المبحث الرابع من الفرق بين «بعد» و«من بعد» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الرابع: التفريق بين الآيات المتشابهات التي يذكر من في بعضها ويحذف في بعضها:
آيات متشابهة فيها مقارنة لتوضيح الفرق الدقيق:
الموضع الأول:
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)} (2/ 120)
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)} (2/ 145)
{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)} (13/ 37)
حاصل كلام العلماء في الآية:

القول الأول: ذكر من يفيد السرعة والمبادرة ببداية العمل والتأكيد.
قال محمد الأمين الخضري في التفريق بين الآيات الثلاث: فالآية التي وردت من فيها سياقها مختلف عن الآيتين الأخريين فالتي فيها من جاءت في سياق تشريع خاص بتحويل القبلة اتخذه أهل الكتاب وسيلة للتشكيك والتسلل إلى قلوب ضعاف الإيمان وهو يقتضى حسما في تحديد بداية الزمن الذي يعمل فيه بهذا التشريع والضرب صفحا عن محاولات أهل الكتاب إثناء المؤمنين من الانصياع لشرع الله ومن ثم جاءت من في قوله تعالى {من بعد ما جاءك من العلم} لتدل على المبادرة ببداية العمل بالتشريع فور نزوله والإعراض عن أراجيف أهل الكتاب والسياق كل أطرافه وحواشيه حسم وتأكيد بالغ على تباين المواقف {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ـ ـمن الظالمين} شديد كل الشدة حيث الوصف بالظلم في اتباعهم بخلاف تذييل الآيتين أخريين فهو إعلان عن التخلي عن نصرته
أما الآيتان الأخريان فهما سياق يكاد يكون واحدا هو التحذير من أتباع أهل بعدما أنزل على رسوله من العلم لأنهم سيعملون على الانحراف بدين الإسلام عن الحق ويميلون به إلى ما يرضي أهواءهم ويقرب من زيغ في عقائدهم وذلك دأبهم في كل أحوالهم وأزمانهم وليس في تشريع خاص يتطلب تحديد بداية العمل به ومن ثم كان سقوط من هو الأليق بهذا السياق
القول الثاني: لابتداء الغاية لأنها في آية القبلة وهي أمر مؤقت معين بخلاف غيرها، وفيها التوكيد أكثر.
قال ابن جماعة: ودخلت (من) في آية القبلة: لأنه في أمر مؤقت معين وهو: الصلاة التي نزلت الآية فيها أي: من بعد نسخ القبلة لأن (من) لابتداء الغاية، قال الكرماني: وزِيدَ معه “مِن”، التي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي حال العلم فيه بالقبلة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآيات، وليس الأول مؤقتا بوقت، وختم الآية الأولى بغليظ في
قال الكرماني: وزيدت مَعَه {من} الَّتِي لابتداء الْغَايَة لِأَن تَقْدِيره من الْوَقْت الَّذِي جَاءَك فِيهِ الْعلم بالقبلة لِأَن الْقبْلَة الأولى نسخت بِهَذِهِ الْآيَة وَلَيْسَت الأولى مُؤَقَّتَة بِوَقْت.
وَقَالَ فِي سُورَة الرَّعْد: {بعد مَا جَاءَك} فَعبر بِلَفْظ {مَا} وَلم يزدْ {من} لِأَن الْعلم هُنَا هُوَ الحكم الْعَرَبِيّ أَي الْقُرْآن فَكَانَ بَعْضًا من الأول وَلم يزدْ فِيهِ {من} لِأَنَّهُ غير مُؤَقّت وَقَرِيب من معنى الْقبْلَة مَا فِي آل عمرَان {من بعد مَا جَاءَك من الْعلم} فَهَذَا جَاءَ بِلَفْظ {مَا} وزيدت فِيهِ {من}
قال في بصائر ذوي التمييز:
وزيدت معه (من) الَّتي لابتداءِ الْغاية؛ لأَن تقديره: من الوقت الذى جاءَك فيه الْعلم بالْقبلة؛ لأَن الْقبلة الأُولى نُسِخت بهذه الآية، وليس الأَوّل موقَّتاً بوقت. وقال فى سورة الرّعد: {بَعْدَ مَا جَاءَكَ} فعَبَّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأَن الْعلم هاهنا هو الْحكم الْعربي أَي الْقرآن، وكان بعضاً من الأَوّل، ولم يزد فيه (من) لأَنه غير موقَّت. وقريب من معنى الْقبلة ما فى آل عمران {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} فلهذا جاءَ بلفظ (ما) وزيد فيه (من)
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل: ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: “ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ” بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ “من ” التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ “ما ” عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد (من) كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطي الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: “والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير “.
فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: “وما أنت بتابع قبلتهم “، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة.
قال الإسكافي في درة التنزيل:
فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة من فقال: (.. من بعد ما جاءك من العلم..) البقرة: 145 ولم يكن ذلك في قوله: (.. بعد الذي جاءك من العلم..) وهل لاختصاص هذا المكان بـ(من) فائدة تخصه دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي من وليست في الآيتين الأخيرتين، وهي: أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم وفي الليلة مؤقتة، فخص بمن التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: (.. ولئن اتبعت أهواءهم..) من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها، وأمرت بالتوجه نحوها صوت من الظالمين.
فلما تخصص بوقت مضيق محدود لم يكن بد في المعنى من العلم بالوقت الذي نقل فيه عن القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: (..قل إن هدى الله هو الهدى..) لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان، وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة من التي هي للحد وابتداء الغاية.
وكذلك الآية في سورة الرعد، لما كان العلم المانع من اتباع أهواءهم علما بأن جميع ما أنزل الله تعالى حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل، كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الفرض فيها بوقت يجب حده بزمان بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول من في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرت إليها في الآي الثلاث، وأنها تجوز أن تكون مقصودة والله أعلم: ما اقترن من الوعيد بكل واحدة منها، فالموضع الذي منعه بعلمه من اتباع أهوائهم في قوله: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة: 120، هو منع من الأعظم الذي هو الكفر، فكان الوعيد عليه أغلظ، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا نصير) البقرة: 120.
والآية الأخيرة أيضا، لما كان العلم بها مانعا من العمل بشطر من الدين، وترك شطر منه، كان مثل الأول في استحقاق الوعيد، وكان مثله في الغلظة، وهو قوله: (.. مالك من الله من ولي ولا واق) الرعد: 37.وأما اتباع أهوائهم في أمر القبلة، فلأنه مما يجوز نسخه، فكان الوعيد عليه أخف من الوعيد على ما هو الدين كله أو بعضه مما لا يجوز تبديله وتغييره، فصار الوعيد المقارن له دون الوعيد المقرون في الموضعين الآخرين، وهو قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إن إذا لمن الظالمين) البقرة: 145 أي إن فعلت ذلك وضعت الشيء غير موضعه ونقصت الدين حقه فهذا الكلام في الفرق بين المواضع الثلاثة.
قال السمين الحلبي: وجاء في هذا المكان {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} وقال قبلَ هذا: {بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ} [البقرة: 120] وفي الرعدَ: {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد: 37] فلم يأتِ ب ” من ” الجارةِ إلاَّ هنا، واختصَّ موضعاً ب ” الذي “، وموضِعَيْنِ ب ” ما “، فما الحكمةُ في ذلك؟ والجوابُ ما ذَكَرَه بعضُهم ـ ـ قال ” وأما دخولُ ” مِنْ ” ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم، والذي يقال في هذا: إنَّه من بابِ التنوعِ في البلاغة.
قال البقاعي: قال الحرالي: ـ ـ وجاءت فيه ” من ” التي هي لابتداء من أولية لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب، قال الحرالي: قال تعالى: {إنك إذاً لمن الظالمين}
القول الثالث: لأن هذا جزئي من عموم العلم
قال ابن عاشور: وإنما أدخلت (مِنْ) في هذه الآية الثانية على (بْعد) بقوله: {من بعد ما جاءك من العلم} لأن هذه الآية وقعت بعد الآية الأول في سورة واحدة وليس بينهما بعيد فَصْلٍ فكان العلم الذي جاءه فيها مِن قوله: {ما تبعوا قبلتك} هو جزئي من عموم العلم الذي جاء في إبطال جميع ملتهم، فكان جديراً بأن يُشار إلى كونه جزئياً له بإيراد (مِن) الابتدائية.
قال الشيخ زكريا الأنصاري: ولقلّة النوع في الثانية، بالنسبة إليه في الثالثة، زيد قبل ” ما ” في الثانية ” من ” الدالة على التّبْعيض
الراجح:
الراجح أن (من) تفيد ابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب المجازي.
فـ(من) تفيد ابتداء الغاية والتأكيد، فذكر من أفاد فيها معنى الابتداء أي اتباع الأهواء ناشئ ومبتدئ من بعدية مجيئ العلم، وهذا لا يقبل إن وقع وتشنيع لهذا الفعل،، وفيه التأكيد والتشديد في الوعيد، أي أنه صلى الله عليه وسلم ـ لو أطاعهم في البقاء على قبلتهم واتبع أهواءهم في ذلك من بعد ما جاءه العلم ببطلانها وحقية ما هو عليه ـ وحاشاه ـ لكان الانطلاق والبدء باتباع أهوائهم من بعد مجيء العلم وتحققه ـ إلى اتباع أهوائهم ـ ففيها قوة الوعظ والإنذار وتهديد شديد مؤكد وبيان فظاعة الفعل بعدها كما يدل عليه (من) وفيها تصوير أن هذا الفعل يعقب مجيء العلم فهو لا يقبل، وهذا التشديد والتأكيد بذكر من يتضمن الوعيد المناسب لأهمية الموضوع وهو قضية تحويل القبلة الذي أرجف فيه اليهود وشككوا الناس في دينهم فاحتاجت إلى الحسم، ويدل على التشديد أنه ختم الآية الأولى بغليظ وهو قوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” [1] ، في ذكر (من) أيضا دلالة على وجوب مخالفته صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب من أولِ الوقتِ الذي جاءه العلم فيه بتحويل القبلة، هذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق وفيه لطفٌ للسامعين وتحذيرٌ لهم عن متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك؟ أي: لئن اتبعت – يا محمد – قبلتهم – على سبيل الفرض، والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل.
قال ملاك التأويل:
ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: “ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ” بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ “من ” التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ “ما ” عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد من كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطى الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: “والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير “.
فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: “وما أنت بتابع قبلتهم “، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة.
حذف (من) فلأن السياق لا يحتاج إلى تأكيد، ولا سرعة ولا ابتداء شيء من شيء، فهي تفيد أن اتباع أهوائهم غريب بعد نزول العلم والدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة واليقين؛ بالوحي الإلهي المبين.وتقرره مااقتضى سكون النفس. والعمل به مدة طويلة، والسياق لم يحتج للتأكيد فلم توضع من وأيضا فيه النهي العام عن الاتباع في أي وقت[2].
قال ابن كثير: وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام
وسر اختيار من في آية القبلة أن السياق يحتاج إلى تشديد الإنكار والحسم فيه، وسر اختيار حذف من في الآيتين أن الكلام فيها على جميع الدين وقد تقرر وثبت واستقر وعمل به مدة فالاتباع لأهوائهم بعده مستنكر.
************************
الموضع الثاني من الآيات المتشابهات:
ورد في موضع واحد {فأحيا به الأرض من بعد موتها} بذكر (من) وذلك في سورة العنكبوت وأما في باقي المواضع الثمانية فقد ذكرها بدون (من) (بعد موتها):
{) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)}} 29/ 63)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} (2/ 164)
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} 2/ 259)
{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)} (16/ 65)
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) (30/ 19)
{23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} (30/ 24)
{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} (30/ 50).
{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)} (35/ 9)
{وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)} (45/5)
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} (57/ 17)
في توجيه هذا الاختلاف عدة أقوال:
أولا: الأقوال في توجيه حذف (من):
القول الأول: أن حذف من يدل على أمرين: الأمر الأول أن الإحياء كان بعد الموت وهي حالة منافية للحياة، والأمر الثاني: تدل على طول مدة موتها واستيلاء اليبوسة [3]عليها ففيها بيان قدرة الله تعالى في إحياء الأرض الميتة وإن طال موتها ويبسها واستولى عليها الجفاف، وأما ذكر (من) فهو يدل على قدرة الله تعالى تحويل الأرض من الموت إلى الإحياء وهي حالة منافية لها، تحويلها مباشرة ففيها بيان القدرة أن يحولها إلى الحياة مبتدئا سبحانه من الحالة المنافية لها وهي الموت يحولها مباشرة وفيها التأكيد وقوة قدرته سبحانه في هذا التحويل
قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني:
مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ)؟.جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته. قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء، لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة.
قال أبو السعود {قَالَ} أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار اليأس عنها {أنَّى يُحيِي هذه الله} وهي على ما يُرى من الحالة العجيبةِ المباينة للحياة، ـ ـ ـ وأياً ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن غيرِهم، وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل: {بَعْدَ مَوْتِهَا} وحيث كان هذا التعبيرُ معرِباً عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده،وقال أبو السعود: {بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء.
وقريب منه ما قاله الخطيب الإسكافي قال في درة التنزيل: الآية السابعة منها
والجواب أن يقال: إن التقرير يؤثَر فيه من تحقيق الكلام ما لا يوُثَر في غيره، والظروف إذا حدّت حقّقت، تقول سرت اليومَ، فإن قلت من أوله إلى آخره كان الجد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحدّ زال هذا الوهم. وقوله: (مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) تحقيق، لأنه محدود بـ “من ” وخصّ به التقرير، لأنه من أماكنه، وقوله تعالى في الآيتين الأخريين: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ليس فيه تقرير كما كانت الأولى، وإن كان يؤدّي معنى المحدود، إلا أنه ليس له لفظه، فاختلف الموضعان لما ذكرت.ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها
قال ابن عرفة: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَاقال ابن عرفة: وعطفه) قوله تعالى: {بَعْدَ مَوْتِهَا…}.ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟
القول الثاني:
قريب من الأول لكن قال في حذف (من) إنه يحتمل طول المدة وقصر المدة وذكر من يدل على السرعة واختاره السامرائي
قال السامرائي: جميع الآيات التي وردت بدون (من) إلا موضع واحد ورد مع من في العنكبوت {ولئن سألتهم ـ ـ من بعد موتها} فأنت ترى أنه لم يذكر من في ثمانية مواطن وذكرها في موطن واحد والسبب واضح وهو أن الآية في سورة العنكبوت تدول حول المشركين الذين يشركون بالله ويعبدون معه آلهة أخرى وهي تعجيب من عقولهم وإظهار لقدار تفكيرهم وباطلهم فهم يعبدون آلهة من الحجر أو من غيره في حين لو سألتهم {من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض ليقولن الله فهذا السياق يختلف عن كل ما سبق وهو نظير ما مر في منكري البعث فأدخل (من) في هذا الموطن للدلالة على مقدار قدرة الله وعظمها وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) يعني في لزمن الذي هو بعد الموت وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد أي يحصل الإحياء بعد إنزال الماء وقد يطول الزمن بعده أو يقصر كما ذكرنا في (بعد علم) ولكن (أحيا به الأرض من بعد موتها) معناه يكون الإحياء بعد الموت بلا مهلة ولا فاصل ومعنى ذلك أن الله قادر على أن يحيي الميت فورا بلا مهلة فهو لا يحتاج إلى زمن لإحيائه وهو أدل على قدرة الله وإن كان كلاهما من قدرة الله وحده وقد جاء بمن في هذا المقام للدلالة على أنهم يشاهدون ذلك ويقرون أن الله يحيي الأرض من الموت بلا مهلة ومع ذلك يعبدون غيره وهو نظير ما سبق فهي ليست زائدة للتوكيد ولكن لمعنى الابتداء ولو قال قائل إنها أدخلت توكيدا لأن المقام مقام توكيد لكان في قوله مندوحة ولكن الأولى إبقاؤها على معناه الذي أوضحناه
قال السامرائي في موضع آخر: ما الفرق بين قوله تعالى (من بعد موتها) في سورة العنكبوت مع أنه ورد في القرآن كله (بعد موتها)؟استعمال (بعد موتها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة، أما (من بعد موتها) فهي تدلّ على أنها بعد الموت مباشرة أي تحتمل البعدية القريبة فقط دون البعيدة. وإذا استعرضنا الآيات في سورة العنكبوت قبل الآية نجد أن الإحياء كله مباشرة بعد موتها وبدون مهلة ومجرّد العقل كان سيهديهم إلى أن الله تعالى هو القادر على إحياء الأرض من بعد موتها
قال الآلوسي -{والله أَنزَلَ مِنَ السماء ماء} تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوحيداً لما يعقبه من أدلة التوحيد {فَأَحْيَا بِهِ الأرض}، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد
قال نايف الشحوذ في جمعه لأبحاث الإعجاز ناقلا عن غيره: السؤال السابع
ولا بد لنا من معرفة الفرق بين التعبيرين لنصل إلى سبب اختلافه في الموقفين
(بعد موتها) تعبير احتمالي، يحتمل البعدية القريبة والبعدية البعيدة، فقد يكون إحياء الأرض بعد ساعة أو بعد شهر أو بعد سنة أو أكثر من بدء موتها
أما التعبير (من بعد موتها) فإن (من) فيه لابتداء الغاية، والمعنى أنه يحييها رأسا بعد الموت فهو دال على البعدية القريبة قطعا، وهو أدل على القدرة لأنه لا يحتاج إلى زمن ليحييها، بل هو قادر على إحياء الميت لحظة موته ولا يحتاج إلى زمن لإعادته
ولنعد لننظر إلى سياق المواقف التي وردت فيها الآيات لنتلمس سبب تخصيص كل سياق بتعبير منهما، فنجد أن سورة العنكبوت كان سياقها في محاكمة المشركين من ناحية عقلية: “وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ”
ثم جاء هذا السؤال عن إحياء الأرض، وهم قد أقروا بقدرة الله البالغة في الأسئلة السابقة وهذا السؤال يقول إنه يحيي الأرض بعد موتها مباشرة بلا مهلة، فهي قدرة بالغة (قل الحمد لله). هل هذا يدعوكم إلى الشرك، لذلك قال: (بل أكثرهم لا يعقلون) فنفى عنهم العقل لأن هذا يُعقَل حتى دون علم، فالعقل المجرد يهديهم إلى أن الله واحد لا شريك له، فنعى عليهم عدم استعمال العقول، وقبل هذا جاء أيضا في السورة نفسها قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ وهذا السؤال يقول إنه يحيي الأرض بعد موتها مباشرة بلا مهلة، فهي قدرة بالغة (قل الحمد لله). هل هذا يدعوكم إلى الشرك، لذلك قال: (بل أكثرهم لا يعقلون) فنفى عنهم العقل لأن هذا يُعقَل حتى دون علم، فالعقل المجرد يهديهم إلى أن الله واحد لا شريك له، فنعى عليهم عدم استعمال العقول، وقبل هذا جاء أيضا في السورة نفسها قوله تعالى: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ” في يوسف: {وما أرسلنا من قبلك} وفي الأنبياء: {وما أرسلنا قبلك} فِي النَّحْلِ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وفي العنكبوت: {من بعد موتها}”
*********************
القول الثالث: ان ذكر (من) يفيد التوكيد وأن حذفها لا يفيد التوكيد فذكرت (من) في العنكبوت لأن السياق يحتاج إلى تأكيد:
ابن عاشور والنيسابوري
قال ابن عاشور: اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: 19].وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها.
وَقد أَشَارَ قَوْله مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلَى مَوْتِ الْأَرْضِ، أَيْ مَوْتِ نَبَاتِهَا يَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْهَا فِي فُصُولِ الْجَفَافِ أَو فِي سِنِين الْجَدْبِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِكَوْنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ لِإِرَادَتِهِ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ حَيَاةٍ سَبَقَتْ مِنْ نَوْعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِمَاتَتِهَا، وَيعلم مِنْهُ أَن مُحْيِيَ الْحَيَوَانِ وَمُمِيتَهُ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. فَانْتَظَمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] إِلَى هُنَا أُصُولُ صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ: الْخَلْقُ، وَالرِّزْقُ، قال النيسابوري: ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وفي العنكبوت:
مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [الآية: 63] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب «من» للاستيعاب.
قال في أرشيف أهل الحديث: واما آية 63 من سورة العنكبوت,فان معرض الحديث عن انزال المطر وإحياء الارض من بعد موتها, فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم, ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة {من} في قوله {من بعد موتها} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم.
قال في ملاك التأويل: زيادة “من ” فى قوله فى العنكبوت: “من بعد موتها ” زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله “من نزل ” فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع فى الآيتين الأخرتين إلا لفظ “أنزل ” ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر فى الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة “من ” ليناسب بها فلم تقع فى الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة “من ” فى آيتى البقرة والجاثية وسقوطها فى آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه
القول الرابع: وهو قول البقاعي
أن حذف (من) يدل على أن الفعل مستمر متكرر يدل على أن عادة الله في إحياء الأرض مستمرة وأن أثره مستمر يستغرق ما بعد زمن الموت وأن ذكر من يدل على قرب الإنبات من زمن الموت
قال البقاعي ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت نفى الجار فقال: {بعد موتها} بعدمه وقال البقاعي – ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار؛ لأن المعنى به أبلغ فقال: {بعد موتها}،وقال البقاعي: ولما كانت الأرض ليس لها من ذاتها في الإنبات إلا العدم، وكان إحياؤها به متكرراً، فكان كأنه دائم، وكان ذلك أنسب لمقصود السورة 19 حذف الجار قائلاً: {بعد موتها} أي بيبسه وتهشمه. وقال البقاعي:
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائمة – على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال: {بعد موتها} بانعدام ذلك قال البقاعي”: ولم يأت بالجار إشارة إلى دوام الحياة بالقوة إن لم يكن بالفعل.وقال البقاعي {الأرض} اليابسة بالنبات. ولما كان هذا الوصف ثابتاً دائماً بالفعل وبالقوة أخرى، وكان حذف الجار هنا مقتضياً للتعميم قال: {بعد موتها} من غير ذكر الجارّ وكما أنه يحييها فيخرج بها النبات بعد أن كان قد تفتت وصار تراباً فكذلك يحيي بجمع أجسامهم وإفاضة الأرواح عليها كما
قال البقاعي: وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات، وإلى أنهم لا يعلمون إلى الجزئيات الموجودة المحسوسة، ولا تنفذ عقولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ أهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجده سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الذي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال: {من بعد موتها} فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك،
الراجح:
أن ذكر (من)تفيد ثلاث فوائد الابتداء والنقل من الموت وهي حالة منافية للحياة ينقلها للحياة، وفيها التأكيد والسرعة:
فذكر من يفيد ابتداء الغاية وأن الإحياء كان ناشئا ومبتدأ من الموت وهي حالة بعيدة ومنافية للحياة، ويفيد التأكيد فقد تمكن موتها وتحقق ومع ذلك يحييها، وهذا دليل على القدرة التامة، سرعة القدرة التي تحول الميت إلى الحي وأنه يحييها رأسا بعد الموت فهو دال على البعدية القريبة قطعا وكما قال العلماء والظروف إذا حُدّت حقّقت
وقوله تعالى في الآيات الأخرى {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)
حذف من يدل على معنيين:
أولا: أن التركيز أولا على أن شيئا بعد شيء أي الإحياء بعد الموت وليس المراد ابتداء شيء من شيء ولا سرعة ولا تأكيد؛لأن السياق لما كان سياقه لا يحتاج إلى توكيد أتى بـ(بعد موتها) فليس فيه ابتداء ولا تأكيد ولا سرعة فلذلك لم يقل من بعد موتها.
وثانيا: لأن المراد أن الله سبحانه يحييها بعد مدة طويلة من موتها وتحقق الموت وتقرره فمدة الموت قد طالت وتأخرت ومع ذلك أحياها فالتركيز على كمال التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها
وهذا مناسب للاستدلال فقد استدل بهذه الآيات على قدرة الله تعالى على البعث ولو طالت المدة وصاروا ترابا يبعثهم قال ابن كثير ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي: إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات، {إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قال ابن عرفة ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها[4].
****************************
الموضع الثالث: من الآيات المتشابهات:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل (16/ 70)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كنتم في ريب من البعث ـ ـ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} (22/ 5)
في الفرق بين الآيتين الكريمتين أقوال:
القول الأول:
أن حذف (من) يدل على طول مدة علمه وأنه بعد هذا العلم الكثير الذي دام معه سنوات طويلة ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يتحول إلى أنه لا يعلم شيئا، وهذا فيه بيان قدرة الله تعالى في تحويل الإنسان من حالة إلى حالة، ولكن ليس فيها تأكيد ولا ابتداء ولا سرعة لأن (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداءوانتهاء، لان السياق لا يقتضي التأكيد كالذي في سورة الحج الذي كان فيه الاستدلال على البعث.
وأما ذكر (من) فمن تدل على ابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب، ففيها بيان أنه سبحانه قادر على نقله من حالة العلم إلى حالة أخرى مغايرة لها تماما ففيها بيان القدرة أن يحوله إلى الجهل مبتدئا من الحالة المنافية لها وهي العلم مع التأكيد أنه ينقلها من حالة تحقق العلم إلى حالة لا يعلم معها شيئا مباشرة، لأن سياق سورة الحج يقتضي هذا التأكيد، هذا هو المناسب للاستدلال على قدرة الله على البعث الذي بدأت فيه الآية {إن كنتم في ريب} فذكر (من) في السياق الذي احتاج إلى مزيد التأكيد.
هذا من ناحية المعنى وأما من ناحية اللفظ والتشاكل والتناسب اللفظي ففي كل سورة وضع ما يناسبها فلما ذكرت من كثيرا في سورة الحج في آية {وإن كنتم في ريب} ناسبها ذكر من بخلاف سورة النحل كما سيأتي
قال البقاعي: ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت ” من ” الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم.
قال البيضاوي: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه، والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة، فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره.
قال أبو السعود: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ} أي علمٍ كثيرٍ {شَيْئاً} أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من العلمِ مبالغةً في انتقاصِ علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه. وفيهِ من التَّنبيهِ على صحَّةِ البعثِ ما لا يخفَى
القول الثاني: قول السامرائي قوله قريب جدا من القول الأول لكن خالف في حذف من
ذكر (من) يدل على السرعة وأن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام وأجاز أن يكون ذكر من يفيد التوكيد، وأما حذف من فهو يدل على أنه احتاج إلى وقت طويل ليتحول إلى هذه الحالة.
قال السامرائي في معاني النحو: فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث وإيضاح بالغ قدرة الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا، فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمر فيجهل من بعد العلم إلى غير ذلك من مظاهر قدرة الله فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) معناه أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام
أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث
ومن قال بالزيادة للتوكيد لأن المقام مقام توكيد فقوله ليس بمطرح لكن الاولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن.قال السامرائي في لمسات:
“لكي لا يعلم بعد علم” تحتمل الزمن الطويل والوصل أما قوله (لكي لا يعلم من بعد علم) فهي مباشرة بعد العلم فلمّا احتمل الفاصل فصل (لكي لا) وعندما وصل بينهما وصل (لكيلا)
القول الثالث: وافق القول الأول والثاني في ذكر (من) وخالفهما في حذفه فقال في سر الحذف ليدل على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم أي إلى الموت.

قال البقاعي: ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت ” من ” الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال: {من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض.قال البقاعي في الحج: {ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال: {بعد علم شيئاً}
القول الرابع: قول ابن جماعة قال في كشف المعاني في المتشابه من المثاني الحج: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) بزيادة (من)؟ جوابه:أن (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداءوانتهاء، فلما أتى ما قبل آية النحل مجملا جاء بعده كذلك مجملا، وفى الحج أتى ما قبلها مفصلا من ابتدائه بقوله تعالى: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) إلى آخره بعده كذلك مفصلا من ابتدائه مناسبا لما تقدمه من التفصيل
القول الخامس: أرجعه للتناسق مع ما قبلها في الإجمال والتفصيل فـ(من) مزيدة للتشاكل.
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل: والجواب: أن سبب ذلك – والله أعلم – التناسب وتشاكل النظم ومراعاة اللفظ ألا ترى إلى تكرر ((من)) في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5)، فقد تكررت لفظة ((من)) هذه في هذا الآية في ستة مواضع، الخمسة منها قبل قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) والواحدة بعدها، وكلها محرزة معناها الذي جيء بها من أجله إلا التي في قوله: (من بعد) إذ النظم مع سقوطها (ملتئم) والمعنى تام، فاستوى وجودها وعدمها، فاستدعاها سياق آية الحج للتشاكل والتناسب في النظم، ولم يكن في آية النحل ما يستدعيها إذ لم يرد ما يقتضيها، فورد كل على ما يجب ويناسب، ولا يمكن العكس والأولى في قوله: (من البعث) لابتداء الغاية وما بعدها للتبعيض إلا التي في قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) فإنها زائدة رعياً للفظ لا النافية، وإن كانت هنا مزيدة
قال في درة التنزيل: والجواب أن يقال: ذكر في سورة النحل الجملة التي فصّلت في سورة الحج، وكانت لفظة “بعد” لجملة الزمان المتأخر عن الشيء، قال: (والله خلقكم) فأجمل ما فصّله في السورة الأخرى، وبعده: (ثم يتوفّاكم ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئاً) أي: يعزب عنه في حال الهرم ما كان يعلمه قبل من الحكم ويستدركه من الآراء المصيبة، ويرتكبه من المذاهب القويمة، فكان هذا موضع جمل لا تفصيل معها ولا تحديد، ولم يكن كذلك الأمر في سورة الحج، لأنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ…)
، يعنى أصلكم، وهو آدم عليه السلام، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أولاده (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ…) فذكر تفصيل الأحوال ومباديئها فقال: من كذا وكذا لابتداء كل حال ينتقل منه إلى غيره، فبنى ذكر الحال التي ينتقل فيها من العلم إلى فقده على الأحوال الى تقدم ذكرها، فكما حدّد أوائلها بـ “مِن” كذلك حدّد الحال الأخيرة المتنقلة عمّا قبلها بـ “مِن” فقال: (من بعد علم) أي فقد العلم من بعد أن كان عالما، فباين الموضعَ الأولَ لذلك.

القول السادس: (من) زائدة للتوكيد.
قال ابن عاشور – وقوله {من بعد علم} أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر. و(مِن) الداخلة على (بعد) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة (مِن) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت بـ (من) في قوله تعالى: {لكي لا يعلم بعد علم شيئاً} في [سورة النحل: 70]. والآيتان بمعنى واحد فذكر (مِن) هنا تفنّن في سياق العبرتين.

القول السابع: جعل المعنى أنه يصير نساءا فمن ابتدائية تدل على غاية سرعة نسيانه لشيء كلما علمه.
قال الزمخشري: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} أي: ليصير نسَّاء بحيث إذ كسب علماً في شيء لم ينشب إن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته، يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان، فما يلبث لحظة إلا سألك عنه
قال الطبرسي (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) أي: لكيلا يستفيد علما، وينسى ما كان به عالما. وقيل: معناه لكي يصير إلى حال ينعدم عقله، أو يذهب عنه علومه هرما، فلا يعلم شيئا مما كان علمه. وإذا ذهب أكثر علومه جاز أن يطلق عليه ذهاب الجميع.
الراجح: هو القول الأول وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، ويتفق معه القول الثاني والثالث في ذكر من وأما في حذفها فلا يصح، وأما القول الرابع والخامس والسادس فكل ما ذكروه صحيح لكنهم اقتصروا على طرف مما يدل عليه ذكر من وحذفها وأما السابع فليس المعنى عليه والله أعلم.

****************************

الموضع الرابع:
ومثله {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} (2/109
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} (3/100)
ذكر (من) في الأولى ولم يذكرها في الثانية: في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ذكر من يفيد القرب بخلاف حذفها يفيد مدة أطول.
قال السامرائي: ففي الآية الأولى ذكر (من) وفي آية آل عمران لم يذكرها، وذلك أنه ذكر في الآية الأولى أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين أي بلا مهلة حسدا من عند أنفسهم فهم يتمنون الإسراع في تكفيرهم، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا.
في حين أن آية آل عمران تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم شيئا فشيئا حتى يردوهم بعد الإيمان كافرين، وليس معناه أنهم ينقلونهم فورا من الإيمان إلى الكفر ولكن معناه أنهم يضلونهم شيئا فشيئا حتى يخرجوا الإيمان من قلوبهم فالأولى مقام تمن والثانية مقام تحذير من الإضلال
قال البقاعي: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100] يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد: {بعد إيمانكم كافرين} أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها.
القول الثاني: من للابتداء
قال السمين الحلبي: و” مِنْ بعدِ ” متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و” مِنْ ” لابتداءِ الغاية قوله: ” مِّن بَعْدِ مَا ” متعلِّقٌ ب ” وَدَّ “، و” مِنْ ” للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ.
قال الآلوسي: {بَعْدَ} يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين، وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع، إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه.
قال ابن عاشور: وقوله {بعد إيمانكم} تأكيد لما أفاده قوله {يردّوكم}، والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
القول الثالث: (من) للتبعيض.
قال البقاعي: ولما كان المشركون عرباً عالمين بأن طبع العرب الثبات لم يدخلهم معهم في هذا الود وقال: {من أهل الكتاب} فأنبأ أن المصافي منهم قليل وبشر سبحانه بأن ما يودونه من قسم المحال بسوقه سوق المتمني فقال: {لو يردونكم} أي بأجمعكم؛ ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال: {من بعد إيمانكم}.
الترجيح:
ذكرت (من) في الآية الأولى يفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد والسرعة؛:
فـ(من) تفيد أولا ابتداء الغاية وأن الرد يكون مبتدئا وناشئا من تحقق الإيمان لإظهار كمال شناعة الكفر بعد تحقق الإيمان وفيه بيان أنهم قد فاتتهم نعمة عظيمة بفوات الإيمان، وفيها التأكيد أي تأكيد أنهم يريدون ذلك من بعد تحقق إيمانكم، لأنها في سياق رد شبهات اليهود في النسخ التي زلزلوا بها بعض قلوب الناس[5] ، كأنه قال سينقلونكم من تحقق إيمانكم وثباته إلى الكفر فستفوت نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون،، وفيها بيان السرعة في النقل من الإيمان إلى الكفر، لأنه سياق تمن، وهم يتمنون التحويل من الإيمان مباشرة إلى الكفر.
بخلاف السياق الثاني [6] فهو فأقل تأكيدا، لذا حذفت (من) فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة، بل تفيد معنيين:
المعنى الأول: تفيد أنهم يردونهم بعد الإيمان كافرين، وهذا شيء شنيع فالتركيز فيها أن شيئا بعد شيء فليس فيها الابتداء والتأكيد ولا السرعة.
المعنى الثاني: أن الرد للكفر يكون بعد الإيمان وتقرره وثبوته، وأنهم يردونهم بعد تقرر إيمانكم وتحققه بعدما رسخ وطال الإيمان وذاقوا حلاوته، يردوكم من الإيمان الراسخ الذي طال منكم إلى الكفر، ويستدرجونكم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية، وليس فيها التركيز على الإسراع بل قد يطول أو يقصر، ولكن التركيز فيها أن الرد للكفر يكون بعد الإيمان وتقرره وثبوته فترة طويلة، وأنهم يردونهم بعد تقرر إيمانكم وتحققه فترة طويلة بعدما رسخ وطال الإيمان وذقتم حلاوته، ويستدرجونكم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية، وليس فيها التركيز على الإسراع بل قد يطول أو يقصر[7] ،
قال الآلوسي: {بَعْدَ} يجوز أن يكون ظرفاً ليردوكم وأن يكون ظرفاً لكافرين، وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنه واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع، إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب؛ لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه.
قال ابن عاشور: وقوله {بعد إيمانكم} تأكيد لما أفاده قوله {يردّوكم}، والقصد من التَّصريح به توضيح فوات نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون.
قال الفخر الرازي: فبين تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالا بعد حال إلى أن يعودوا كفارا.
الموضع الخامس:
مقارنة بين {ألَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (6/6) الأنعام.
وآية {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)} (21/ 11) الأنبياء.
الآية الأولى: في سورة الأنعام:
فسورة الأنعام تريد أن تقرر موضوع التوحيد تقريرا مؤكدا ففيها مؤكدات كثيرة فجاءت (من) لتدل على ابتداء الغاية والتأكيد والسرعة، فالتركيز على كل قوم أهلكوا فالله سبحانه قادر على إحداث قوم آخرين في محلهم مباشرة مع التوكيد، فمن تفيد الابتداء وأن إنشاءهم ابتدأ من بعد إهلاك وتدل على السرعة والتأكيد وأنه بعد طي صفحتهم مباشرة أتى بصفحة أخرى، فتفيد ابتداء الإنشاء في أول أزمنة البعيدة، مع التأكيد للدلالة على أنه إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده وينشئ مكانه آخر مباشرة يعمر بلاده، ويدل على التأكيد في سورة الأنعام أول الآية {من قبلهم من قرن} مع ما قبلها وما بعدها من السياق.
وأما الآية التي في سورة الأنبياء فالمراد بها أن الإنشاء حصل بعد القصم وهذا فيه أمران: الأمر الأول: بيان شدة الانتقام، والأمر الثاني: أنه سبحانه قادر على أن يبدل بهم غيرهم لكن من غير تنصيص على تأكيد أو قرب أو ابتداء[8] ، وإنما المعنى أنشأنا بعد إهلاكهم سواء قرب الزمان أو بعد، لأن السياق فيه متاركة وبيان أن هؤلاء معاندون وأنهم إن لم يؤمنوا فهناك ملائكة عبادون له سبحانه لأن الكلام في عدم الاعتداد بهم واستبعاد إيمانهم فقد تقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)
وانظر السياق: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ـ ـ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) ـ ـ قلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
ولهذا السر حذفت من أيضا في السورة نفسها في قوله تعالى {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ـ ـ
وأما ذكر من في قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} لأن الآية تطلب التأكيد أن جميع الرسل أوحي إليهم التوحيد من أول لحظات القبلية إلى جميع الزمان السابق.
وأيضا الطابع العام على سورة الأنبياء عدم ذكر من {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا} الأنبياء (21/7).
فأما الأول فإنه حذفت منه من بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع.
قال في درة التنزيل: الآية الثانية:للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.

 

[1] قال البيضاوي: البيضاوي:وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه: أحدها: الإتيان باللام الموطئة للقسم: ثانيها: القسم المضمر. ثالثها: حرف التحقيق وهو أن. رابعها: تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية. وخامسها: الإتيان باللام في الخبر. وسادسها: جعله من {الظالمين}، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم. وسابعها: التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم، وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء
[2] وقد حملها البقاعي والإسكافي على التهديد على العمل به في أي وقت في المستقبل قال الإسكافي ” لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها،ق قال البقاعي ولما كان المراد التعميم في الزمان، نزع الجار، وأتى ب ” ما ” لأنها أعم من ” الذي ” وأشد إبهاماً، فهي الخفيّ معنى، فناسب سياق الوحي الذي هو غيب، ومعناه غامض – إلا لبعض الأفراد – في الأغبياء بخلاف آية البقرة الأولى 14 فإنها في الملة الإبراهيمية المدركة بنور العقل الناشىء عن نظر المحسوسات فقال: {بعدما جاءك}
[3] قال أبو السعود: {بَعْدَ مَوْتِهَا} وعرائها عن آثارِ الحياةِ وانتقاءِ قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ. قال الطبري: من بعد موتها، يعني: من بعد جدوبها وقحوطها ومصيرها دائرة لا نبت فيها ولا زرع.قال الآلوسي: وقال تعالى: {الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} مع أن الأحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوى أمر التشبيه فليتأمل.
[4] قال بن كثير في آية البقرة {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} ابن كثير: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه أبو السعود وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هم علَمٌ في البعد عن الوقوع عادةً تهويلاً للخطب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل: {بَعْدَ مَوْتِهَا} يجهله ويخفى عليه، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه، والله أعلم وقال سيد قطب: إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.
[5] قال ابن عاشور: مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر.
[6] يتضح أولا في الآية الأولى في سورة البقرة قال: ود كثير، وفي الثاني قال: فريقا، وفي الآية الأولى بيان ودهم وفي هذه الآية بيان الواقع على الأرض، وفي الآية الثانية فيها ملاطفة في خطابهم ووصفهم بالإيمان، قال أبو حيان: وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار، ولم يأت بلفظ « قل » ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم.
وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية، لأنه لم تقع طاعتهم لهم.
[7] وحملها البقاعي على استغراق زمان البعد قال البقاعي: وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد: {بعد إيمانكم كافرين *} أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها !.
[8] وقد حملها البقاعي على عموم الزمان على التعاقب قال البقاعي: و «كم» في هذا السياق يقتضي الكثرة، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله: {كانت ظالمة} ثم بين الغنى عنها بقوله: {وأنشأنا} أي بعظمتنا، ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب، بياناً لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم، اسقط الجار فقال: {بعدها قوماً}.