصلت لسن البلوغ. والسبب: أن الأم تأخرت كثيراً بتدريب ابنتها على الحجاب؛ لهذا لابد من السير مع الفتاة بموضوع الحجاب شيئاً فشيئاً حتى نصل لقناعة الفتاة بالحجاب قناعةً تامةً لاتتأثر معها بكلام الناس مهما كان هذا الكلام.

4-الشارع والسوق يَحُوْلَان ِدون تعلُّق الفتاة بالحجاب الشرعي. فالتجار همُّهُم مايحصلون عليه من المال، ولايهمُّهم أعراض المسلمين فيصنعون الألبسة الفاضحة التي لا تتناسب مع أخلاقنا، ومبادئنا، وديننا، وأحكام شريعتنا. فاليَخْشَ الصنَّاع والتجار الله عزوجل من تسويق المنتجات التي تغري الفتاة بالسفور، وقلة الحياء.

5-الطفل الصغير ليس له عورة؛ ومع هذا يجب تعويده حدودَ العورة بشكل مستمرٍ، وألا نسمح له بإهمال الأمر. فعلى الأم متابعة أولادها في عدم إظهار عوراتهم وخصوصاً السوأتين؛ من خلال النصح الدائم، ومن خلال اختيار اللباس الساتر للعورة؛ فهذا يغرس الحشمة، والعفة في نفس الأطفال ذكوراً وإناثاً.

6-تشجيع الطفل المحتشم؛ بمكافئته، بالإضافة للاهتمام بإحضار البنت الصغيرة حفلة تكريم إحدى الفتيات الكبيرات لوضعها الحجاب الشرعي؛ لترى الصغيرة اهتمام الناس بالحجاب. فهي ترى كيف يحتفل الناس بأختها، ويقدمون لها الهدايا فقط لأنها وضعت الحجاب؛ فيكبر الحجاب في نفس الصغيرة، وتتشوق له، وتتمنى لو تكبر؛ ليحتفل الناس بها أيضاً.

ما أجمل أن يسير الأب بجانب ابنته المحجبة في الشارع؛ فيخبرها بأنه يعتز بها لوضعها الحجاب، وأنه يسير بالشارع مرفوع الرأس بعزةٍ، وكبرياءٍ، وفخر؛ٍ لأن ابنته استجابت لأمر الرحمن لها بالحجاب؛ فتشعر البنت بعزة انتمائها لتعاليم الله عزوجل، ومرضاته فيزيدها تمسكاً بالحجاب، ولن تتنازل عنه مهما حدَّثَها الأفاكون بالسوء عنه.

7-من الأخطاء الشائعة بين المسلمين تقسيم لباس المرأة إلى قسمين: لباس للشابات، ولباس للكهول. فلباس الفتيات: ألوانه زاهية، ومطرز بالنقوش، وغيرها، بينما لون لباس الكهول فهو القاتم الأسود الخالي من صور الزينة؛ إن سبب هذا التقسيم هو جهل الناس بالعلة التي شُرِعَ لها الحجاب. فالحجاب ليس للزينة بل هو لسَتْرِ الزينة فإذا كان الحجاب مزيَّناً صار لإظهار الزينة لاسترَهَا، وهو مايخالف شِرْعَة الحجاب؛ فهذا التقسيم خاطئ. فقد قال تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن…) [النور31]

8-من الأخطاء التي تنفِّرُ الفتيات عن الحجاب هو قَرْنُ الحجاب وعن قصدٍ بالتخلف، والفشل بالدراسة وغيرها، والسفور بالنجاح فيها، وهنا يكمن دور الوالدين في توضيح الصورة، وإزالة الغشاوة حيث لابد من دحض هذه الصورة من أذهان  المحجبات، وإظهار أن المحجبات هنَّ الناجحات المتفوقات، وإن كان الكارهون للحجاب يصدِّرُون للمجتمع هذه الصور القاتمة للحجاب، لكن العكس هو الصحيح؛ حيث أن المحجبات بالجملة هنَّ أكثر تفوقاً من غيرهن.

9-الرد على الشبه التي تدَّعي أن المرأة مظلومة؛ لأنها تضع الحجاب، وتوضيح أن الحجاب سياج، وحماية للمراة من الطامعين الذين يريدون أن تكون المرأة للذة فقط.

10-تقديم الأب كل فترة رسالة إيجابية عن أهمية الحجاب كذكر آيات الحجاب، والأحاديث، وذكرصورٍ من حجاب الصحابيات، وحرصهن عليه، وصور من الفتيات المحجبات المتفوقات؛ فبعد فترة سيعلَقُ في قلب الفتاة مئات الصور المضيئة للحجاب.

11-الحذر من جعل الحجاب زِيَّاً من الأزياء، يتغير بتغير أذواق الناس؛ فيصير موضةً لافريضةً.

12-زرع الثقة في نفس الفتاة بحجابها، وأن الذي ينبغي أن يستحي هو المرأة السافرة التي تركت الحشمة، والفضيلة، فهي أجدر بالحياء لا المحجبة المحتشمة.

13-لايصح ربط الأخطاء التي تصدرمن بعض المحجبات بالحجاب ذاته، فالحجاب فريضة على الفتاة كبقية فرائض الدين، وإنَّ خطأ المحجبة بأحد الفرائض لا يقدح في الحجاب بل الإثم، والعقاب ينصرف لنوع المخالفة التي تقع بها الفتاة فلو قصرت الفتاة بالصلاة مثلاً؛ فعقابها ما جعله الشارع رادعاً لهذا التقصير، ولو قصرت الفتاة في بيتها فجزاؤها جزاء تقصيرها في بيتها، وكذلك لو قصرت في تربية أولادها، وكذلك لو قصرت مع زوجها..كل هذا لاعلاقة له بموضوع الحجاب.

اللهم احفظ بنات المسلمين من مضلات الفتن ما ظهر منها، وما بطن.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

________

[1]:عزاه السيوطي في الدر المنثور لابن مردويه.

[2]:رواه البخاري 4758