المبحث الرابع من الفرق بين «فوق» و«من فوق» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الرابع: الفرق بين (آناء) و(من آناء)
وردت آناء في ثلاثة مواضع اثنان منها بدون (مِنْ) وموضع مع (مِنْ)
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)}(3/113)
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ} (39/9)
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} (20/130)
(آناء) بدون (من) تفيد استغراق آناء وأوقات الليل حقيقة باستيعاب أوقات الليل أو حكما بأن يستغرق كثيرا من الليل كأنه قام جميع الليل، كما في قوله تعالى {قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا} التعبير بهذه الطريقة حيث لم يقل قم نصف الليل أو انقص بل قم الليل نصفه يفيد أن الأصل قيام كل الليل لولا أن طاقة البشر لا تطيقه، ويفيد ـ كما نص العلماء ـ أن قيام نصف الليل بمنزلة قيام الليل في الأجر، وحذف من ذكر في سياق المدح.
وأما ذكر (من) فهي تفيد التبعيض مع الابتداء أي التسبيح يبتدئ من الآناء ولا يستوفي، كما في خذ من الدراهم، وهي تذكر في سياق التكليف فلما ذكر مدح فعل كبار الأولياء ذكر الآناء بدون (من) لإفادة الاستيعاب أو قريب منه كما في {أمن هو قانت آناء الليل} {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب عبد الله بن سلام فهي تشبه {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}} {قم الليل إلا قليلا}، وأما في سياق التكليف فهو سبحانه ييسر عليهم فيقول من آناء الليل فسبح، كما سيأتي.
وإليك التفصيل:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ)(3/113)
قال أبو حيان:” {يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات الله، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن ـ ـ ـ وجاءت الصفة الأولى [يتلون] بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده وظاهر قوله: آناء الليل أنها جميع ساعات الليل، فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص، وإنما يكون ذلك من جماعة منهم؛ إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة “. يقول علي هاني: نحن مع أبي حيان رحمه الله في إفادة آناء للاستيعاب لكن على المعنى الذي ذكرنا؛لأنه أشد مدحا لا على المعنى الذي ذكره أبو حيان من أنه على التوزيع والله أعلم.

*******************

{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ}(39/9)
حذف (من) يفيد الاستيعاب وأنهم يقومون معظم الليل كقوله تعالى {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون} {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ويقوي هذا اسم الفاعل في قانت وساجدا وقائما، قال البقاعي وتبعه الخطيب الشربيني: {آناء الّيل} أي جميع ساعاته.
قال الفخر الرازي: وعن قتادة {آناء الليل} ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.
قال الأمثل: قوله تعالى: (قانت آناء الليل) وردت هنا بصيغة اسم فاعل، وكلمة (الليل) جاءت مطلقة لتشير إلى استمرار عبودية وخضوع أُولئك لله سبحانه.

**************************

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}
جاءت هذه الآية مع (من) التي تفيد التبعيض عند تكليف المسلمين فهو سبحانه ييسر عليهم فهو يقول: {من آناء الليل فسبح}، وأيضا الكلام هنا في التسبيح كما هو ظاهر القرآن وهو جزء من العبادات وإن حملنا الآية على الصلوات الخمس كما حملها جمع من المفسرين فالتبعيض أيضا ظاهر[1].
قال الطباطبائي: و{من} للتبعيض.
يقول علي هاني: وإذا نظرنا لهذه الآية الكريمة رأينا أنه لم يدخل (من) في شيء من الظروف إلا آناء الليل، فـ(قبل طلوع الشمس) و(قبل غروبها) كأنه يقول استوعب الوقت وكذلك أطراف النهار، أما الليل فاعتنى به عناية خاصة وأدخلت الفاء على {فسبح} لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد »، أي الأبوين، وقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}، ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه، ولكنه سبحانه خفف على هذه الأمة فقال ومن آناء ولم يقل آناء تخفيفا، ففي الآية اهتمام وفي الوقت نفسه فيها تخفيف، قال البقاعي: ” وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة [2]“.
ويشبه هذه الآية الكريمة قوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}الإسراء
نص على التبعيض فيها: الزمخشري وابن عطية وأبو حيان والبيضاوي وابن عاشور وسيد طنطاوي، قال الزمخشري: {وَمِنَ اليل} وعليك بعض الليل {فَتَهَجَّدْ بِهِ}. [3]
ومثلها {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}سورة ق
قال البيضاوي عند تفسيرها: {ومن الليل فسبحه} أي وسبحه بعض الليل.
وقال البقاعي: {ومن الليل} أي في بعض أقواته {فسبحه} بصلاتي المغرب والعشاء وقيام الليل لأن الليل وقت الخلوات وهي ألذ المناجاة.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}الإنسان.

قال الزمخشري عند تفسير هذه الآية: وبعض الليل فصل له.أو يعني صلاة المغرب والعشاء، وأدخل (من) على الظرف للتبعيض، كما دخل على المفعول في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ
قال الطبرسي: (ومن الليل فاسجد له) دخلت من للتبعيض، والمعنى: فاسجد له في بعض الليل، لأنه لم يأمره بقيام الليل كله.وقيل: فاسجد له يعني صلاة المغرب والعشاء.
قال البيضاوي: ومن الليل فاسجد له وبعض الليل فصل له تعالى ولعل المراد به صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص.
قال البقاعي: في قوله: {ومن الّيل} أي بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي فصل له صلاتي المغرب والعشاء، وذكرهما بالسجود تنبيهاً على أنه أفضل الصلاة، فهو إشارة إلى أن الليل موضع الخضوع، وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص ومزيد الفضيلة[4].
وبما سبق من النقولات يتبين لنا الفرق بين {آناء}و{من آناء}بدقة والله سبحانه الموفق.

 

[1] من الذين حملوا الآية على حقيقة التسبيح سيد قطب وسيد طنطاوي ودروزة قال سيد قطب: وسبح بحمده فترات من الليل والنهار.. كن موصولا بالله على مدار اليوم.. (لعلك ترضى).. قال سيد طنطاوي: أي: وعليك – أيها الرسول الكريم – أن تكثر من تسبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وفى ساعات الليل وفى ” أطراف النهار ” أي: في الوقت الذى يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الثاني منه، إذا في هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله – تعالى – والثناء عليه بما هو أهله، جلاء للصدور، وتفريج للكروب وأنس للنفوس، واطمئنان للقلوب.ويرى كثير من المفسرين، أن المراد بالتسبيح هنا، إقامة الصلاة والمداومة عليها.قال دروزة: وما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات وإليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة وغيره.انتهى ثم إن ذهبنا إلى أن آية سورة طه في الصلوات الخمس كما ذهب إليه كثير من العلماء فالتبعيض واضح لأن صلاة الفرض لا تستغرق كثيرا من الوقت بخلاف قيام الليل في الآيتين الأخريين من الذين حملوها على الصلوات الخمس جمهور المفسرين قال أبو السعود – {وَمِنْ آنَاء الليل} أي من ساعاته جمع إِنّى بالكسر والقصر، وآناء بالفتح والمد {فَسَبّحْ} أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاءُ إيذاناً باختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً}.
[2] ونص عبارة البقاعي كاملة: ” {قبل طلوع الشمس} صلاة الصبح {وقبل غروبها} صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله: {ومن آناء الّيل} أي ساعاته، جمع إنو – بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله {فسبح} أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذاناً بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال: {وأطراف النهار} ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:
«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الاية. وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن الفظ «آناء وأطراف» صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز – وهو أحسن – أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات – والله الهادي”.
[3] قال ابن عاشور: وقدم المجرور المتعلق ب تهجّدْ على متعلقه اهتماماً به وتحريضاً عليْه.وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء.وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها، وهو استعمال فصيح.ومنه قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26] وقول النبي: ففيهما فَجَاهِدْ، وتقدم عند قوله تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} في سورة [براءة: 7].وجَعل الزجاج والزمخشري قوله: {ومن الليل} في معنى الإغراء بناءً على أن نصب {وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] على الإغراء فيكون {فتهجد} تفريعاً على الإغراء تفريع مفصل على مجمل، وتكون (من) اسماً بمعنى (بعض) كالتي في قوله: {من الذين هادوا يحرفون الكلم} [النساء: 46] وهو أيضاً حسن.
[4]ابن عاشور: والتسبيح: التنزيه بالقول وبالاعتقاد، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة، وقال تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} [الطور: 48]، أي من الليل.وعن عبد الملك بن حبيب: و{سبحه} هنا صلاة التطوع في الليل، وقوله {طويلاً} صفة {ليلاً} وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه، عُلم أن {ليلاً} أريد به أزمان الليل لأنه مجموعُ الوقت المقابل للنهار، لأنه لو أريد ذلك المقدارُ كلُّه لم يكن في وصفه بالطول جدوى، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح، أي سبحه أكثرَ الليل، فهو في معنى قوله تعالى: {قم الليل إلاّ قليلاً} إلى {أو زد عليه} [الإنسان: 2، 4] أو يتنازعه كل من (اسجد) و{سبحه}.وانتصب {ليلاً} على الظرفية ل {سبحه}.وعن ابن عباس وابن زيد: أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها بناء على أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله: {وسبّحْه} إشارة إلى قيام الليل.وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربك وكن من الساجدين} [الحجر: 97، 98] وقوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتَّل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون} [المزمّل: 8 10].