المحاضرة الثالثة والعشرون من سلسلة تربية الأولاد في الإسلام للشيخ أنس الموسى: وسائل تربية الأولاد الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نستهديك لأرشد أمورنا وزدنا علماً ينفعنا.

وبعد:

اليوم سننتقل لقضية أخرى لها صلتها الوثيقة بالتربية؛ ألا وهي الوسائل التي يستخدمها المربي في تربية الولد، وهو بحث سيأخذ منا أكثر من حلقة لاستكماله. وقبل أن نبدأ بذكر هذه الوسائل لابد من توضيح بعض الأفكار.

أولاً: لابد ونحن نتحدث عن وسائل التربية، من الفصل الكامل بين وسائل التربية، والعقوبات التي هي وسيلة من وسائل التربية؛ لأن بعض الناس – ونحن نتحدث عن التربية- أول ما يَنْقَدِح في أذهانهم: التربية بالضَّرب؛ والحقيقة أن هذا المفهوم هو مفهوم أقسام الشُّرَط لا ميادين تربية الأطفال.

ماهي التربية؟..التربية هي تعهُّدُ الطفل، والأخذ بيده شيئاً فشيئاً حتى أبلغه الغاية المطلوبة، والمستوى المرجو، فهناك طفل نريد تربيته، وهناك غاية نريد أن نصل إليها في تربيته، وهناك وسيلة توصِّلُ بين الطفل وهذه الغاية.

مخطئ من يظن أن التربية معناها العقوبة فقط؛  فهذا يعني أني لا أربي الطفل إلا عندما يخطئ! فماذا نفعل بالطفل الهادئ الذي لايثير المشاكل، وهو على حاله كما وُلِدَ؟ مثل هؤلاء الأطفال لا يحتاجون للعقاب، أفلا يحتاجون أيضا للتربية؟!

التربية أيها الإخوة تكون بتخليص الولد من الأخلاق المذمومة؛ بتعليمه المحمود منها؛ ليكتسبها. فالتربية تَخْلِيةٌ، وتَحْلِيَةٌ؛ فالطفل يحتاج للترقية في أخلاقه، وسلوكه، ولابد أن ينموَ في أخلاقه، وسلوكه، وشخصيته كما ينمو في جسمه.

لو نظرنا في سيرة رسول الله لرأينا أن رسول الله ماضَرَبَ خادما،ً ولا امرأة. ألم يُرَبِّ رسولُ الله فاطمةَ رضي الله عنها؟ ألم يربِّ رسولُ الله أنسَ بن مالك؟ ألم يربِّ رسولُ الله الحسنَ والحسينَ وعلياً رضي الله عنهم أجمعين؟

ثانياً: الضرب هو أضعف، وآخر وسيلة في التربية، من حيث النتيجة فالضرب: حلٌّ للمشكلة بشكل آني فقط، بل قد ينشأ عن الضرب أثرٌ عكسيٌ، حيث يعتادُ الطفلُ عليه؛ فتفقدُ عقوبةُ الضربِ فوائدها؛ فالضرب يُسْتعمل بظروف معينة، وشروط شرعيةٍ معينةٍ أيضاً، إذ لا يجوز للمربي تجاوزها وإلا كان آثماً.

ثالثاً: كما أن الضرب أضعف، وآخر وسيلةٍ للتربية؛ كذلك لايجوز أن نستبعد الضرب عن كونه وسيلة من وسائل التربية، ولكن لا نجعله كل التربية، ولا نلغيه من أساليب التربية؛ بل نستعمل الضرب كما نستعمل الدواء، أو كما يستعمله الطبيبُ الحكيم في الزمان، والمكان المناسبين. فلابد من استبقاءِ الضربِ خياراً موجوداً، ولكن مع الحكمة في استعماله.

ملحوظات هامة تسبق ذكر وسائل التربية

1-لابد أن نعلم أن التربية ليست حصةً دَرْسِّيةً أسبوعية نعطيها مرةً أو أكثر في الأسبوع، ولو لم يَحِنْ وقتُها فلاتربية؛ بل التربية عمليةٌ مستمرةٌ لاتتوقف على وقت الكلام، وزمن العقوبة؛ لأن التربية في حقيقتها عملية ولادةٍ للطفل؛ لأن الطفل ينمو فإما أن ينمو نمواً صحيحاً، أو فاسداً؛ فلو كان نموه سيئاً تكون قد نَمَت فيه الصفات المذمومة، والأخلاقُ المَرْذُولة، ولَضَعُفَت فيه الأخلاقُ المحمودة.

الحقيقة: إن الطفل في كل لحظة من حياته يعيش حالةً من حالات التربية؛ فكل مَنْظَرٍ يراهُ سلبياً كان، أم إيجابياً؛ هو حالةٌ يَتَربَّى عليها، وكل مايسمعه يتربَّى عليه أيضاً، وكل موقفٍ يحدث  في بيته يتربى عليه، وكلُّ مايراه في الشارع موقفٌ تربوي له، حتى إهمالُ الوالدينِ تربيةَ الولدِ هو فصلٌ مِنْ فُصول التربية؛ لأن كل ماسبق، وغيره يشكل عاملاً إيجابياً، أو سلبياً في عقل الطفل بحسب الموقف الذي يعيشه.

لابد أن يتنبه الآباء إذا أنهم ليسوا الوحيدين الذين يعملون على تربية أبنائهم؛ بل هناك من يشارِكُهم هذا الدَّورَ؛ فالطفل يتشبَّهُ بالآخرين، ويقلِّدُهم في مايراه، ويسمعه.

2-لايجوز أن يعاقِبُ الوالدان أبنائَهُم على أخلاقٍ ربَّيَاهُم عليها؛ فلا يجوز أن يعاقِبَ الوالدُ المُدَخِّنُ ولدَه، لورآهُ مُدَخِّناً؛ لأنَّ الولد الذي طالما رأى والده، أو والدته يدخِّنَان؛ فهو ينتظر اللحظة التي يصير فيها مدخِّناً كقدوته.

صدق أبو الأسود الدؤلي إذ يقول:

وإذا عَتَبْتَ على السَّفيه ولُمْتَه في مثلِ ما تأتي فأنتَ ظَلومُ

لاتَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتِيَ مِثْلَه      عارٌ عَلِيكَ إذا فَعَلتَ عظيمُ

ابدأ بنفسكَ وانهها عن غِيِّهَا فإذا انتهت عَنْهُ فأنتَ حكيمُ

فهناك يُقْبَلُ ما وَعَظْتَ ويُقْتَدى بالعِلْم مِنْك ويَنْفَعُ التعليمُ

3-يجب تنويع الوسائل التربوية، وفشل وسيلةٍ من وسائل التربية؛ لايعني فشلَ التربية؛ فلا بد من البحث عن وسيلةٍ تربويةٍ أخرى، أو التفتيش عن الظروف التي تَحُولُ دون تحقيق هذه الوسيلة أثرَها في التربية، فكثيراً ما يكون سببَ فشل التربية هو بسبب الوسيلة ذاتِها، أو في طريقة تطبيقها، والظروف المحيطة بها.

4-لايجوز، وأنت تربي ولدَك أن يَشْعر أنَّك عدوٌ له، أو أنك تكرهه؛ فلايجوز أن يشعر الطفلُ، وأنت تعاقبه أنك تَحقِدُ عليه، وتريد أن تَتَشفَّى منه، كما لايجوز للوالدين أن يصرِّحا في لحظةِ غضبٍ: إنهما يَكْرَهان ولدَهُما؛ بل لابد أن يُحسَّ الولدُ من والديه الرحمة عليه، والشفقة حتى، وهما يعاقبانه.

مهمة: سبب شعور الطفل أن أحد والديه، أوكليهما يكرهُه؛ هو أنهما عَجَزَا – في حالة الرِّضَا – عن إشعاره أنهما يُحبَّانه، ويشفقان عليه.

 لو فتشنا عن السبب في إحساسِ الولدِ البُغضَ من والديه؛ لرأينا أن والديه لم يكونا يعامِلانه على أساس الثواب، والعقاب؛ فلا يُثِيبانِه عند الاجتهاد، والنجاح، ولا يكافئانه على تفوقه، بل بمجرد وقوعه في الخطأ، والخلل؛ فإنهما يَلْجَآنِ مباشرةً لمعاقبته، وتوبيخه؛ فتنشأ علاقة فاتِرَة ٌبين الولد، ووالديه؛ لهذا لابد ان نحرِصَ على مكافئة الولد عند الإحسان فإن لم أجازيه على نجاحه، فلا يصح ان أعاقبه عند فشله، وسكوت الوالدين عند المواقف الإيجابية يُبْطِلُ مفعول كلامهم في المواقف السلبية.

ولنا في أخلاق النبوة خيرُ شاهدٍ، وأوضح مثال؛ فقد كان رسولُ الله يرى الصفاتِ الإيجابية في أصحابه، ويتحدث عنها كما قال لـلأشجِّ عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحِلْمُ والأناة”. رسولُ الله هنا لم يذكر الصفات الحسنة فقط؛ بل نبَّه الصحابيَ على وجودها فيه؛ لذلك سألَ الأشجُّ رسولَ الله: أنا أتخلق بهما أم الله جَبَلَني عليهما؟ قال:”بل الله جَبَلَكَ عليهما” فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.[1]

لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتَ أبي موسى الأشعري بالقرآن فقال له: “لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داوود”[2] وقال أعلمكم بالحلال، والحرام معاذ بن جبل، وقال: “لكل أمة أميناً وإنَّ أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح”[3] …هذه الكلمات تعطي سامعها معنويات عاليةٍ في التربية ودُفْعَةً قويةً بالاتجاه الصحيح.

لهذا لابد من تنمية العلاقة مع الأولاد ليَسْهُل عليهم تلقي الأوامر من الوالدين، ولانقصد بالأولاد: الأطفال فقط؛ بل حتى الكبار، فلابد أن تنمو العلاقة بين الشاب، ووالديه، وهو في الجامعة، أو في مراحل متقدمة من الدراسة؛ لهذا نقول: أعطِ ولدَكَ من الأهمية، والحب، والاحترام، والتقدير ما يحتاج؛ يُعْطِكَ ماتريد، وامْنَعْ ولَدَكَ ما يحتاج من الحب، والتقدير، والدعم النفسي؛ يَمْنَعْك، ويَعْصِكَ فيما تُرِيدُ.

5-ينبغي أن تكون وسائلُ التربية متناغمةً فيما بينها، لا متناقضة؛ فلا يصح أن نبني بوسيلةٍ، ونهدم بوسيلةٍ أخرى.

نتوقف عند هذا الحد، ونتابع في ذكر وسائل التربية في المحاضرة القادمة بمشيئة الله.

اللهم وفقنا لمحابِّك وألهمنا مراشد الصواب والهداية.

آمين آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

       وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

_________

 [1]: دلائل النبوة للبيهقي 2084

[2]: البخاري 4761

[3]: البخاري 3534