المبحث الخامس من الفرق بين «بعد» و«من بعد» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الخامس: بعد بحذف (من):
المعاني الإفرادية المستخلصة من كلام المفسرين لـ(بعد) بدون من:
قبل ذكر المعاني الاجتماعية لحذف من أذكر المعاني الإفرادية التي نص عليها العلماء مع ذكر نصوص العلماء في الهامش:
المعنى الأول:
1) بيان أن شيئا بعده شيء فيفيد أولا أن التركيز فيه على أن شيئا بعد شيء بدون نظر لابتداء ولا تأكيد[1] ولا تنصيص على عموم أو استيعاب، فتستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر، وإنما شيء بعد شيء كما ذكرنا في الفرق بين فوق ومن فوق، ويركز بهذا ـ كما سيأتي ـ على أن شيقد ثبت وتقرر.
المعنى الثاني:
تفيد الدلالة على جميع المدة اللاحقة أي وقت من أوقات المستقبل بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان الذي يوجد بعد واستغراق جميعه أي إفادة عموم البعد أي في أي وقت من أوقات البعد على طول الزمان،، فـ(بعد) المراد بها في أي وقت في جميع المدة اللاحقة بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان الذي يوجد بعد واستغراق جميعه، لكن بدون نظر ولا تركيز على ابتداء ولا قرب ولا استغراق التعميم من أول لحظاته ولا تأكيد[2].
نص على ذلك ابن جماعة[3] ،والإسكافي[4] ،والبقاعي[5].
المعنى الثالث: الدلالة على أن هذا الحدث أو الشيء قد ثبت وتقرر، إما بأن طالت مدته وتراخت أو قد تحقق تحققا كالذي طالت مدته[6].
المعنى الرابع:
قد تستعمل حيث أريد الاحتمال فهي تستعمل للسياق المحتمل للقريب والبعيد،أي ترك اللفظ محتملا للقريب والبعيد من غير تأكيد.
نص على ذلك ابن عرفة [7] وابن جماعة [8] ، والسامرائي [9] ، وابن هشام [10]،

 

[1] قال ابن عرفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.
[2]قال ابن عرفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.قال في أرشيف أهل الحديث: واما آية 63 من سورة العنكبوت, فان معرض الحديث عن انزال المطر وإحياء الارض من بعد موتها, فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم, ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة {من} في قوله {من بعد موتها} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم. قال في ملاك التأويل في التفريق بين {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم}.: والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان. قال ابن عاشور: وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ.
[3]قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء فلما أتى ما قبل آية النحل مجملا جاء بعده كذلك مجملا.
[4]قال في درة التنزيل: 117 الآية الثانية:للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.
[5]قال البقاعي: ولما كان المراد العموم، أعراه من الجار فقال: {قبلك} أي يا محمد أحداً {من المرسلين إلا} وحالهم {إنهم ليأكلون الطعام وقال البقاعي:: {وما أرسلنا}. ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة، إما برسول قائم، وإما بتناقل أخباره، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر: {قبلك} أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر، وقال البقاعي: مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام. قال البقاعي: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران: 100] يردوكم} وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد: {بعد إيمانكم كافرين قال البقاعي: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: {قبلهم} أي المتكئين {ولا جان}
[6]قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ)؟.جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.
[7]قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية… قال أبو السعود – {بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء قال الإسكافي في درة التنزيل: ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها قال ابن عرفة: ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها.
[8]قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء، لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة. وقال ابن جماعة أيضا في كشف المعاني: مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ)؟.جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخى موتها مدة، فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها لدلالته.
[9]قال السامرائي: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب،. قال السامرائي في موضع آخر: ما الفرق بين قوله تعالى (من بعد موتها) في سورة لعنكبوت مع أنه ورد في القرآن كله (بعد موتها)؟استعمال (بعد موتها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة قال السامرائي: وذلك أن قوله (أحيا الأرض بعد موتها) يعني في لزمن الذي هو بعد الموت وهو يحتمل الزمن القريب والبعيد أي يحصل الإحياء بعد إنزال الماء وقد يطول الزمن بعده أو يقصر. قال السامرائي: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب.قال السامرائي: وأما حذف من فهو يدل على أنه احتاج إلى وقت طويل ليتحول إلى هذه الحالة.، وقال “لكي لا يعلم بعد علم” تحتمل الزمن الطويل والوصل أما قوله (لكي لا يعلم من بعد علم).
[10]قال في مغني اللبيب: وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.