المحاضرة الثانية من سلسلة تربية الأبناء للشيخ أنس الموسى: إضاءات حول منهج تربية الأبناء

يقدم لنا فضيلة الشيخ سلسلة في فقه تربية الأولاد على المنهج الإسلامي الصحيح، مع تناول دلالاته في القرآن والسنة والتراث، ومع بيان شروط ومقتضيات وثمار هذا المنهج التربوي، وإبراز واجبات المربي ومسئولياته.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا، وزدنا علما يا كريم.

وبعد:
نحن اليوم مع المحاضرة الثانية من سلسلة محاضرات تربية الأبناء، وقد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أهمية قضية التربية، وأن الإنسان الذي تغيب عنه هذه القضية قد فاته خير كثير.

تكلمنا عن بعض المشكلات التي تواجهنا في قضية تربية الأولاد، وخصوصًا مشكلة تربية الأبناء بالتجربة، والانفعال دون خطة، أو منهج نسير عليه؛ مما يتسبب بنجاح البعض، وفشل الكثير من المربين.

واليوم نسأل هل من الضروري تربية الأولاد على منهج محدد، وخطة محددة، أم نترك الأمر يعالج تلقائيا؟ لا شك أن وجود المنهج خير من عدمه.

لو أردنا تشغيل آلة ما لابد أن يكون عندنا تعاليم التشغيل؛ فكيف بالولد الذي هو أعقد مخلوق بما ركب فيه من غرائز، وفطر؟ ففيه العقل، والقلب، والجسم، والنفس وهناك الأخلاق، والشخصية العامة، ولكل جزء من هذه الأجزاء غذاؤه وحاجته، فحاجة القلب تختلف عن حاجة البدن، وغذاء البدن يختلف عن غذاء الروح، وهكذا
فإذا لم يكن لدينا منهجية واضحة فكيف سنتعامل مع هذه الأجزاء؟

المشكلة أن كثيرًا من الآباء، والأمهات يعتقدون أن قمة التربية هي الاهتمام بمطعم أولادهم، ومشربهم، ونظافتهم، وصحتهم، وهم صغار، ثم إذا كبروا قليلا تغير نوع التربية؛ فيتوجه الاهتمام لقضايا أخرى. لكن المشكلة أن كل هذا لا يسير على منهج واضح، وخطة رشيدة، بل على حلول انفعالية تحرك الوالدين أحيانا، وتسكّنهم في أحايين أخرى، وأحيانا على تقليد بعض أساليب التربية لأشخاص آخرين تختلف طبيعة حياتهم، وتركيبهم؛ فنقع في ورطة إعطاء العلاج للشخص غير المناسب وهذا فيه ما فيه.

لا تلم ولدك لو أُخْبِرت أنه سارق … لماذا؟ لأنك لم تُسيّجه، وتسوّره بسور الفضائل. لم تذكر له أهمية الأمانة، وفائدة التحلي بالفضائل، لم ترسخ هذه القواعد في نفسه قبل أن يخالفها. لم تمدح له الصدق، والأمانة لتصبح جزءا من أخلاقه، ومبادئه ولكنك لمته على خطأه، والجدير بالملامة هو أنت قبل ذلك.

الطفل عندما يسرق، أو يكذب، أو يفعل مخالفة ما لم يكن يقصد فعل الرذيلة بعينها بل لأنه فقد المرشد، والموجه الذي يعلمه فضيلة الأمانة، والصدق وحسن الخلق.

هناك فرق بين أن تختار الحل المناسب للمشكلة (أن تكون فاعلا)، وبين أن تكون انفعاليا في طريقة حلها (منفعلا) … إن طريقة معالجة الخطأ الحاصل أول مرة تختلف عن طريقة معالجته عندما يتكرر.

فقدان المنهج جعلنا نتزوج وننجب ونربي الأولاد من غير خبرة.
لن يعدم الشاب الناصحين ليلة زفافه (بما يتعلق بالمعاشرة الزوجية)، ولكنه لن يجد ناصحا يعطيه منهجا لبداية أسرة صالحة من أول يوم.

الأم تجهز ابنتها قبل زفافها لزوجها بكل ما تحتاجه، لكنها لا تنصحها بسجادة صلاة ومصحف، وكتاب.

الطفل عالم كبير، والتعامل معه على أنه مجرد جماد مشكلة.
الطفل آلة معقدة تحتاج إدارتها لوضع المفاتيح الصحيحة في الأقفال المناسبة.
يجب على الآباء أن يكلفوا أنفسهم قراءة كتاب في مناهج التربية قبل فوات الأوان.
ليعرفوا مثلًا: أن طريقة تربية الكبير تختلف عن طريقة تربية الصغير.
جميل أن يقدم الأبوان النصح لأبنائهم لكن المشكلة أن يفكر الوالدان بدل أبنائهم.
لا تجعل من ولدك مجرد تابع لك، بل عّرفه الحق للسير عليه اختيارًا لا اضطرارًا.

طفلك يتلقف كل شيء حوله، ويبدأ بتشربه، واعتقاده، سواء كان خيرًا، أم شرّا. يلتقط الكلمات والصور، ويبدأ باعتناقها واعتقادها؛ فهو يتعود الصلاة والذكر والأخلاق في البيت الذي تشيع فيه الصلاة، والأخلاق والذكر، وهو يتعود الغناء والمجون، والميوعة في البيت الذي تنتشر في الأغاني، والميوعة والرذائل.

صدق من قال: “أدَبُ الرجل نفسَه أدَبُ أهله”
صدق رسول الله عندما قال: “ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه” [1].
لقد كان سيدنا أنس بن مالك إذا ختم القرآن جمع أهله وولده وأهل بيته فدعا لهم [2].
إن التأذين في أذن المولود ليس للبركة فقط؛ بل ليكون أول ما يطرق سمع المولود ذكر الله.

لقد علّم السري السقطي ابن اخته الجنيد رحمهم الله جميعًا، كلمات التعلق بالله ومراقبته من نعومة أظفاره فطلب منه أن يقول: الله شاهدي الله ناظري الله معي.

لقد حببه لله وحبب الله إليه.

نحن في زمن لم يعد الوالدان هما من يتولى تربية الأولاد فقط، بل المدرسة، والتلفاز والنت، والصديق، والشارع شركاء فيها.

إن الخطأ في تشغيل آلة ما يظهر مباشرة من خلال أداء هذه الآلة، لكن الخطأ في تربية الولد لا يظهر إلا بعد فوات الأوان. فلن تستطيع تقويم العود بعد أن يشتد ويتصلب.

إن الاختباء وراء عقيدة القضاء، والقدر، عند الفشل في تربية الأولاد، أو التقصير في تربيتهم مشكلة كبيرة؛ سببها رفع الملامة عن الوالدين المقصرين.

هل يعرف الوالدان ما خبئ لأولادهم في القضاء والقدر؟!

القضاء والقدر نثبته، ولا ننكره، وكل شيء مكتوب في صحيفة الولد موجود في اللوح المحفوظ، وهو في بطن أمه، والملَك إنما ينقل ما قدّر لصحيفة الولد؛ فالقضاء والقدر لا يرفع المسؤولية والتكليف قبل الفعل، ولا يرفع الملامة بعد الفعل.
إصلاح الولد، وهدايته على الله، ولكن ماذا عن الأسباب التي كلفنا الله بها؟

ماذا نفعل بأمر الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التحريم: ٦]

ماذا نفعل بقول رسول الله: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع” [3].

التربية شيء والتسليم لقدر الله شيء آخر.

علينا أن نكثر الدعاء لأبنائنا لأن رسول الله يقول: “لا يرد القدر إلا الدعاء” [4].

بل على الوالدين أن يبكيا وهما يدعوان لأولادهما وأن يحرصا أن يرى الأبناء والديهم على هذا الحال، وأن يسمعاهم وهما يدعوان لهم.

اللهم وفقنا لمحابك وألهمنا مراشد الصواب والهداية … آمين.
صلّ اللّهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] البخاري (1330).
[2] الدارمي في سننه (2/560)، وينظر أبن أبي داوود في كتابه المصاحف.
[3] أبو داوود (495)، أحمد (6650).
[4] الترمذي في سننه (6/313).