المبحث الثالث من الفرق بين «بعد» و«من بعد» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الثالث:
معاني (من) الناحية العملية التطبيقية على آيات القرآن الكريم:
وهذا المبحث هو المبحث الأهم في معاني من وهو الذي تشهد به آيات القرآن الكريم التي هي أدق من ميزان الذهب في استعمال كل لفظة {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض}، قد ذكرنا من قبل المعاني الإفرادية لـ(من) الداخلة على (بعد) وهنا نذكر الناحية العملية التطبيقية، ويلاحظ من الناحية العملية أنه يجتمع في (من) أكثر من معنى ويمكن تقسيم هذه المعاني من الناحية التطبيقية إلى ثلاثة معان والمعنى الأول إلى ثلاث حالات:
المعنى الأول: ابتداء الغاية، والتأكيد، مع التعقيب.
أما ابتداء الغاية فيفيد البدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء والتحويل من حالة إلى حالة مغايرة منافية وهذا التحويل إما أن يكون فيه ذم للكفار والمنافقين والعصاة ونحوهم، أو منٌّ من الله سبحانه وفضل عليهم أو بيان عظيم القدرة له سبحانه، أو مدح للتائبين ونحوهم.
وأما السرعة والتعقيب فهو إما تعقيب حقيقي أو مجازي بتصويره بصورة شيء يتعقب شيئا لتأكيد الذم أو المدح أو الفضل، والتعقيب مأخوذ من الابتداء لأنها لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية أو البعدية ونحوها حقيقة أو مجازا وتصويرا.
وأما التأكيد فلا يفارقها ويزيد ظهوره بالشد الحاصل في الإقلاب بين من وبعد وبذكر ما المصدرية في سياقات كثير من بعد ما:
ونقسم هذا المعنى زيادة في الإيضاح إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى:
تفيد الانطلاق والبدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين وهذا الفعل لا ينبغي وهناك غرابة في هذا الانطلاق، فيه ففيها قوة الوعظ والإنذار وبيان فظاعة الفعل بعدها وهذا يتضمن التأكيد، وبيان أنهم انتقلوا بسرعة وتعقيب فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.
الحالة الثانية:
تفيد التحويل والبدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين، بسرعة مباشرة حقيقة أو مجازا وهذا الفعل فيه منة عليهم أنه سبحانه حولهم من حالة إلى حالة مغايرة بسرعة ففيها قوة المن والإنعام أو أو بيان عظيم القدرة له سبحانه فيه تحويل الحال من حالة إلى حالة منافية، مع التأكيد، وبيان التحويل بسرعة وتعقيب حقيقي أو مجازي فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.
الحالة الثالثة:
تفيد التحويل والبدء والانطلاق من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين، بسرعة مباشرة حقيقة أو مجازا، وهذا الفعل فيه مدح للتائبين ونحوهم، وأنهم تحولوا من حالة غير جيدة إلى حالة حسنة مغايرة بسرعة، مع التأكيد، وبيان التحويل بسرعة وتعقيب حقيقي أو مجازي فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.
المعنى الثاني:
ذكر (من) يفيد الاستيعاب مع التأكيد فهو يفيد الابتداء من بعد زمن الظرف أو من قبله مباشرة من غير فاصل، مستغرقا جميع الوقت الذي قبل أو بعد المضاف إليها، نحو {من أول} {من قبل} {من بعد} والظروف إذا حدّت حقّقت، فكأنه يفيد الابتداء والانتهاء كما نص بعض العلماء لكن دلالته على الانتهاء ليس من وضع (من) بل من السياق وفحوى الكلام، و(من) لابتداء الغاية فـ(من) تفيد الابتداء والتوكيد، وتستوعب بذكر طرفيه ابتداءه وانتهاءه، فتفيد ثلاثة معان مجتمعة، فأنت حين تقول ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته، مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم يفتك، وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته.
المعنى الثالث:
ذكر (من) يفيد التوكيد، وأن ما بعدها لا يمكن أن يحصل إلى بحصول مجرورها أو أنه ما حصل إلا بحصول أمر معين قطعا، يقول علي هاني: (من) في الحقيقة الآيات التي للتأكيد تفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد، وأن الأمر موقوف على تحقق شيء فعندها يتحقق شيء آخر

التطبيقات التفصيلية على آيات القرآن الكريم:
المعنى الأول: ابتداء الغاية، والتأكيد، مع التعقيب.
أما ابتداء الغاية فيفيد البدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء والتحويل من حالة إلى حالة مغايرة منافية وهذا التحويل إما أن يكون فيه ذم للكفار والمنافقين والعصاة ونحوهم، أو منٌّ من الله سبحانه وفضل عليهم أو بيان عظيم القدرة له سبحانه، أو مدح للتائبين ونحوهم.
وأما السرعة والتعقيب فهو إما تعقيب حقيقي أو مجازي بتصويره بصورة شيء يتعقب شيئا لتأكيد الذم أو المدح أو الفضل، والتعقيب مأخوذ من الابتداء لأنها لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية أو البعدية ونحوها حقيقة أو مجازا وتصويرا.
وأما التأكيد فلا يفارقها ويزيد ظهوره بالشد الحاصل في الإقلاب بين من وبعد وبذكر ما المصدرية في سياقات كثير من بعد ما:
وهذا المعنى الأول: نقسمه إلى ثلاث حالات متشابهة في أصل المعنى لكن مختلفة في الموضوع الذي تتكلم عنه:

الحالة الأولى:
تفيد الانطلاق والبدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين وهذا الفعل لا ينبغي وهناك غرابة في هذا الانطلاق، فيه ففيها قوة الوعظ والإنذار وبيان فظاعة الفعل بعدها وهذا يتضمن التأكيد، وبيان أنهم انتقلوا بسرعة وتعقيب فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.

**************

{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} (2 / 27)
{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25} (13/25)
فيها شدة ذم لهم لأنها بينت أن انطلاقهم بالنقض مبتدئ من بعد الميثاق وتوكيده وإبرامه والاعتراف والقبول له ففيه بيان اختلاف أحوالهم وتقلبهم وأن ذهابهم للنقض من بعد الميثاق وهذا أشد في الذم، وفيه بيان سرعة فعلهم مع التأكيد أي من بعد تحقّق للمبالغة في الذم وبيان فظاعة الفعل وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه..
فهي تفيد ثلاثة أمور: أن ابتداء النقض نشأ من بعد الميثاق فهم قد اختلفت أحوالهم، وتفيد أنه حصل مباشرة كأنه نشأ بعد الميثاق من غير فاصل، والتأكيد
أبو حيان:ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه،وقيل: من زائدة وهو بعيد.
اطفيش – الهميان: ومن على تلك الأوجه للابتداء، لأن ابتداء النقض يتصور بعد حين حصول العهد، وقال ابن مالك: بجواز كون من زائدة، مع قبل وبعد.قال ابن الجوزي:وفي {من} قولان: أحدهما: أنها زائدة، والثاني: أنها لابتداء الغاية، كأنه قال: ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه. قال ابن عاشور:وزيادة {من بعد ميثاقه} زيادة في تشنيع النقض، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده.قال السمين: «مِنْ بعد» متعلقٌ ب «يَنْقْضُون»، و«مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء.قال الطوسي:ومن لابتدء الغاية في الآية وقيل: إنها زائدة قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}(2/27).، قيل(من بعد): لتدل على مبادرتهم بالنقض في أول (أزمنته البعيدة) قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ…} قال أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف. قال صديق حسن خان: لتبيننه للناس.(من بعد ميثاقه) ” ومن ” لابتداء الغاية فإن ابتداء النقض بعد الميثاق. الطبرسي: (من بعد ميثاقه): من مزيدة. وقيل: معناه ابتداء الغاية.يقول علي هاني: وقد حملها البقاعي على التبعيض وليس بصحيح [1].

*********************

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ}(9/12).مثل الآية السابقة.
فهي تفيد ابتداء الغاية والتأكيد ليزدادوا به قبحا عند السامع، وفيها تصوير لفعلهم وقد يضاف معنى السرعة ببيان أنه أعقب العهد مباشرة، قال ابن عاشور: وزيد قوله: {من بعد عهدهم} زيادة في تسجيل شناعة نكثهم: بتذكير أنّه غدْر لعهد، وحنث باليمين.وحملها البقاعي على تعميم الوقت بحملها على التبعيض فقال: ولما كان النقض ضاراً وإن قصر زمنه، أتى بالجار فقال: {من بعد عهدهم}.

**************

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)} (2 /64).
فيها شدة ذم لهم لأنها بينت أن انطلاقهم بالتولي مبتدئ من بعد الميثاقِ المؤكد وتوكيده وإبرامه والاعتراف والقبول له ورفع الطور وعهودكم على العمل به بجدّ واجتهاد به والقيام بما أمركم به، ففيه بيان اختلاف أحوالهم وتقلبهم وأن ذهابهم للتولي من بعد الميثاق وهذا أشد في الذم، وفيه بيان سرعة فعلهم مع التأكيد أي من بعد تحقّق اليثاق ورفع الطور للمبالغة في الذم وبيان فظاعة الفعل وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالميثاق، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه.
فهي تفيد ثلاثة أمور: أن ابتداء التولي نشأ من بعد الميثاق فهم قد اختلفت أحوالهم، وتفيد أنه حصل مباشرة كأنه نشأ بعد الميثاق من غير فاصل، والتأكيد
قال أبو حيان: ومن تشعر بابتداء الغاية. قال ابن عرفة « ثُمَّ » إما لبعدها ما بين منزلة (الإيمان والكفر) أو للمهلة حقيقة، قيل لابن عرفة: الحقيقة متعذرة [2] فإن « من » لابتداء الغاية، وليس بين أول أزمنة البعدية وآخر أزمنة (أخْذِ الميثاق) تراخ بوجه؟
قال ابن عرفة: الأولية مقولة بالتشكيك [3] في أزمنة البعدية.يقول علي هاني وحمل البقاعي رحمه الله من على التبعيض وليس بصحيح [4].
و(ثم) للاستبعاد وبيان أن التولي من بعد ما سبق في غاية البعد، وبيان التفاوت الكبير بين لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم والمنافاة بينهما، وهذا هو المناسب للعتاب لا التراخي الزمني كما قيل.
الأقوال في ثم:
القول الأول: للاستعباد:
قال البقاعي: وأشار إلى أنه من حقه البعد عن تركه بأداة البعد.وقال البقاعي عند شبيهة هذه الآية وهي {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)} ولما كان الإعراض عن هذه المحاسن في غاية البعد فكيف إذا كانت بعهد فكيف إذا كان من الله أشار إلى ذلك بأداة التراخي فقال: {ثم توليتم}
قال أبو زهرة:
والتعبير هنا ب “ثم” التي تدل على التراخي للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى:{ثم توليتم من بعد ذلك} لبيان بعد عملهم عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم.
قال ابن عاشور: (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبَيْنِ التَّرَتُّبِيِّ وَالْخَارِجِيَّ.
قال الآلوسي: وثُمَّ للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول.
القول الثاني:
قال أبو حيان: ودخول ثم مشعر بالمهلة.

**************

{{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)} (2 /74)}
فيها شدة ذم لهم لأنها بينت أن قسوت قلوبهم نشأت وابتدأت من رؤية هذه الآيات العظيمة الباهرة، ففيه بيان تعكيسهم وهذا أشد في الذم، وفيها توكيد أن القسوة نشأت بعد ذلك، وفيه بيان سرعة فعلهم للمبالغة في الذم وبيان فظاعة الفعل وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالآيات، فإثر رؤية الآيات قست قلوبهم بدل أن تلين كأنه حصل مباشرة كأنه نشأ بعد الميثاق من غير فاصل.
فهي تفيد ثلاثة أمور: الابتداء والتأكيد والسرعة، وليست للتبعيض خلافا للبقاعي [5].
قال أبو حيان: “وأتى بمن في قوله: {من بعد ذلك} إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق”.اهـ
و(ثم) للاستبعاد لبيان أن التولي من بعد ما سبق في غاية البعد، وبيان التفاوت الكبير بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم والمنافاة بينهما، وهذا هو المناسب للعتاب لا التراخي الزمني كما قيل [6].

**************

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}(2 /75)
فيها شدة ذم لهم لأنها بينت أن تحريفهم للكتاب نشأ وابتدأ من بعد عقلهم له أي من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته، ولم تبقَ لهم في مضمونه ولا في كونه كلامَ ربِّ العزةِ رِيبةٌ أصلاً فقد فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون مخطئون [7]، ففيه بيان تعكيسهم وبيان أنهم فعلوه عن علم وفعلوا شيئا لا يتصور فعله،وهذا أشد في الذم، وفيها توكيد فمن بعد تحقق وعقلهم له علمهم أنهم مخطئون فعلوا ذلك، وفيه بيان سرعة فعلهم للمبالغة في الذم وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بما عقلوه وعلموه، فإثر عقلهم الآيات حرفوه كأنه حصل مباشرة من غير فاصل.
فهي تفيد ثلاثة أمور: الابتداء والتأكيد والسرعة.
و(ثم) للاستبعاد وبيان أن التولي من بعد ما سبق في غاية البعد، وبيان التفاوت الكبير بين لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم والمنافاة بينهما، وهذا هو المناسب للعتاب لا التراخي الزمني كما قيل.
قال أبو زهرة: والتعريض بـ”ثم” يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم. أبو السعود:”فثُم للتراخي زماناً أو رتبةً”.يقول علي هاني: والصحيح الثاني وكونها للتراخي الرتبي.

*************

مثلها {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)} (47/ 25)
تفيد الابتداء والتأكيد والسرعة لتصوير قباحة فعلهم وتصويرا لعدم اكتراثهم بما تبين لهم.
سيد طنطاوي: وقوله: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} ذم لهم على هذا الارتداد، لأنهم لم يعودوا إلى الكفر عن جهالة، وإنما عادوا إليه من بعد أن شاهدوا الدلائل الظاهرة، والبراهين الساطعة على أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – صادق فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن الإِسلام هو الدين الحق. قال الطبري: إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا بالله من بعد ما تبين لهم الحقّ وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجة، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله تعالى ذكره من بعد العلم
وحملها البقاعي على التبعيض المفيد للتعميم قال البقاعي: وكان الذم لاحقاً بهم ولو كان ارتدادهم في أدنى وقت، أثبت الجار فقال: {من بعد ما تبين

*************

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} (47/ 32) فيها الابتداء لبيان فظاعة الفعل وغرابته بعدها بعد وضوح الحق ونحوه وتوكيد الوعظ والإنذار مع القرب. كفرهم ابتدأ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ.
قال سيد طنطاوي:وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} ذم وتجهيل لهم، حيث حاربوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من بعد أن ظهر لهم أنه على الحق، وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه.
وحملها البقاعي على التبعيض المفضي إلى العموم [8].
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (4/ 115)
فهي تفيد ثلاثة أمور: أن ابتداء المشاققة واتباع غير سبيل المؤمنين نشأت من بعد تبين الهدى فهم معاندون، والتأكيد، وفيها تقبيح لصورة فعله كأنها حدثت مباشرة بعد تبين الهدى لبيان عناده.ويمكن أن يضاف التعميم
والتعميم ذكره البقاعي بطريقة أخرى فعادته أن يجعل من للتبعيض لكن في حاصل المعنى يتفق مع ما ذكرنا
قال البقاعي: ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب ” من تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال: {من بعد ما} ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة.
قال الطبرسي: المعنى: لما بين سبحانه التوبة عقبه بذكر حال الإصرار، فقال: (ومن يشاقق الرسول) أي: من يخالف محمدا ويعاده (من بعد ما تبين له الهدى) أي: ظهر له الحق والإسلام، وقامت له الحجة، وصحت الأدلة بثبوت نبوته، ورسالته.
أبو حيان:والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى، إذ جعل له نور يهتدي به.

*************

{فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}(3/ 94).
فيها شدة ذم لهم لأنها هددتهم أن المخالفة والافتراء على الله بقولهم إن الله حرم ذلك انطلاق من بعد من بعد ظهور الحجة ولزومها بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب عليه السلام، ولم يكن محرما قبله، فالافتراء مبتدئ من بعد لزوم الحجة، ففيه بيان عنادهم ولجاجههم وأن ذهابهم للافتراء من بعد إقامة الحجة المفحمة وهذا أشد في الذم، وفيه التأكيد أي من بعد تحقّق الحجة؛ للمبالغة في الذم وبيان فظاعة الفعل، وتفيد التعقيب المجازي فهي تصوره أنه افترى مباشرة بعد ظهور الحجة وإلزامه
فهي تفيد ثلاثة أمور: أن ابتداء الافتراء نشأ من بعد إقامة الحجة فهم معاندون، والتأكيد، وأن هذا التهديد معمول فيه من أول لحظات البعدية.
وقد نبه أبو السعود والآلوسي على المعنيين الأولين بقولهم قيد بـ(من بعد) للدلالة على كمال القبح.
قال أبو السعود: من بعد ما ذُكر من أمرهم بإحضار التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ، والتقييدُ به للدَلالة على كمال القبحِ.
وحملها البقاعي التعميم لكن من طريق جعل من تبعيضية تؤول لمعنى التعميم وهو المعنى الثاني الذي سأذكره في هذا البحث، لأنه يجعل من تبعيضية لكن حاصل كلامه يعود للتعميم، قال البقاعي:ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} أي البيان العظيم الظاهر جداً.

*******************

{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}(42/ 16).
من تدل على الابتداء والتأكيد والتعقب، وفي ذكر (من) الدلالة على فظاعة فعله فمن بعد استجابة الناس ودخولهم في دين الله وتركهم للجاهلية يحاجون [9].

*******************

{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (9/ 113).
فيها الابتداء والتأكيد وتصوير لصورة فعلهم بصورة من فعله مباشرة بعد التبين لتصوير فظاعة فعلهم.

*************

ذكرت مرتين في:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(2 / 109).
ذكر(من) في الآية الأولى يفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد والسرعة وليس فيها تبعيض كما قال البقاعي [10].
فـ(من) تفيد أولا ابتداء الغاية وأن الرد يكون مبتدئا وناشئا من تحقق الإيمان لإظهار كمال شناعة الكفر بعد تحقق الإيمان، وفيها التأكيد أي من بعد تحقق إيمانكم، لأنها في سياق رد شبهات اليهود في النسخ التي زلزلوا بها بعض قلوب الناس [11]، كأنه قال سينقلونكم من تحقق إيمانكم وثباته إلى الكفر فستفوت نعمة عظيمة كانوا فيها لو يكفرون، وفيها بيان السرعة في النقل من الإيمان إلى الكفر، لأنه سياق تمن، وهم يتمنون التحويل من الإيمان مباشرة إلى الكفر.
قال السامرائي: ففي الآية الأولى ذكر (من) وذلك أنه ذكر في الآية أن كثيرا من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين أي بلا مهلة حسدا من عند أنفسهم فهم يتمنون الإسراع في تكفيرهم، وأن ينقلوهم من حالة الإيمان إلى حالة الكفر فورا.
قال السمين الحلبي: و” مِنْ بعدِ ” متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و” مِنْ ” لابتداءِ الغاية قوله: ” مِّن بَعْدِ مَا ” متعلِّقٌ ب ” وَدَّ “، و” مِنْ ” للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ.
بقي بيان معنى من في قوله تعالى (من عند أنفسهم)، ومعنى (من) (في من بعد ما تبين لهم الحق):
من عند أنفسهم:
ابن عاشور: وقوله: {من عند أنفسهم} جيء فيه بمن الابتدائية للإشارة إلى تأصل هذا الحسد فيهم وصدوره عن نفوسهم. وأُكد ذلك بكلمة (عند) الدالةِ على الاستقرار ليزداد بيانُ تمكنه وهو متعلق بحسداً لا بقوله: {ود}. و«من» لابتداء الغاية.
قال اطفيش – الهميان: ومن بعد متعلق بيردونكم، ومن عند متعلق برد، ومن للابتداء، فإن الود صادر من عند أنفسهم.
من بعد ما تبين لهم:
قال السمين الحلبي وأبو حيان: و” مِنْ بعدِ ” متعلِّقٌ بيَرُدُّونكم، و” مِنْ ” لابتداءِ الغاية قوله: ” مِّن بَعْدِ مَا ” متعلِّقٌ ب ” وَدَّ “، و” مِنْ ” للابتداءِ، أي إنَّ ودَادَتَهم ذلك ابتدأتْ من حينِ وضوحِ الحقِّ وتبيُّنِه لهم، فكفرُهم عنادٌ.
يقول علي هاني: وفيها معنى التأكيد وبيان غرابة الفعل، وبيان سرعة الودادة.
قال الشيخ زكريا الأنصاري [12]: قوله تعالى: (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ..). ذِكْرُ ” مِنْ عندِ أنفسِهمْ ” تأكيدٌ، إِذِ الحَسَد لا يكون إِلَّا من قِبل النَّفس.

****************

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}(2 / 145).
من تفيد ابتداء الغاية والتأكيد، فذكر من أفاد فيها معنى الابتداء أي اتباع الأهواء ناشئ ومبتدئ من بعدية مجيئ العلم، وهذا لا يقبل إن وقع وتشنيع لهذا الفعل،، وفيه التأكيد والتشديد في الوعيد، أي أنه صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في البقاء على قبلتهم واتبع أهواءهم في ذلك من بعد ما جاءه العلم ببطلانها وحقية ما هو عليه لكان الانطلاق والبدء باتباع أهوائهم من بعد مجيء العلم وتحققه ـ إلى اتباع أهوائهم ـ ففيها قوة الوعظ والإنذار وتهديد شديد مؤكد وبيان فظاعة الفعل بعدها كما يدل عليه (من)، وهذا التشديد والتأكيد بذكر من يتضمن الوعيد المناسب لأهمية الموضوع وهو قضية تحويل القبلة الذي أرجف فيه اليهود وشككوا الناس في دينهم فاحتاجت إلى الحسم، ويدل على التشديد أنه ختم الآية الأولى بغليظ وهو قوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” [13]، في ذكر (من) أيضا دلالة على وجوب مخالفته صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب من أولِ الوقتِ الذي جاءه العلم فيه بتحويل القبلة، هذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق وفيه لطفٌ للسامعين وتحذيرٌ لهم عن متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك؟ أي: لئن اتبعت – يا محمد – قبلتهم – على سبيل الفرض، والتقدير من بعد وضوح البرهان وإعلامي إياك بإقامتهم على الباطل.وسيأتي مزيد تفصيل الكلام على هذه الآية الكريمة.
قال ملاك التأويل:
ولما ذكر بعد هذه الآية من مرتكبات أهل الكتاب وعنادهم ما بسطته الآي بعد وجاء قوله بعد: “ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ” بعد إطناب زائد وتعريف بأكثر مما تقدم وردت الآية المتكررة مراعى فيها ذلك فجئ فيها بـ “من ” التي للغاية أو لابتدائها والمقصود أوفى وأمعن، وجيء بـ “ما ” عوضا من الذي لأنها هنا بسياقها بعد من كيف ما قدرتها من موصولية أو موصوفية تعطى الاستيفاء وتقتضيه فروعي هنا معناها وروعي فيما تقدم لفظها وقوله سبحانه: “إنك إذا لمن الظالمين ” يتضمن من أشد مما يتضمن نفى الولي والواقي والنصير ألا ترى قوله تعالى: “والظالمون ما لهم من الله من ولى ولا نصير “.
فقد انتفى هنا الولي والنصير مع زيادة الوصف بالظلم وليس نفى الظلم حاصلا من انتفاء الولاية والنصرة حصوله بالذكر والتنصيص فهذه الآية أبلغ من الآيتين فناسب ذلك زيادة الاطناب فيما قبلها ولشدة موقعها قدم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تنزيهه عن اتباع أهواءهم فقال: “وما أنت بتابع قبلتهم “، فقد وضح افتراق المقاصد في إفراد هذه الآي على الانحاء الثلاثة [14].

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}(2 / 159)
يقال فيها ما قيل في الآيات السابقة إنها للابتداء والتأكيد ويدل على التأكيد من
ففيها شدة ذم لهم وشناعة حالهم لأنها بينت أن انطلاقهم بالكتم مبتدئ من بعد تبيين الله له تبينا واضحا بحيث يكون متبينا لكل من رآه أو سمعه فهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر ومع تحقق المقتضي لإِظهاره، ففيه بيان تعكيسهم حيث جعلوا ما هو مبين مفصل موضح ـ مكتوما مخفى، وأن كتمهم من بعد البيان وهذا أشد في الذم، وفيه بيان سرعة كتمهم مع التأكيد أي تأكيد أن كتمهم كان من بعد تحقق البيان قطعا وتحقّقه للمبالغة في الذم وبيان فظاعة الفعل وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالبيان.فهي تفيد ثلاثة أمور: أن ابتداء النقض نشأ من بعد الميثاق فهم قد اختلفت أحوالهم، وتفيد أنه حصل مباشرة كأنه نشأ بعد البيان من غير فاصل، والتأكيد، ويزيد التأكيد استعمال ما المصدرية {ما تبين} دون المصدر الصرح تبيُّن [15].

*****************

{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
(2 / 209).
فيها ما في سابقتها فـ(من) لابتداء الغاية والتأكيد وفي ذلك شناعة الفعل المناسب له التهديد الكبير وتصوير لشناعة الفعل أنه حدث بعد مجيء البينات من غير فاصل [16].
قال السمين الحلبي: و” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ، وهي متعلِّقَةٌ ب ” زَللْتُم “.

**************

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}(2 / 211)
فيها الابتداء والتأكيد وفيها تصوير لفعل الإنسان الذي لا يشكر نعمة الله يبدل بالكفران، أنه يبدلها مباشرة من بعد ما جاءته وتقبيح لفعله، وإنما جعل العقاب مترتباً على التبديل الواقع بعد هذا تبين الحق ومجيئه ومعرفته، للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط وأنهم قد بدَّلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها، من هناك انطلقوا، مع أن الشكرعند حصول هذه الأسباب أوجب فكان الكفر أقبح فمن بدلها في تلك الحال فقد سفل، ولفظ الآية منسحب على كل مبدل نعمة الله تعالى، وليست (من) للتبعيض [17].
قال أبو حيان {من بعد ما جاءته} أي: من بعدما أسديت إليه، وتمكن من قبولها، ومن بعدما عرفها كقوله: {ثم يحرفونه من بعدما عقلوه} وأتى بلفظ: (من)، إشعاراً بابتداء الغاية، وأنه يعقب: ما جاءته، يبدله. وفي قوله: {من بعدما جاءته} تأكيد، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه. قال أبو السعود {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ} ووصلتْ إليه وتمكَّن من معرفتها، والتصريحُ بذلك مع أن التبديلَ لا يُتصوَّرُ قبل المجيءِ للإشعار بأنهم قد بدَّلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها كما في قوله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [18]

*************

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2/213).
لما كان الخلاف ربما كان عن أمر غامض بين أن الأمر على غير ذلك، فبين أن اختلافهم مبتدِئ ومنطلِق من مجيء البينات والعلم فهم جاءتهم البينات وهم بعدها اختلفوا، ومن شأن البينات أن تزيل الخلاف وتحسم النزاع إن احتكموا إليه واهتدوا بهديه فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ ففيه تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم، وتدل على التوكيد للتوبيخ في سياق التشديد لذلك لم يرد في القرآن {إلا بعد}والتأكيد واضح جدا أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين.
، وتدل على القرب أي اختلافهم حصل بعد فترة قصيرة لم يطل الزمان حتى يتطرق إلى علمهم نسيان وهذا فيه تقبيح صورة فعلهم، وأنها كانت تغييرا واختلافا سريعا عقيب مجيء البينات.ولا تدل من على التبعيض [19].
قال أبو حيان: وأتى بلفظ: (من)، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة [20]. قال سيد طنطاوي:وقوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} متعلق باختلف، وفيه زيادة تشنيع عليهم لأنهم قد اختلفوا فيه بعد أن قامت أمامهم الحجج الناصعة الدالة على الحق. قال البيضاوي: {إلا الذين أوتوه} أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيجا للاختلاف سببا لاستحكامه. {من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم

**************

ومثلها:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(3/ 19).قال الآلوسي: والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي.

*******************

{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (42/14) الكلام في الأولى أما الثانية فسيأتي ذكرها في العموم.
جاهم العلم على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً {العلم} أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء.

***************

وكذلك {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (45 / 17).
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (98/4).

***************

ومثلها: {{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3/ 105).
قال البقاعي: ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال: {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وعظمه بإعرائه عن التأنيث {البينات} أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم. قال الزمخشري {البينات} الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق. قال الخازن: يعني الحجج الواضحات فعلموها ثم خالفوها

***************

مثل ما سبق{ولقد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(3/ 152).
ابتداء وتحقيق وسرعة، ومعنى (ما تحبون) من النصرة على الكفار، وهزيمتهم، والظفر بهم والغنيمة
قال البقاعي: وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون}.

*************

ومثلها: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (4/ 153). الضال بعد فرط البيان أجدر بالتبكيت.
قال سيد طنطاوي: وقوله {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} بيان لفرط ضلالهم وانطماس بصيرتهم، لأنهم لم يبعدوا العجل عن جهالة، وإنما عبدوه من بعد ما وصلت إلى أسماعهم وعقولهم الدلائلة الواضحة وعلى وحدانية الله، وعلى أن عبادة العجل لا يقدم عليها إنسان فيه شئ من العقل وحسن الإِدراك.
ثم للتراخي الرتبي فإنّ اتّخاذهم العجل إلهاً أعظم جرماً ممّا حكي قبله

**************

ومثلها {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}(5/ 43).
(ثم) للاستبعاد أن يتولون بعد كون التوراة عندهم وبيان التفاوت بين الحالين [21].
فمن لابتداء الغاية والتقريب والتأكيد، (من بعد ذلك) من وبعد حكمك الموافق لما في كتابهم، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به
قال أبو السعود: تصريحٌ بما عُلم قطعاً بتأكيد الاستبعاد والتعجيب، أي ثم يُعرضون قال الطبري وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، التي يقرّون بها أنها حقّ وأنها كتابي الذي أنزلته على نبي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك يَتَولّوْنَ يقول: يتركون الحكم به بعد اعلم بحكمي فيه جراءة عليّ وعصيانا لي

*****************

مثلها: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)} (24 /47).

*****************

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)}(3/ 61) تفيد ابتداء الغاية وأن المحاجة ابتدأت من بعد تحقق مجيء العلم الصحيح بحقيقة عيسى عليه السلام وتقرره تقررا قطعياً وسمعوا ذلك منك لبيان خطأ المحاج بعد ظهور الحق، وفيها التوكيد للتوبيخ، وقد يضاف للمعنيين السابقين: السرعة ففيه تصوير للذي يحاج أنه مسارع للمحاجة بعد ثبوت الحق وتقرره بادر في أول أزمنة البعدية من غير فصل تقبيحا لفعلهم فلم يرعَوُوا عما هم عليه من الغي والضلال.

*************

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)}(16/92).
(من) تفيد الابتداء وأن نقض الغزل يبتدئ ويتحقق من بعد إبرامه وإحكامِه وشدة الغزل والفتل وهو شيء غريب جدا، وتفيد التوكيد فقد تحقق قوة النسج ومع ذلك نقضته / وتصوير أن النقض أعقب قوة الفتل، وليست للتبعيض[22].
قال الآلوسي عند تفسير{من بعد قوة أنكاثا}: وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بـ(نقضت) على أنه ظرف له لا حال و(من) زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.

****************

ومثلها {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(16/ 106).
الابتداء والتأكيد كفر من بعد تمكنه من الإيمان وفيه تصوير بأن الكفر تعقب الإيمان تقبيحا للفعل.

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}(12/ 35)
فمن تفيد ابتداء الغاية فبدو توكيد سجنه نشأ من بعد رؤية الآيات الدالة على براءته وطهارته الصارفة لهم عن ذلك البداء،وهذا تعجيب من فعلهم وظلمهم، وفيها توكيد لبيان شناعة فعلهم، وتصوير أن البدو كان في أول أزمنة البعدية لرؤية الآيات تقيحا له، وليست للتبعيض [23].
سيد طنطاوي: والمعنى: ثم ظهر للعزيز وحاشيته، من بعد ما راوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف – عليه السلام – وطهارة عرضه.. بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم في شأنه، وأن يسجنوه في المكان المعد لذلك، إلى مدة غير معلومة من الزمان.
وأما (ثم): فهي للاستبعاد تفيد بيان التفاوت بين الأمرين رؤية الآيات الكثيرة وتحققها ثم قرار سجنه وقد يضاف له التراخي الزمني وهو لا ينافي الابتداء ولا التأكيد وكذا لا ينافي التعقيب لأنه يكون حينئذ تعقيبا مجازيا لتصوير فظاعة فعلهم وقرارهم.
جعلها ابن عاشور: للتراخي الرتبي وجعلها قال ابن عاشور: {ثم} هنا للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته.البقاعي للاستبعاد
فقال البقاعي: فقال كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد
وقال المنار الانتقال إلى طور جديد بعد التشاور والتروي.
اطفيش – التيسير -وثم لتراخى زمان بعد تقطيع النسوة وقبل بدو السجن، لأَن زوجها قد رأَى صدقة وكذبها وتراخى، واحتالت له حتى طاوعها وزمامه فى يدها ظلما له عمدا، وإِعراضا عما رأَى من الايات.

********************

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2 / 253).
تنبيه: من الثانية الآيات السابقة تماما، ومن هذه كالشارحة للأولى [24]، وفيها مزيد تفظيع لفعلهم، أما من الأولى.
تفيد ابتداء الغاية وأن الاقتتال ابتدأ من بعد تحقق مجيء البيانات وتقررها تقررا تاما، وقد بما فيه مُزْدَجَرٌ ووضحت لهم الدلائل والبراهين والآياتُ الظاهرة الدالةُ على حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم، الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم المؤدِّي إلى الاقتتال، وفيها التوكيد للتوبيخ، وفيها السرعة أي بيان مسارعتهم للقتال من بعد مجيء الحجة فبادر في أول أزمنة البعدية من غير فصل تقبيحا لفعلهم.
أما من الأولى فهي تفيد ما أفادته من الثانية مع زيادة التعميم وهو المعنى الثالث الذي سيذكر هنا: فهي تفيد ابتداء الغاية والسرعة والتوكيد، للتشنيع عليهم ـ كالثانية ـ لبيان أن ابتداء قتالهم كان من بعد أنبيائهم مباشرة مع التأكيد لفظاعة فعلهم، فلم تطل مدة موت أنبيائهم عن قتالهم واختلافهم، وفيها مع هذا الدلالة على الاستيعاب من أول المدة إلى آخرها [25].

**********************

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2 /246)
فمن تدل على أن وجود هؤلاء الملأ من بعد موسى ووفاته وانقضاء مدته، ولما قالوا وفعلوا أفعالا شنيعة فكان كونهم من بعد موسى في غاية الشناعة، لأن موسى عليه السلام قد قرر الدين ووضحه وأشهر الأمور الإلهية، وأبقى فيهم كتاباً عجباً، وأتاهم بالعزة وأزال عنهم الضعف بإنقاذهم من فرعون، لكنهم بعصيانهم فقدوا هذا كله بعد موسى، وفي من معنى التأكيد لبيان فظاعة فعلهم وقولهم بعد ما قرره موسى عليه السلام، وفيها تصوير أن قصتهم بعد موسى مباشرة [26] قربا معنويا مرادا به تبشيع ما فعلوا وقد يقصر الطويل لفائدة بلاغية، قال البيضاوي: {من بعد موسى} أي من بعد وفاته ومن للابتداء.
قال أبو حيان: من، الثانية لابتداء الغاية [27].
.{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)} (2/51)
الابتداء والقرب والتأكيد، تفيد ابتداء الغاية والسرعة فعبادتهم العجل مباشرة منكرة بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى الطور بعد أن وعدهم إحضار التوراة، وفيها تأكيد العتاب وبيان فظاعة الفعل، وأما ثم فللاستبعاد أي استبعاد اتخاذهم العجل من بعده مع أنه وعدهم إيتاء التوراة وبيان ما بينهما من المنافاة، وقد لخص ابن عاشور هذه المعاني حيث قال: “وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبوداً أو إلهاً وبه تظهر فائدة ذكر {من بعده} لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالاً لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] الآية،وفائدة ذكر {من} للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه السلام وهذه أيضاً حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد” [28].

************************

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}(2 / 92
ثم للتراخي الرتبي:
قال أبو زهرة: والعطف بثم للمفارقة الواجبة بين ما تقتضيه الآيات الحسية الظاهرة من إيمان واتخاذهم العجل معبودا، وهو لا يضر ولا ينفع.
ومن تفيد ابتداء الغاية والسرعة فعبادتهم العجل مباشرة منكرة بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى الطور بعد أن كان قد جاءهم بالبينات فبمجرد ذهابه فعلتم ذلك، وفيها تأكيد العتاب وبيان فظاعة الفعل، وليست للتبعيض [29].

*******************

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)} (7/148)
مثل ما قيل الآيتين السابقتين وأزيدك عبارات ثلاثة مهمة للآلوسي وابن عاشور وسيد قطب:
قال الآلوسي:والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض.
قال ابن عاشور: و(مِن) في مثله للابتداء، وهو أصل معاني (مِن) وأما (مِن) في قوله: {من حليَّهم} فهي للتبعيض.
قال سيد قطب: وبينما كان موسى – عليه السلام – في حضرة ربه، في ذلك الموقف الفريد، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار.. كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار – لا حياة فيه – يعبدونه من دون الله! ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع الى المشهد العاشر. نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته الى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته:

******************

مثلها:{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)}(20/ 85).
كان على سيدنا موسى عليه السلام أن لا يتعجل قبل قومه بل يبقى مع قومه ويحضرهم للطور بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله تعالى، وزل عنه أنه عز وجل ما وقت أفعاله إلا نظراً إلى دواعي الحكمة، وعلماً بالمصالح المتعلقة بكل وقت،فكان من أسباب تعجله وقوع بني إسرائيل في الفتنة، والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل: لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فإنهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذي أغفلتهم وأهملت أمرهم، فـ(من) أفادت أن فتنة قومه نشأت من بعد خروجك وتعقبته وفيه بيان فظاعة فعلهم وبيان أن الأولى بسيدنا موسى عدم العجلة وفيها التأكيد لأنه خبر يستغرب وفيها التعقيب لبيان فظاعة هذا الفعل ومعنى فتنا قومك ابتليناهم بعبادة العجل بعد خروجك من بينهم وإسناد الفتن إلى الله باعتبار أنه مُقدّره وخالقُ أسبابه البعيدة. وأمّا إسناده الحقيقي فهو الذي في قوله {وأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} لأنه السبب المباشر لضلالهم المسبب لفتنتهم.

******************

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} (7/150)
قال البيضاوي: ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي.
قال ابن عاشور: وزيادة {مِن بعدي} عقب {خلفتموني} للتذكير بالبَون الشاسع بين حال الخلف وحال المخلوفَ عنه تصوير لفظاعة ما خلفوه به أي بعدما سمعتم مني التحذير من الإشراك وزجركم عن تقليد المشركين حين قلتم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون قيد {من بعدي} للكشف وتصوير الحالة كقوله تعالى: {فخَر عليهم السقْف من فوقِهم} [النحل: 26]، ومعلوم أن السقف لا يكون إلاّ من فوق، ولكنه ذكر لتصوير حالة الخرور وتهويلها، ونظيره قوله تعالى، بعد ذكر نفر من الأنبياء وصفاتهم، {فخلف من بعدهم خَلْف} [الأعراف: 169] أي من بعد أولئك الموصوفين بتلك الصفات.

*************

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) (7/ 169)
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)}(19 /59).
فيها ابتداء الغاية الدال على شدة الإنكار عليهم حيث لم يحافظوا على ما كان عليهم أنبياؤهم وسلفهم، فمن بعد أن كانوا صالحين وذهبوا هؤلاء بدلوا فابتداء التبديل من ذهاب الأنبياء والصالحين وفعلوا ضد ما فعلوا، وفيها التأكيد لزيادة التفظيع، وفيها السرعة وهذا أشنع وسياق الكلام، فقد بدأ الانحراف مباشرة بعدهم والحكم لهم ولمن بعدهم [30].
قال ابن عاشور: وهو هنا يشمل جميع الأمم التي ضلّت لأنها راجعة في النّسب إلى إدريس جدّ نوح إذ هم من ذرية نوح ومن يرجع أيضاً إلى إبراهيم، فمنهم من يدلي إليه من نسل إسماعيل وهم العرب. ومنهم من يدلي إليْه من نسل يعقوب وهم بنو إسرائيل، ولفظ {من بعدهم} يشمل طبقات وقروناً كثيرة، ليس قيداً لأنّ الخلف لا يكون إلاّ من بعد أصله وإنّما ذُكر لاستحضار ذهاب الصالحين [31]. قال البقاعي – ولما كان من المقاصد العظيمة تبكيت اليهود، لأنهم أهل الكتاب وعندهم من علوم الأنبياء ما ليس عند العرب وقد استرشدوهم واستنصحوهم، فقد كان أوجب الواجبات عليهم محض النصح لهم، فأبدى سبحانه من تبكيتهم ما تقدم إلى أن ختمه بأن جميع الأنبياء كانوا لله سجداً ولأمره خضعاً، عقب ذلك بتوبيخ هو أعظم داخل فيه وهو أشد مما تقدم لمن خاف الله ورسله فقال: {فخلف من بعدهم} أي في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً
قال اطفيش – الهميان {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ} بعد النبيين المذكورين جاء خلفهم، فمِن بَعْدِهم فيه توكيد.
وحملها الإمام البقاعي على التبعيض والسرعة، والسرعة صحيحة لكن التبعيض ليس كذلك [32].

***************

الحالة الثانية من المعنى الأول:
تفيد التحويل والبدء من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين، بسرعة مباشرة حقيقة أو مجازا وهذا الفعل فيه منة عليهم أنه سبحانه حولهم من حالة إلى حالة مغايرة بسرعة ففيها قوة المن والإنعام أو أو بيان عظيم القدرة له سبحانه فيه تحويل الحال من حالة إلى حالة منافية، مع التأكيد، وبيان التحويل بسرعة وتعقيب حقيقي أو مجازي فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.

*************

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}(2/51)
تفيد كمال رحمة الله وإنعامه عليهم فهي تفيد أن ابتداء العفو من بعد ارتكابكم الأمر العظيم وهو اتخاذ العجل ومنطلقا عنه فتفيد البدء من بعد اتخاذ العجل إلى فعل العفو بسرعة مباشرة وهذا الفعل فيه منة عليهم أنه سبحانه عفا عنهم من حالة مغايرة تماما للعفو بسرعة ففيها قوة المن والإنعام مع التوكيد أي من بعد تحقّق هذا الفعل الفظيع.
قال ابن عاشور: وقوله: {من بعد ذلك} حال من ضمير « عفونا » مقيدة للعفو إعجاباً به أي هو عفو حال حصوله بعد ذلك الذنب العظيم وليس ظرفاً لغواً متعلقاً بعفونا حتى يقال: إن ثم دلت على معناه فيكون تأكيداً لمدلول ثم تأخير العفو فيه وإظهار شناعته بتأخير العفو عنه
وثم: تبين التفاوت الكبير بين الحالتين والمنافاة بينهما وأن العفو ـ لولا رحمة الله ـ لم يكن ليحصل.
قال الآلوسي: (ثم) لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون {مِن بَعْدِ ذلك} تكراراً.قال البقاعي: ولما كان ذلك مقتضياً لأعظم السخط المقتضي من القادر للمعاجلة بالأخذ ذكرهم نعمة الإمهال بعده فقال مشيراً إلى عظم الذنب والنعمة بأداة التراخي.

*******************

{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(12/100)
تفيد كمال رحمة الله وإنعامه عليهم، فهي تفيد أن ابتداء الإخراج والمجيء من البدو من بعد حالة منافية لذلك تماما فتفيد البدء من بعد نزغ الشيطان الذي هو بعيد غاية البعد عن الخير ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً فحصل الخير من موضع الشر وفيها التأكيد أي من بعد تحقّق النزغ، وتصوير أن هذه النعمة حصلت بعد تلك مباشرة وهذا فيه منة عليهم من حالة مغايرة تماما للعفو بسرعة [33].

*************

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}(2/56).
يقول علي هاني: من تفيد ابتداء الغاية والتأكيد فهي تفيد أن بعثهم ناشئ ومبتدئ من تحقق موتهم والتأكيد كأنه قيل نقلتكم من هذه الحالة وهي الموت التي هي في غاية البعد عن الحياة إلى الحياة بالبعث، زيادة في بيان منته عليهم سبحانه، وفيها التأكيد من بعد تحقق موتكم، وأكد هذا المعنى بـ(ثم) (نا) العظمة، وأما دلالة (من) على السرعة فمحتمل لأجل وجود (ثم)والأصح دلالته على السرعة لأنه الأنسب بسياق الامتنان وأنسب بما قبلها {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك}.
الأقوال في ثم:
القول الأول:
(ثم) لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، ويؤيده أنها استعملت في الصفحة نفسها بهذا المعنى في قوله تعالى {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون}واختار فيها الآلوسي هناك التفاوت، وقال البقاعي: ولما كان إحياؤهم من ذلك في الدار في غاية البعد وخرق العادة عبر عنه بأداة التراخي ومظهر العظمة فقال {ثم بعثناكم} أي بما لنا من العظمة بالإحياء.
قال السامرائي: أي لم يتركهم مدة طويلة ميتين.
القول الثاني:
قال أبو حيان: ودل العطف بـ(ثم) على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زماناً تتصوّر فيه المهلة والتأخير، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ ولما كان ربما ظن أن البعث من غشي ونحوه حقق معناه مبيناً أنه لم يستغرق زمن البعد 15 بقوله: {من بعد موتكم
قال أبو زهرة: والتعبير ب “ثم” للإشارة إلى البعد بين حالهم، وهم أشباه الموتى بما صعقهم من غاشية، وما آلوا إليه من شعور بالحياة والحركة..، وقد فقدوا ذلك، بسوء ما طلبوا، وعدم فهمهم. والله تعالى ولي المؤمنين.
قال سيد طنطاوي: ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زماناً نتصور فيه المهلة والتأخير.
يقول علي هاني: الأول أصح لأنه الأنسب بالامتنان والأنسب بما قبلها في {ثم عفونا عنكم} ولأن القائلين بالتراخي الزمني كأبي حيان أنكر التراخي الرتبي فاختار الزمني وتبعه على ذلك سيد طنطاوي.

****************

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} (10/ 21).
تفيد أن ابتداء الرحمة وتوسيع الأرزاق والخصب ونحوها كانت من بعد شدة ضارة بهم كقحط ومرض ففيه منة عظيمة منه سبحانه وتأكيد أن الرحمة من بعد تحقق الضر فطفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعادون رسولَه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه فمكرهم مستغرب وتفيد التعقيب وقرب الزمن.
قال أبو السعود: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} صِحةً وسَعةً {من بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} أي خالطتْهم حتى أحسوا بسوء أثرِها فيهم.
قال أبو زهرة: وقد عبر سبحانه بالإذاقة في قوله تعالى:{وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء} للإشارة إلى التمكن من الرحمة والدلالة على أنهم تمتعوا بعد الحرمان.

*****************

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)} (42/ 28)
ابتداء إنزال الغيب من حالة تحقق القنوط كما يدل عليه من وما المصدرية فهي أبلغ من بعد قنوطهم وكذلك الاقلاب بين من وبعد، وتدل على أن حالة الغيث جاءت مباشرة بعد تحقق القنوط.
قال أبو السعود: {قَنَطُوا} يئسوا منه وتقييدُ تنزيلِه بذلكَ [أي بـ(من بعد القنوط)] مع تحققه بدونه أيضاً لتذكر كمالِ النعمةِ.
قال سيد قطب: وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض. وقد غاب عنهم الغيث، وانقطع عنهم المطر، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول.. الماء.. وأدركهم اليأس والقنوط. ثم ينزل الله الغيث، ويسعفهم بالمطر، وينشر رحمته، فتحيا الأرض.
قال ابن عاشور: والتعبير بالماضي في قوله: {من بعد ما قنطوا} للإشارة إلى حصول القنوط وتقرره بمضي زمان عليه.

*****************

مثلها {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)} (41 / 50)
قال البقاعي: ودل بإثبات الجار على انفصالها عن الضر مع قرب زمانها منه.

*****************

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}(3/154)
ثم تفيد التراخي الزمني والاستبعاد لبيان التفاوت والبون بين الحالتين الزمني بتصوير الأوقات العصيبة بصورة المدد الطويلة التراخي الزمني فالتَّرَاخِيَ الزَّمَنِيَّ مُرَادٌ تَنْزِيلًا لِعِظَمِ الشِّدَّةِ وَهَوْلِ الْمُصِيبَةِ مَنْزِلَةَ طُولِ مُدَّتِهَا، فَإِنَّ أَزْمَانَ الشِّدَّةِ تُخَيَّلُ طَوِيلَةً وَإِنْ قَصُرَتْ.
قال البقاعي: ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولا سيما بكونه بالنعاس 1 الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله: {ثم أنزل عليكم}
وأما من فهي تفيد الابتداء والتأكيد بجعل هذا الفرج مبتدئا من الشدة مع التأكيد وجعله مباشرة بعده كأنه قيل خلصكم من الشدة العظيمة التي كنتم فيها فأنزل أمنة مباشرة لبيان عظم المنة والنعمة.
قال أبو السعود: {من بَعْدِ الغم} أي الغمِّ المذكور، والتصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه مع دَلالة {ثُمَّ} عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى: {ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}
قال سيد قطب: ولقد أعقب هول الهزيمة وذعرها، وهرجها ومرجها، سكون عجيب. سكون في نفوس المؤمنين الذين ثابوا إلى ربهم، وثابوا إلى نبيهم. لقد شملهم نعاس لطيف يستسلمون إليه مطمئنين! والتعبير عن هذه الظاهرة العجيبة يشف ويرق وينعم، حتى ليصور بجرسه وظله ذلك الجو المطمئن الوديع:
قال اطفيش – التيسير: صرفكم فأثابكم، ثم أنزل، ولفظ ثم كان في الترتيب وزادت بالتراخي ولكن ذكر لفظ بعد لتأكيد النعمة، ومدة الغم لعظمه كأنها طويلة، فالتراخي لذلك، مع أن فيها ما يسيغ لفظ ثم من التراخي ولو بلا شدة لخروجها عن الاتصال ولك جعل التراخي معنوياً لعظمة الأمنة المذكورة.تت

*****************

{وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} (11/7).
كانوا يستبعدون البعث بعد الموت وصيرورة الإنسان ترابا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد لهم تأكيدا كثيرا أنهم سيبعثون فيؤكد قدرة الله تعالى على البعث، ومن المؤكدات استعمال (من) الدالة أن بعثهم مبتدئ من تحقق الموت فمع تحقق الموت لا بد من البعث، فالله سبحانه قادر على نقلهم من الحالة المنافية للبعث في نظرهم، وفيها تصوير بأن البعث يتعقب الموت، أي وتالله لئن قلت للناس فيما تبلغهم من وحي ربهم، إنكم ستبعثون من بعد موتكم ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به، فأكد بـ(من)واسم الفاعل والجملة الاسمية والقسم وفيها الإشعار بالقرب مثل {اقترب للناس حسابهم} (11/ 7){اقترب الساعة وانشق القمر}.
قال أبو زهرة: وقد أكد الله تعالى قول النبي بالقسم وبالجملة الاسمية وإن المؤكدة{إنكم مبعوثون من بعد الموت}، كما أكد إجابتهم باللام وبنون التوكيد الثقيلة.قال الصابوني: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت} أي ولئن قلت يا محمد لأولئك المنكرين من كفار مكة إِنكم ستبعثون بعد موتكم للحساب

*****************

{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} (30/ 3)
لما كان غلبة الروم شديدة ولا يتوقع أن تقوم لهم قائمة سريعا أكد وبين أن ابتداء النصر سيكون من بعد الغلب مع التأكيد والتعقيب فهذا من بعد هذا.
قال ابن عاشور – وفائدة ذكر {من بعد غلبهم} التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها، فابتهج بذلك المشركون؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين.
قال بعض العلماء: {سيغلبون} فارساً، فأكد وعده بالسين – وهو غني عن التأكيد – جرياً على مناهيج القوم لما وقع في ذلك من إنكارهم.

*****************

مثلها {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)}(12/ 48)
فابتداء السبع الشداد من بعد السبع التي يزروعونها دأبا مباشرة مع التأكيد فهو عليه السلام يؤكد لهم هذا الأمر لأهميته.
قال الآلوسي {ثُمَّ يَأتي من بَعْد ذَلكَ} أي من بعد السنين السبع المذكورات، وإنما لم يقل من بعدهن قصداً إلى تفخيم شأنهن.
قال اطفيش – التيسير {ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد ما ذكر من سبع سنى الخصب، واختار هذا عن أن يقال ثم يأْتى من بعدهن ليلوح إِلى وصفهن والبعد باللام لعلو شأْن الخصب

********************

ومثلها {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)}(12/49)
قال البقاعي: {من بعد ذلك} أي الجدب العظيم {عام}.
قال أبو السعود: {ثُمَّ يأتي مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكر من الشدة وأكلِ الغلال المدَّخرة {عَامٌ}

*****************

{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)} (39 / 6)
تفيد ابتداء الغاية فالخلق أطوار كل خلق ينشأ ويكون من بعد خلق يعقبه، وفيها التأكيد بأن الله تعالى ينقلنا ا من مرحلة إلى مرحلة عقيبها حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف.
قال البقاعي: ودل على تكوينه شيئاً بعد شيء بإثبات الحرف [من]فقال: {من بعد خلق} أي في تنقلات الأطوار وتقلبات الأدوار.
قال ابن عاشور: وقوله: {خلقاً من بعدِ خلقٍ} أي طوراً من الخلق بعد طور آخر يخالفه.

*****************

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} (31/ 27).
تفيد ابتداء الغاية فابتداء الامداد من بعد بحور العالم مباشرة فالبحر يمده مباشرة سبعة أبحر، والتأكيد لأن السياق يقتضيه.
قال الفخر الرازي: ثم قوله: {يمده من بعده سبعة أبحر} إشارة إلى بحار غير موجودة، يعني لو مدت البحار الموجودة بسبعة أبحر أخر وقوله: {سبعة} ليس لانحصارها في سبعة، وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر.
قال أبو حيان: {من بعده}: أي من بعد نفاد ما فيه، {سبعة أبحر}: لا يراد به الاقتصار على هذا العدد، بل جيء للكثرة.
قال اطفيش – التيسير: والمراد بسبعة أبحر: مفروضة كل واحد كالمحيط، او كل واحد كالبحور الموجودة كلها، على جعل أل للاستغراق.

*****************

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)} (30/54).
ابتداء ما يذكر نشأ وابتدأ من حالة يتعجب منها أو يمتن بذكرها أو نحو ذلك
فـ(من) الابتدائية وأنه حوله من حالة كان ثابتا عليها إلى حالة أخرى وهذا دليل القدرة ولم يقل ضعافا بل جعل الضعف مادتهم الأولى التي صيغ منها كيانهم ثم جعل من بعد مرحلة القوة، مرحلة ضعف آخر، تعقبه مرحلة أخرى أشد منه في الضعف، وهى مرحلة الشيب والهرم والشيخوخة التي هي أرذل العمر، وفيها التأكيد من بعد تحقق الضعف، وفيها تصوير أنه أعقب الضعف بالقوة،
قال ابن عاشور {من ضعف}: و{مِن} ابتدائية، أي: مبتدَأ خلقه من ضعف، أي: من حالة ضعف، وهي حالة كونه جنيناً ثم صبياً إلى أن يبلغ أشده، وهذا كقوله: {خلق الإنسان من عجل} [الأنبياء: 37] يدل على تمكن الوصف من الموصوف حتى كأنه منتزع منه، قال تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 28]. والمعنى: أنه كما أنشأكم أطواراً تبتدئ من الوهن وتنتهي إليه فكذلك ينشئكم بعد الموت إذ ليس ذلك بأعجب من الإنشاء الأول وما لحقه من الأطوار
قال بعض العلماء: فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ.

*****************

{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} (46/ 30)
كأن مجيئه منطلق من بعد موسى فمجيئه ليس بدعا بل هو مشابه لمجيء موسى مع معنى التأكيد والاهتمام بمجيئه ويؤيد هذا المعنى قولهم (مصدقا لما بين يديه) فمجيئه مشابه مجيء موسى وكتابه مصدق لما أوتي موسى وفي السورة نفسها {قل ما كنت بدعا من الرسل
قال ابن عاشور: ووصْف الكتاب بأنه {أنزل من بعد موسى} دون: أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن « التوراة » آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل « زبور داود » و« إنجيل عيسى »، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد « التوراة » فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه « التوراة ».

**************

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} (61/ 6).
ما ذكره سيدنا عيسى عليه السلام يريد أن يؤكد لهم أنه مرسل من عند الله تعالى فهو ليس بدعا من الرسل فهو مؤيد لكتاب موسى عليه السلام ويوجد رسول يأتي من بعده اسمه أحمد عليه السلام مؤيد لما جاءا به فديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، ولما كان مجيء سيدنا محمد غيب بالنسبة لهم والسياق يتطلب التأكيد لأجل كفر من كفر به أكد بذكر (من) فمن تفيد الابتداء فمجيئه مبتدئ من بعده فحلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها حلقة من بعد حلقة فهو مصدق له وفيها تأكيد أنه سيأتي من بعده مع بيان أن رسالته متعقبه برسالة سيدنا أحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين. [34] فقد أفادت من الابتداء والتأكيد والتعقيب المعنوي.
قال سيد قطب: في هذه الصيغة التي تصور حلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها، واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة.. وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه. فهو منهج واحد في أصله، متعدد في صوره.
قال الزمخشري: {بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى} يعني: أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر. البيضاوي: يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والمعنى أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه فذكر أول الكتب المشهورة الذي حكم به النبيون والنبي الذي هو خاتم المرسلين
قال أبو حيان: ومصدقاً ومبشراً: حالان، والعامل رسول، أي مرسل، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية، ولمن تأخر من النبي المذكور، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته.

*****************

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} (48/ 24).
من فيها ابتداء وتأكيد وتصوير أن هذا حصل بعد هذا مباشرة لبيان المنة وليست للتبعيض كما قيل [35].
يقول تعالى ممتنا على عباده بالعافية وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح، من شر الكفار ومن قتالهم من بعد ما قدرتم عليهم، وصاروا تحت ولايتكم فذكر الله منته على المؤمنين بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلا مع أن الحرب كانت أسبابها موجودة ولا سيما بعد أن أظفر الله المؤمنين على سبعين منهم، إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذاك وجد كف الأيدي فلأنه كان بعد أن ظفروا بهم، ومتى ظفر الإنسان بعدوه الذي لو ظفر هو به لاستأصله يبعد انكفافه عنه، مع أن الله كف اليدين فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كف أيدي الكفار عن المؤمنين وأيدي المؤمنين عن الكفار، وفي الآية نعمة أخرى أن الله سبحانه أظفرهم عليهم بإمساك السبعين.

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)}(6/133).
ابتداء فيه بيان القدرة على إنشاء هؤلاء مبتدأ من إهلاك أولئك وفيه وتأكيد والقرب في أول أزمنة البعيدة ونحوها بلا فاصل بعد مباشرة، وهذا المعنى مأخوذ من الابتداء لأنها لابتداء الغاية في أول أزمنة البعدية
قال الطبري: ويأت بخلق غيركم، وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض من بعدكم، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم.

********************

{ألَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} (6/6).
من بعدهم: فهي تفيد الابتداء وأن إنشاءهم ابتدأ من بعد إهلاك من قبلهم وتدل على السرعة والتأكيد وأنه بعد طي صفحتهم مباشرة أتى بصفحة أخرى، فتفيد ابتداء الإنشاء في أول أزمنة البعيدة، مع التأكيد، فإنشاء غيرهم كان بعدهم للدلالة على أنه إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده وينشئ مكانه آخر مباشرة يعمر بلاده، فلا ينقص إِهلاكه تلك القرون من ملكه شيئا، بل كلما أَهلك أَمة أَحدث بعدها أُخرى بغاية السهولة، وفيه تعريض للمخاطبين، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم، فكما قدر على أن يهلك من قبلكم وينشئ مكانهم من يعمر به بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم، وهذا مؤكد لما قاله الزمخشري حيث قال: فإن قلت: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عقباها}.

********************

ومثلها {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)}(7/69).
الابتداء فابتداء جعلهم خلفاء من بعد إهلاك قوم نوح وهذه منة عظيمة أن رحمهم بعد إهلاك غيرهم وفيها عبرة لهم، وفيها التأكيد والتعقيب [36]، ولم يقل خلفاء قوم نوح مع أنه أخص لما ذكر من التأكيد والتقرير والتصوير أنهم عقبهم مباشرة.
قال البقاعي: ولما كان زمنهم غير متراخ بعدهم، أتى بالجار فقال: {من بعد قوم نوح”. وهذه عبارة البقاعي خلافا للمطبوع [37].

*********************

ومثلها: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)} (7/74).

*********************

مثلها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100}(7/100)
تفيد الابتداء وأن وراثة الأرض ناشئة من بعد إهلاك من سبقوهم بعدما كانوا في نعمة ورخاء فكفروا بالرسل وأذنبوا، ففيه منة عظيمة حيث رأوا هلاكهم بعد تنعمهم وعصيانهم فهذا أدعى للاتعاظ، وفيها التأكيد والتعقيب.
قال البيضاوي: أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم.
قال رشيد رضا: للذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا في أثر جيل
قال ابن عاشور: وأيّاً ما كان فقيْدُ {من بعد أهلها} تأكيدٌ لمعنى {يرثون}، يراد منه تذكير السامعين بما كان فيه أهل الأرض الموروثة من بحبوحة العيش، ثم ما صاروا إليه من الهلاك الشامل العاجل، تصويراً للموعظة بأعظم صورة فهو كقوله تعالى: {ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}.

********************

مثلها {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} (14/14).
قال سيد طنطاوي: {مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد إهلاكهم واستئصال شأفتهم
. قال الطبرسي: أي: نسكننكم أرضهم من بعدهم، يريد: اصبروا فإني أهلك عدوكم وأورثكم أرضهم، وحملها البقاعي على التبعيض [38].

*****************

{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}(7/173).
قال ابن عاشور: ومعنى: {وكنا ذرية من بعدهم} كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل،و {من بعدهم} نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم
قال الطوسي: وقوله تعالى ” او تقولوا إنما اشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم ” فنشأنا على شركهم فاحتجوا يوم القيامة
قال البقاعي: أي من قبل أن نوجد {وكنا ذرية من بعدهم} فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه 4، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا.
قال أبو السعود: أي هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا {وَكُنَّا} نحن {ذُريةً من بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل.

******************

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} (10/14).
ثم: تفيد تطاول مدد الأمم التي أهلكت فهي أمم كثيرة كفرت فأهلكت وإنشاؤكم ابتدأ من بعد هؤلاء مباشرة ففيهاابتداء الغاية التي تدل على المنة العظيمة فالإنشاء مبتدئ من إهلاك كثيرا من الأمم ويتعقبه والتأكيد والتعقيب بعد كل من سبق.
قال أبو زهرة {ثم} هنا لمعناها من الترتيب والتراخي، وأن التراخي فيها يدل على تعدد الأجيال وكثرتها وما تركته من عبر وآثار تدل على عاقبة أمرهم، وهم على مقربة منهم يسيرون في أرضهم.
قال سيد قطب: وإذ يعرض عليهم نهاية المجرمين، الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا، فحق عليهم العذاب، يذكرهم أنهم مستخلفون في مكان هؤلاء الغابرين، وأنهم مبتلون بهذا الاستخلاف ممتحنون فيما استخلفوا فيه: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون).. وهي لمسة قوية للقلب البشري؛ إذ يدرك أنه مستخلف في ملك أديل من مالكيه الأوائل، وأجلي عنه أهله الذين سبق لهم أن مكنوا فيه، وأنه هو بدوره زائل عن هذا الملك، وإنما هي أيام يقضيها فيه، ممتحنا بما يكون منه، مبتلى بهذا الملك، محاسبا على ما يكسب، بعد بقاء فيه قليل!، [39] وحملها البقاعي: على التبعيض [40].

*********************

ومثلها: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)} (7/ 103).
ثم: تفيد تطاول مدد الأمم التي أهلكت فهي أمم كثيرة كفرت فأهلكت وإنشاؤكم ابتدأ من بعد هؤلاء مباشرة ففيها ابتداء الغاية التي تدل على المنة العظيمة فالإنشاء مبتدئ من إهلاك كثيرا من الأمم ويتعقبه والتأكيد والتعقيب بعد كل من سبق.
تفيد أن إرسال موسى ابتدأ ونشأ وتعقب إ هلاك الأقوام، وفيها تأكيد لأجل إنكار الكفار، وأن إرسال سيدنا موسى عليه السلام يتعقب إهلاك القرون الأولى.

قال أبو زهرة في الآية السابقة ثم جعلناكم: {ثم} هنا لمعناها من الترتيب والتراخي، وأن التراخي فيها يدل على تعدد الأجيال وكثرتها وما تركته من عبر وآثار تدل على عاقبة أمرهم، وهم على مقربة منهم يسيرون في أرضهم.

*********************

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}
(21/ 105).
(من) تفيد الابتداء بأن ابتداء الكتابة كانت ناشئة من بعد الذكر وفيها التأكيد أي أن هذا الوعد محقق عندهم فكتابته في الزبور حاصلة من بعد تحقق كتابته في التوراة مع بيان كونها بعد الكتابة الأولى، فهذا فيه تبشير لهذه الأمة بالنصر ووعظ اليهود أن كتابة الأرض غير مرتبطة بعرق ولا نسب بل بالصلاح وهو مكتوب في أعظم كتبكم كتاب داوود الذي دولته كانت أعظم دولة وكتاب موسى عليه السلام ,فهذا الوعد قد شهدت به الكتب السالفة قبل أن يجيء مثله في القرآن الكريم، فكتب الله المنزلة تواردت على هذا المعنى.
قال البيضاوي: {ولقد كتبنا في الزبور} في كتاب داود عليه السلام. {من بعد الذكر} أي التوراة.
قال أبو حيان: و{الزبور} الظاهر أنه زبور داود وقاله الشعبي، ومعنى هذه الآية موجود في زبور داود وقرأناه فيه و{الذكر} التوراة قاله ابن عباس.
قال ابن عاشور: ومعنى {من بعد الذكر} أن ذلك الوعد ورد في الزبور عقب تذكير ووعظ للأمة.
قال الأمثل: لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة، فإنّ تعبير (من بعد) حقيقي، وعلى هذا فإنّ معنى الآية: إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.
وحمل البقاعي: من على التبعيض [41].

**************

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} (28/43)
ابتداء وتأكيد وتعقيب.
تفيد أن إرسال موسى ابتدأ ونشأ وتعقب إ هلاك الأقوام فهو في وقت حاجة وفيها تأكيد لأجل إنكار الكفار وأن إرسال سيدنا موسى عليه السلام يتعقب إهلاك القرون الأولى
قال أبو السعود: {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الأولى} هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام، والتَّعرض لبيانِ كونِ إيتائها بعدَ إهلاكِهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من موجباتِ اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيينَ للتشريعِ الجديدِ بقريرِ الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها.
قال ابن عاشور: ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفِتَر التي تسبق إرسال الرسل، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره وهو المقصود هنا، وأما حكمة الفصل بالفِتر فشيء فوق مراتب عقولهم.

*****************

{وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)}(17/ 104).
فيه بيان منته على بني إسرائيل فابتدأ إكرامهم من بعد إهلاك فرعون إلى أن يسكنوا أرض الشام ففيه بيان نعمة عظيمة لهم ففي ذلك نعمتان أهلك عدوهم وأسكنهم الأرض، وفيها التأكيد والسرعة والتعقيب.
قال سيد قطب: وهكذا كانت عاقبة التكذيب بالآيات. وهكذا أورث الله الأرض للذين كانوا يستضعفون، موكولين فيها إلى أعمالهم وسلوكهم
قال دروزة: وقد انطوى الاستطراد على تطمين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وتبشيرهم، فالله الذي أهلك فرعون ومكّن لبني إسرائيل أعداؤه في الأرض من بعده قادر على إهلاك أعدائهم والتمكين لهم من بعدهم أيضا قال الطبرسي: (وقلنا من بعده): أي: من بعد هلاك فرعون وقومه.
قال أبو حيان:ومن قومه والضمير في {من بعده} عائد على فرعون أي من بعد إغراقه [42].
في الأرض ثلاثة أقوال:
القول الأول: أرض الشام وهي الأرض التي أمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم}
اختاره: ابن عباس والطبري والطوسي وابن عطية وأبو حيان وابن عاشور والطباطبائي.
القول الثاني: أرض مصر، وهو بعيد.
القول الثالث: جميع الأرض وهذا أيضا بعيد لأن من الابتدائية والمنة لا تحقق بتشتيتهم في الأرض.
فالراجح: هو القول الأول أي أرض الشام لكن قوله تعالى {جئنا بكم لفيفا} يدل على أنهم سيخرجون منها ثم يعادون إليها مرة أخرى في الكرة الثانية التي أشار لها {فإذا جاء وعد الآخرة} المذكورة في أول السورة وهذا أصح من حمل جئنا بكم لفيفا على البعث من القبور، لأنه يؤيده أنه رد العجز على الصدر فرجع آخر السورة لأولها، ويؤيده أن لفظة الآخرة استعملت نفسها {فإذا جاء وعد الآخرة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} وكلمة لفيف يفسرها الواقع قال المفسرون واللفيف: الجماعات المختلطون من أصناف وقبائل شتى مختلطة قد لف بعضها ببعض.
وقد وضح ذلك الشيخ صلاح الخالدي والشيخ فضل عباس وغيرهم وقد اقترب جدا من هذا المعنى الطباطبائي حيث قال الطباطبائي: “و ليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} وإن لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والأسر والجلاء جمعناكم منها وجئنا بكم لفيفا، وذلك إسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل، ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: {فإذا جاء وعد الآخرة} إلخ على قوله: {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة”.

الحالة الثالثة:
تفيد التحويل والبدء والانطلاق من بعد مجرورها إلى فعل شيء معين، بسرعة مباشرة حقيقة أو مجازا، وهذا الفعل فيه مدح للتائبين ونحوهم، وأنهم تحولوا من حالة غير جيدة إلى حالة حسنة مغايرة بسرعة، مع التأكيد، وبيان التحويل بسرعة وتعقيب حقيقي أو مجازي فهذا الفعل عقب هذا الفعل حقيقة أو مجازا.

{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}(3/173).
تفيد الابتداء بأن ابتداء استجابتهم التامة له سبحانه كانت من حالة قرح وجراحات قوية حيث تحاملوا على أنفسهم وهذا فيه تعظيم صدقهم، وفيها تأكيد فالاستجابة من بعد تحقق القرح، ففيه مدح عظيم لهم وفيها تعقيب بأن هذا بعد هذا.
قال سيد قطب: إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ص] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة. وهم مثخنون بالجراح. وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة. وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة، ومرارة الهزيمة، وشدة الكرب. وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا، فقل عددهم، فوق ما هم مثخنون بالجراح! ولكن رسول الله [ص] دعاهم. ودعاهم وحدهم. ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم – ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال! – فاستجابوا..

*************

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)}(3/ 89)

تفيد تبدل الحال من حالة إلى حالة، والبدء من بعد كفرهم إلى فعل التوبة، بسرعة مباشرة وهذا فيه مدح لهم أنهم رجعوا عن كفرهم مسرعين مع تأكيد أنهم كانوا في معصية كبيرة فرجعوا عنها لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه، ففيه منة من الله تعالى عليهم أنه سبحانه قبل توبتهم بسبب تغييرهم وإقبالهم مسرعين إليه سبحانه بسرعة ففيها قوة المن والإنعام مع التوكيد [43]، وليست (من) للتبعيض [44].
قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {(88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}{3/89).أي بادروا في أول أزمنة البعدية
.{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (24/5)
الذين تابوا} ندموا وصرحوا بأنهم كاذبون عن القذف. وأصلحوا أعمالهم بالتدارك أن يكذب القاذف نفسه، ويقر أنه كاذب فيما
قال أبو السعود وقولُه تعالى: {مِن بَعْدِ ذلك} لتهويلِ المتوبِ عنه أي من بعدِ ما اقترفُوا ذلكَ الذَّنبَ العظيمَ الهائلَ

****************

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}(16/ 119)
ومثل الآيات الثلاث السابقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5/ 39)
الابتداء والتأكيد والقرب أي الترغيب في التعجيل في التوبة ولخص هذه المعاني أبو السعود: والتصريحُ به مع أن التوبةَ لا تُتصوَّرُ قبلَه لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه
وحملها البقاعي على التعميم فقال: ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال: {من بعد}.
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} (9/117)
فيها الابتداء لبيان عظيم فعلهم ومدحهم حيث ابتدأوا الاتباع من بعد قرب زيغ القلوب فاستحقوا توبة الله تعالى لهم، فهم لم يزيغوا، ولم يضلوا، بل اصطبروا، ومرت الشديدة، وانتهوا إلى الاطمئنان بعد المقاربة، وفيها التأكيد، والسرعة في الرجوع والإقبال عليه سبحانه [1].
وفي تعلق {من بعد قولان:
القول الأول: أنه متعلق باتبعوه
ابن عاشور وأبو زهرة وسيد طنطاوي والطباطبائي ودعاس والخراط
قال أبو زهرة: وقد صور الله تعالى شدة العسرة على بعض النفوس فقال تعالى:{من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}، أي أن الشدة بلغت أقصاها حتى كادت تزيغ قلوب أي تنحرف وتضل قلوب فريق منهم، ولكنهم لم يزيغوا، ولم يضلوا، بل اصطبروا، ومرت الشديدة، وانتهوا إلى الاطمئنان.قال الطباطبائي اتبعوه من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ويميل عن الحق بترك الخروج أو ترك السير فبعد ما اتبعوه تاب الله عليهم إنه بهم لرءوف رحيم.
سيد طنطاوي وقوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} بيان لتناهى الشدة، وبلوغها الغاية القصوى.
أى: تاب – سبحانه – على الذين اتبعوا رسوله من المهاجرين والأنصار من بعد أن أشرف فريق منهم على الميل عن التخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك، لما لابسها وصاحبها من عسر وشدة وتعب.
قال ابن عاشور: {من بعد} متعلق بـ{اتبعوه} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
القول الثاني: متعلـ(تاب)
البقاعي والجدول
تنبيه: يصحح ما في التفسير الأصح أن من بعد متعلقة باتبعوه لا بتاب

**************

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} (16/41)
القول الأول:
قال البقاعي: ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى: {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلمهم من الكفار، الآلوسي: {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي من بعد ظلم الكفار إياهم
القول الثاني:
قال السامرائي: ثم قال تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)أي هاجروا من بعد الظلم فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة ولو قال تعالى (بعد ما ظلموا) لاحتمل ان ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل الطول والقصر بخلاف قوله (من بعد ما ظلموا).
الراجح:
يقول علي هاني: والذين فارقوا أوطانهم وديارهم وأهليهم، فرارا بدينهم، واتباعا لنبيهم في الله أي: في سبيله لابتغاء [45] مرضاته من بعد ما ظلمهم المشركون، وعذبوهم بمكة، وبخسوهم حقوقهم، فهجرتهم لله سبحانه ناشئة ومبتدأة من ظلم قومهم وإيذائهم وبخسهم حقوقهم فهم معذورون في الهجرة قد ظلموا وتحقق ظلمهم مع التأكيد لحصول ظلمهم لبيان فظاعة ظلمهم وتسببه لهم بالهجرة وزاد فالله سبحانه يذكر أن لهم أجرا كثيرا على هذا التقلب والانتقال السامرائي: فائدة ثالثة وهي: أن هجرتهم كانت بعد الظلم فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة ولو قال تعالى (بعد ما ظلموا) لاحتمل ان ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل
ومثلها {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}(16/110).
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا أي: عذبوا في الله، فوافقوهم على الفتنة وارتدوا على الكفر، فأعطوهم بعد ما أرادوا، ليسلموا من شرهم فإنهم حملوا على الارتداد عن دينهم تقية كعمار، فإنه أظهر ذلك تقية، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه، وانتظموا في سلك المؤمنين، وجاهدوا معهم الكافرين، وصبروا..
ثم هاجر، فالله يبشرهم بأنه سيغفر لهم ويرحمهم (إن ربك من بعدها لغفور رحيم).
من بعدها: فيها قولان:
أنها ترجع إلى جميع ما سبق: البيضاوي. {إن ربك من بعدها}، من بعد الهجرة والجهاد والصبر، أبو حيان: والضمير في مَن بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر. أبو السعود {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ، فهو تصريحٌ بما أشعر به بناءُ الحُكم على الموصول من علّية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم.
القول الثاني: من بعدها “، يعني: بعد الفتنة التي فتنوابها.
يقول علي هاني: فهذه الآية كالآية السابقة تماما وهذا أحسن مما ذكره البقاعي حيث قال: البقاعي: ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى مبيناً أن الفتنة بالأذى – وإن كان بالغاً – غير قادحة في الهجرة وما تبعها، فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى {من بعد ما فتنوا ــ ـ ولما كان له سبحانه أن يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأن يعذب عليها كلها وعلى بعضها، وأن يقبل الصالح كله، وأن يرد بعضه، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى: {من بعدها}.

****************

ومثل هاتين الآيتين:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}
(24/33)
لبيان أن هذه المغفرة ة لهن مبتدئة وناشئة من الإكراه وبسبب تحقق الإكراه، وفيها تأكيد للمغفرة لهن بسبب تحقق الإكراه وأنه بعد تحقق الإكراه سيغفر لهن بسرعة.
قال أبو السعود: {غفور رحيم} أي لهنَّ كما وقع في مصحف ابن مسعودٍ وعليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي الله تعالى عنهم وكما ينبئ عنه قولُه تعالى: {مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} أي كونهنَّ مكرهاتٍ على أنَّ الإكراه مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ فإن توسيطَه بين اسمِ إنَّ وخبرِها للإيذانِ بأنَّ ذلك هو السببُ للمغفرةِ والرَّحمةِ. وكان الحسنُ البصريُّ رحمه الله إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ لهنَّ واللَّهِ لهنَّ واللَّهِ
قال سيد قطب: ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه.
قال أبو زهرة: ثم يقول تعالى في بيان أن الله تعالى يعفو عن هؤلاء المكرهات، ويكون إثم الإكراه على مواليهن، فقال: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن الله يغفر لهن هذا الذنب الذي كان بإكراه، وقوله: {مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} للإشارة إلى أن الفعل الآثم يكون من بعد الإكراه وبسببه، فالله يغفر ذلك الإثم، لأنه غفور رحيم.

****************

ومثلها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (26/227).
مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يقول:
استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته، ولو قالوا هجوا أرادوا به الانتصار ممن هجاهم ومكافحة هجاة المسلمين كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت والكعبين، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لحسان ” قل وروح القدس معك “لانتصار الانتقام المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الإسلام والمسلمين
ومن فيها كالآيات السابقة.

*************

{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)}(5/106)
ابتداء الغاية أي أن الحبس يبتدئ من الوقت المبارك المعظم من بعد الصلاة التي لها حرمتها عند الله وذلك تغليظ في اليمين، وتفيد التأكيد والتعقيب بأن تكون من بعد الصلاة مباشرة، وخص ذلك ابن عباس بصلاة دينهما وقال الجمهور هي صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف عدياً وتميماً بعد العصر عند المنبر ورجح هذا القول بفعله صلى الله عليه وسلم وبقوله في الصحيح: « من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان ».
قال ابن عاشور وقوله: {من بعد الصلاة} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة. والإتيانُ ب (مِن) الابتدائية لتقريب البَعديّة، أي قرب انتهاء الصلاة.

********************

المعنى الثاني:
ذكر (من) يفيد الاستيعاب مع التأكيد فهو يفيد الابتداء من بعد زمن الظرف أو من قبله مباشرة من غير فاصل، مستغرقا جميع الوقت الذي قبل أو بعد المضاف إليها، نحو {من أول} {من قبل} {من بعد} والظروف إذا حدّت حقّقت، فكأنه يفيد الابتداء والانتهاء كما نص بعض العلماء لكن دلالته على الانتهاء ليس من وضع (من) بل من السياق وفحوى الكلام، و(من) لابتداء الغاية فـ(من) تفيد الابتداء والتوكيد، وتستوعب بذكر طرفيه ابتداءه وانتهاءه، فتفيد ثلاثة معان مجتمعة، فأنت حين تقول ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته، مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم يفتك، وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته.

***************

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}(2 /230).
في الآية بيان أن الحل له لا يمكن أن يكون حتى تنكح زوجا غيره، وأن هذا الحكم وهو عدم الحل يبتدئ من أول لحظات البعد للطلقة الثالثة مباشرة من غير فاصل مستغرقا جميع الوقت الذي بعد، أي يفيد الاستيعاب لجميع الزمان المستقبل إلى تحقق نكاح زوج غيره مع التأكيد، وحذف المضاف إليه يزيد في تقوية هذا المعنى.
أبو حيان والسمين الحلبي:ومن بعد من ابتداء الغاية.
وقد أفاد المعنى الذي ذكرته البقاعي بطريقة أخرى وهو أنه حمل من على التبعيض ولكن المعنى النهائي الذي ذكره يلتقي مع ما ذكرته قال البقاعي:{فلا تحل له} ولما كان إسقاط الحرف والظرف يوهم أن الحرمة تختص بما استغرق زمن البعد فيفهم أن نكاحه لها في بعض ذلك الزمن يحل قال: {من بعد} أي في زمن ولو قل من أزمان ما بعد استيفاء الدور الذي هو الثلاث بما أفاده إثبات الجار، وتمتد الحرمة {حتى.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}(2 / 133).
وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول أزمنة البعدية حتى لا تفوت لحظة من اللحظات إلا وقد وحدوا الله تعالى.، وفيها التأكيدلأن المقام يقتضي التقرير والتأكيد ِ وليست للتبعيض [46]
.قال ابن عاشور عند تفسير {ما تعبدون من بعدي} واقترن ظرف {بعدي} بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.
قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}(2/133)فإن قلت: لم قال: «من بعد» فأتى بـ «من» المقتضية لأول الأزمنة البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له ومقتفين (لآثاره)؟الجواب: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال: إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب من موته يقوى فيه وجه الاتباع.

**************

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)} (38/ 35).
والتعميم حاصل سواء فسرنا من بعدي بأحد غيري أو من بعد حياتي وقد أحسن البقاعي في تفسيرها أيما إحسان إلا في جعله من للتبعيض، قال البقاعي:”{لأحد} في زمان ما طال أو قصر سواء كان كاملاً في الصورة والمعنى أو جسداً خالياً عن العز كما حصلت به الفتنة من قبل، وبعّض الزمان بذكر الجار فقال: {من بعدي} حتى أتمكن من كل ما أريد من التقرب إليك وجهاد من عاداك، ويكون ذلك أمارة لي على قبول توبتي ولا تحصل لي فتنة بإلقاء شيء على مكان حكمي ولا غيره، وهذا يشعر بأن الفتنة كانت في الملك، وكذا ذكر الإلقاء على الكرسي مضافاً إليه من غير أن ينسب إليه هو صلى الله عليه وسلم شيء، وهو مناسب لعقر الخيل الذي هو إذهاب ما به العز – والله أعلم، وبهذا التقدير علم أنه لو ذكر الظرف من غير حرف لأوهم تقيد الدعوة بملك يستغرق الزمان الذي بعده”.

**************

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (59/ 10).
تفيد الابتداء والتأكيد والتعميم من أول لحظات البعدية فكل من جاء بعدهم المهاجرين والأنصار من المؤمنين من أول لحظات البعدية يقولون هذا الدعاء.
قال ابن عطية وقال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول
قال الفخر الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار أو الذين جاءوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية.
قال سيد طنطاوي: ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا، أقرب إلى الصواب، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، كما قال – تعالى -: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ…} وعليه يكون المعنى: والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة.

*****************

{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)} (8/ 75).
فيها الابتداء من أول لحظات البعدية فما فوقها أي تفيد الاستيعاب والتأكيد وفيها الحث على السرعة في الهجرة، فالوعد الكريم تشمل كل من آمن من بعد مباشرة فما فوقه ففيها الاستيعاب والتأكيد والحث السرعة.
قال الزمخشري: {والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} [الحشر: 10] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً
قال الفخر الرازي: -والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى، وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال: {والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه}.
قال ابن عاشور: المقصود: بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قُبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوفَ الذي يشير إليه بناء {بعدُ} على الضمّ أن تقديره: من بعد ما قلناه في الآيات السابقة

*****************

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)} (28/ 58).
قال البقاعي: ولما كان المعنى أنها خاوية على عروشها وصل به قوله: {لم تسكن} أي من ساكن ما مختار أو مضطر. ولما كان المراد إفهام نفي قليل الزمان وكثيره، أثبت الجار فقال: {من بعدهم}ـ ـ {إلا} سكوناً {قليلاً} بالمارة عليها ساعة من ليل أو من نهار، ثم تصير تباباً موحشة كالقفار، بعد أن كانت متمنعة القبا.

*****************

ومثلها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} (35/41).
قال ابن عاشور: و« من بعد » صفة {أحد} و{من} ابتدائية، أي أحد ناشىء أو كائن من زمان بعده، لأن حقيقة (بعدٍ) تأخر زمان أحد عن زمن غيره المضاف إليه (بعد) وهو هنا مجاز عن المغايرة بطريق المجاز المرسل لأن بعدية الزمان المضاف تقتضي مغايرة صاحب تلك البعدية، كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد اللَّه} [الجاثية: 23]، أي غير الله.
قال الزمخشري: ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية: للابتداء. ومن بعده: من بعد إمساكه. قال أبو حيان: ومن في {من أحد} لتأكيد الاستغراق، ومن في {من بعده} لابتداء الغاية، أي من بعد ترك إمساكه. اطفيش – الهميان: ومن الداخلة على بعد وقيل زائدة عند ابن مالك ولو في الاثبات او التعريف او فيهما وللابتداء عند بعض. سيد قطب ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها، واختلت وتناثرت بدداً، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبداً.وقد أشار البقاعي إلى التعميم من خلال التبعيض:
قال البقاعي عند تفسير{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)}: ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من الأزمان وإن قل، أثبت الجار فقال: {من بعده} أي بعد إزالته لهما، بل وإذا زلزلت الأرض اضطرب كل شيء عليها والأصنام من جملته، فدل ذلك قطعاً على أن الشركاء مفعولة لا فاعلة.

*****************

مثلها {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}(3/ 160).
فهي نفي لأي ناصر بعد ترك الله لهم وخذله سبحانه لهم
قال ابن عاشور:وكلمة {من بَعده} هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاوزة: أي فمن الَّذي ينصركم دونَه أو غيرَه أي دون اللَّه، فالضّمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال (بعد) في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية: بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذلك فحذف ما يدل على الحالة المشبه بها ورمز إليه بلازمه وهو لفظ {من بعده}.
قال سيد طنطاوي:وأن يرد أن يخذلكم ويمنع عنكم عونه كما حدث لكم يوم أحد، فلن يستطيع أحد أن ينصركم من بعد خذلانه، لأنه لا يوجد أحد عنده قدرة تقف أمام قدرة الله – تعالى – ومشيئته.

*****************

ومثلها: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} (35 / 2).

*****************

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} (45/ 23).
قال سيد طنطاوي: أي: لا أحد يستطيع أن يهدي هذا الإِنسان الذي اتخذ إلهه هواه من بعد أن أضله الله – عز وجل -.

*****************

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44 (42/ 44)

*****************

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)} (36 / 28).
تفيد ابتداء الغاية وأن إهلاكهم بالصيحة كان من بعده مباشرة والتعميم فلم ينزل من بعده مباشرة فما بعدها من جند أي في كل الزمان الذي بعده لأنهم كانوا أحقر وأهون من أن نفعل معهم ذلك، والأمر في إهلاكهم كان أيسر من ذلك، وفيها التأكيد، وحملها أكثر من تكلم من العلماء على (من) هنا على أن عذابهم مباشرة مع التأكيد.
قال الفخر الرازي: إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم.
ابن عاشور: و{مِن} في قوله: {مِن بَعْدِهِ} مزيدة في الظرف لتأكيد اتصال المظروف بالظرف وأصلها {مِن} الابتدائية.
قال أبو حيان: وقوله: {من بعده}، يدل على ابتداء الغاية، أي لم يرسل إليهم رسولاً، ولا عاتبهم بعد قتله، بل عاجلهم بالهلاك.
قال الزمخشري: فإن قلت: وما معنى قوله وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ؟ قلت: معناه:
وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، وذلك لأنّ الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة.

*****************

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)}(4/ 163).
قال الطبري: يعني جلّ ثناؤه بقوله: إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ: إنا أرسلنا إليك يا محمد بالنبوّة كما أرسلنا إلى نوح وإلى سائر الأنبياء الذين سميتهم لك من بعده والذين لم أسمهم لك.
قال الفخر الرازي: المسألة الثالثة: قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال تعالى: {والنبيين من بعده} ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله {وملئكته ورسله وجبريل وميكال}.
قال سيد طنطاوي: والمعنى: إنا أوحينا إليك يا محمد بكلامنا وأوامرنا نواهينا وهداياتنا.. كما اوحينا إلى نبينا نوح وإلى سائر الأنبياء الذين جاءوا من بعده. فأنت يا محمد لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول من عند الله – تعالى – تلقيت رسالتك منه – سبحانه – كما تلقاها غيرك من الرسل.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)} (14/9)
تفيد ابتداء الغاية من أول أوقات البعدية مع التأكيد والاستيعاب لجميع من بعدهم والمراد من بعد هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف عليه
قال الطبري: وَالّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: من بعد قوم نوح وعاد وثمود. لا يَعْلَمُهُمْ إلاّ اللّهُ يقول: لا يحصي عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله.
قال الزمخشري: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله.
قال سيد قطب: فهم كثير إذن، وهناك غير من جاء ذكرهم في القرآنما بين ثمود وقوم موسى. والسياق هنا لا يعني بتفصيل أمرهم، فهناك وحدة في دعوة الرسل ووحدة فيما قوبلت به

*****************

ومثلها: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)} (40/ 5).
وقد اقتصر البقاعي على قرب الزمن فقط فقال: ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: {والأحزاب} أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم}.

*****************

ومثلها [47]: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} (40 / 31).

*****************

ومثلها: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} (17/ 17)
قال الطبري: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم.
قال ابن عاشور: وتخصيص {من بعد نوح} إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم أبو حيان و{من} الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية.

*****************

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}(2 / 87)
تفيد أن ابتداء إرسال الرسل كان من بعد موسى عليه السلام مباشرة من غير فاصل، مستغرقا جميع الوقت الذي فما بعده من الزمان مع التأكيد.
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما أفاد « مِن بَعْدِهِ » مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟
قلت: لإفادة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخر فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى.
قال أبو حيان ومن في: {من بعده}: لابتداء الغاية، وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع.

*****************

{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} (7/ 129)
تفيد الابتداء والتأكيد والابتداء من أول لحظات القبل وأول لحظات البعد فما فوقها فلم تذهب لحظة إلا وقد أوذوا، ويلاحظ التأكيد في من بعد ما جئتنا أكثر بدليل التعبير الماضي والمجيء.
قال الزمخشري: يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئى، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب.
قال الطباطبائي: على أن غرضهم إظهار أن مجيء موسى وقد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة وهاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الأذى الذي كانوا يحملونه ويؤذون به على حاله

*****************

{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)} (30/24)
من تفيد التعميم وأن الأمر لله من قبل الغلب مباشرة مستوعبة جميع الزمان الماضي، ومن بعد الغلب مباشرة مستوعبة جميع الزمان المستقبل مع التأكيد.
قال البقاعي: ولما أفهم السياق العناية بالروم، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدىء من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به، وهو مبتدىء من الزمن الذي بعده، فالتأخير به لا بغيره، لحكمة دبرها سبحانه فقال: {من قبل} أي قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم {ومن بعد} أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم لا إلى غاية فيه أيضاً غلبهم الروم، فحذف المضاف إليه هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمره مرتين.
يعني أن كلاً من كون الروم مغلوبين أوّلاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه وعلمه ومشيئته فغَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب، بأمر الله وقضائه {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي هو المنفرد بالقدرة وإنفاذ الأحكام
2) فإياك أن تظن أن انتصار الفرس جاء غصْباً عن إرادة الله، أو خارجاً عن مراده، إنما أراده الله وقصده لحكمة وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره – سبحانه – وأراده.، فلله الأمر من قبل الغلب، ولله الأمر من بعد الغلب.
4)، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة وإن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها
يقول علي هاني وهناك أقوال سبعة في تقدير المضاف إليه تراجع في محلها.

*****************

{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
(57/ 10) فيها الاستيعاب والتأكيد فكل من أنفق من قبل الفتح وما قبله لا يساويه من أنفق من بعد الفتح مباشرة وما بعده.
قال ابن عرفة: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الآية لما تضمنت تشريف القسم المقابل كان تحريضا، إذ [هو] عام في البعدية إلى يوم القيامة أو مقابل قوله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، وهذه البعدية صادقة في سائر الأزمان فينبغي للمكلف تحصيل صادقيتها ليكون أحد المقابلين للأفضل، ونص في الآية على نفي مساواة من جمع الوصفين، قبل الفتح لفعل مثله بعده، فمن أنفق قبله، ولم يقاتل، هل يساوي من قاتل بعده ولم ينفق؛ لأن بذل النفس أعظم ثوابا من بذل المال، فهل يعدل فضيلة ذلك فضل السبقية [أو لا؟] فيه نظر، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية، وتضمنت الآية نفي مساواة من أنفق في أول الأزمنة المتقدمة على الفتح، لمن أنفق في أول الأزمنة المتأخرة عنه، مع أن المساواة منتفية بين من أنفق قبله مطلقا، وبين من أنفق بعده مطلقا، فالجواب: أن كل ما ثبت لأحد المتساوين ثبت للآخر، و(مَن) إنما دخلت لتأكيد معنى السبقية.

قال الزمخشري: ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة.

*****************

ومثلها {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)} (40 / 34).
قال ابن عاشور: أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف: لا يبعث الله في المستقبل أبداً رسولاً بعد يوسف، يعنون: أنا كنا مترددين في الإِيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدَّعِي الرسالة عن الله من بعده، وهذا قول جَرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإِصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندماً على ما فاتهم من خير كانوا يَدعونهم إليه.
وقد فسرها البقاعي على العموم لكن من خلال جعل من تبعيضية:قال البقاعي:ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي يوسف عليه السلام {رسولا} وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.

*****************

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)}(12/ 9).
مباشرة تكونون قوما صالحين عريقين في وصف الصلاح مستقيمين من أول الزمان بعد القتل أو أو التغريب بالطرح إلى جميع المستقبل أي إنكم اذا فعلتم ذلك وبلغتم أغراضكم تبتم مما فعلتموه، وكنتم من جملة الصالحين الذين يفعلون الخيرات، فيكفر عنكم عقاب ما فعلتموه.

*****************

{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)} (33/ 53).
قال ابن عاشور: وأكد ظرف (بعدُ) بإدخال من الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أبداً} ليُعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيداً وتحذيراً بقوله: {إن ذلكم كان عند الله عظيماً}. قال البقاعي: ولما كان قد قصره صلى الله عليه وسلم عليهن، ولزم ذلك بعد أن أحل له غيرهن قصرهن عليه بعد الموت زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته فقال: {ولا أن تنكحوا} أي فيما يستقبل من الزمان، {أزواجه من بعده}.

*****************

مثل ما سبق{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)} (33 /52).
قال الزمخشري: {مِن بَعْدِ} من بعد التسع، لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب
قال ابن عاشور: تقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الخ

*****************

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)} (30/ 51).
الضمير المنصوب في {رأوه} عائد إلى الزرع والكلأ والشجر. والاصفرار في الزرع ونحوه مؤذن بيبسه أي إذا أرسلنا ريحا فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفراً بعد خضرته ونضارته لظلوا من أول لحظات لصفراره يكفرون سريعا، فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا، ولا عند الضراء بالنقمة صبروا بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار، ضجوا فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة
فـ(من) تفيد الابتداء والتأكيد والسرعة في هذا الفعل مع استيعاب الوقت المستقبل من أول اللحظات بعد اصفراره فما بعدها.
قال أبو السعود: {مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتَّفريطِ ما لا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم ـ ـ أنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم
قال اطفيش – التيسير: {من بعْده} {يَكْفُرون} سراعا.

***********************

المعنى الثالث:
ذكر (من) يفيد التوكيد، وأن ما بعدها لا يمكن أن يحصل إلى بحصول مجرورها أو أنه ما حصل إلا بحصول أمر معين قطعا، يقول علي هاني: (من) في الحقيقة الآيات التي للتأكيد تفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد، وأن الأمر موقوف على تحقق شيء فعندها يتحقق شيء آخر.

****************

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) (10/3) فيها معنى الابتداء وهو أن الشفاعة لا تنشأ ولا تبدأ إلا من3طلقة متوقفة على الإذن فلا يمكن أن تكون إلا من بعد تحقق إذنه سبحانه فهي متوقفة توقفا تاما على الإذن مع التأكيد لأن فيه ردا على العرب في قولهم أصنامهم تشفع لهم، فهذه الآية فيها بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه، وفي ذلك أيضاً تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة [48].

****************

ومثلها:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/ 26) [49].

*************

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)} (3/ 65).
فمن ابتدائية أي ابتداء إنزال التوراة والإنجيل من بعده أي وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية، وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية، وتفيد أيضا التوكيد للحجة في سياق التشديد، كأنها تقول من المحقق أن التوراة والإنجيل ابتدأ نزولهما من بعده فانتبهوا لذلك، فكيف تقولون كان يهوديا أو نصرنيا أيعقل أن يدين نبيّ سابق بدين لاحق؟ فكيف يمكن أن يتفوَّهَ به عاقلٌ، وقيل من للتبعيض [50].
، ويزيد معنى التأكيد الاستثناء المفرغ فقولُه تعالى: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلِّقٌ بأُنزلت، وهو استثناء مفرغ،.قال الطبري: فأخبرهم الله أن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية.

****************

(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (4/ 11)
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} (4/ 12).
السياق فيه توكيد واشتراط أن لا توزع التركة إلا من بعد إنفاذ الوصية وقضاء الدين، فما بعدها لا يمكن أن يحصل إلى بحصول مجرورها، فلا بد أن توزع ناشئة ومبتدئة من بعد هذين الأمرين، وفيها تأكيد، وأن توزيع التركة لا يعقب الإنفاذ للوصية والقضاء للدين، ففي من ابتداء الغاية والتأكيد، وأن الأمر موقوف على تحقق شيء فعندها يتحقق شيء آخر.
قال الزمخشري: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها.
قال الأمثل: ثمّ إنّ الله سبحانه يقول: (من بعد وصية يوصي بها أو دين) فلابدّ من تنفيذ ما أوصى به الميت من تركته، أو أداء ما عليه من دين أوّلا، ثمّ تقسيم البقية بين الورثة.
قال ابن عاشور: انه كرر في كل حال حق الدائنين والموصى لهم، تبرئة لذمة المتوفى وتأكيدا لحقهم

**************

ومثلها: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)} (4/ 24).
قال ابن عطية: واختلف المفسرون في معنى قوله: {ولا جناح عليكم} الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض.
قال اطفيش – الهميان: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم}: أيها الأزواج والزوجات فيما تراضيتم به من ذلك، وذلك كله بعد ان تفرضوا تحقيقاً.
قال سيد قطب: فلا حرج عليهما في أن تتنازل الزوجة عن مهرها – كله أو بعضه – بعد بيانه وتحديده. وبعد أن أصبح حقا لها خالصا تتصرف فيه كما تتصرف في سائر أموالها بحرية قال رشيد رضا: أي لا حرج ولا تضييق عليكم منه تعالى إذا تراضيتم بعد الفريضة على الزيادة فيها أو النقص منها أو حطها كلها فإن الغرض من الزوجية أن تكونوا في عيشة راضية ومودة ورحمة تصلح بها شؤونكم، وترتقي بها أمتكم، والشرع يضع لكم قواعد العدل، ويهديكم مع ذلك إلى الإحسان والفضل.

****************

مبحث اجتماع بعد ومن بعد:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (24/55)
من فيها الابتداء والتحقيق والقرب
ذكر (من) يدل على ابتداء الغاية وتأكيد الخوف وبيان عظم المنة، فسينقلهم سبحانه ويبدلهم من حالة الخوف إلى الأمن، وهذا فيه غاية المنة فالتبديل يبتدئ من الأمن وينشأ منه، وتأكيد أنه سينقلهم من تحقق خوفهم الذي كانوا فيه إلى الأمن، عن قريب بحيث هذه تعقب هذه، فقد كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ عشرَ سنين بل أكثرَ خائفين ثم هاجرُوا إلى المدينةِ وكانوا يُصبحون في السِّلاحِ ويُمسون فكانوا مظلومين مقهورين ففيها ابتداء الغاية والتأكيد وبيان المنة وسرعة التحول وتغيير الحال.
وأما حذف (من): فهو يدل على أمرين:
الأمر الأول: أن الكفر شنيع بد بعد ما سبق من الوعد والنعمة.
الأمر الثاني: التعميم وبيان أن التهديد عام في جميع الأيام المستقبلة بعد هذه المنة والنعمة وهي حصول الاستخلاف العظيم، وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق، وليس فيها تأكيد ولا ابتداء غاية، لأن السياق لتطمين المؤمنين وتصبيرهم فاعتنى بوعدهم وأما قوله سبحانه {ومن كفر بعد ذلك}فهو تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعاً للاتكال.، وليس المراد التأكيد من أول الأزمنة أو التحول والابتداء؛ لأن المراد عموم الأوقات وأن الأوقات كلها سواء في تحقق الوعيد.
وأما درجة هذا الأمن فهو من التنكير أي {أمناً} أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ آمنا دائما مستقرا، وكان التنكير لبيان عظيم الأمن، وإنه أمن مستقر ثابت
قال ابن عاشور إنما قال: {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} ولم يقل: وليؤمننهم، كما قال في سابقَيْه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذٍ إلا إلى الأمن، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفاً، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر.
قال البقاعي: {وليبدلنهم} وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع [51] الزمان بإثبات الجارّ فقال: {من بعد خوفهم} هذا الذي هم فيه الآن {أمناً} ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال: {بعد ذلك} أي الاستخلاف العظيم على الوجه

**************************

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} (24/ 58).
وجوب الاستئذان يشمل من أول لحظات ما بعد صلاة العشاء مباشرة إلى ما قبل صلاة الفجر مباشرة فلا تخرج لحظة إلا وهي داخلة ويجب فيها الاستئذان مع التأكيد على وجوب العمل بهذا من تحقق أول لحظات بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الفجر فتفيد الابتداء والتأكيد واستيعاب الوقت.
قال البقاعي: وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط[حين تضعون] دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط ـ ـ ـ {بعدهن} أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم
قال اطفيش – الهميان: اي بعد تلك الاوقات اي في غيرهن ابن عاشور: وحرف (من) مزيد للتأكيد. أي في غير تلك الأوقات الثلاثة.

 

[1]قال البقاعي ولما كان النقض ضاراً ولو كان في أيسر جزء، أدخل الجار فقال: {من بعد ميثاقه}.
[2] أي حمل ثم على التراخي الزمني بعيد لأنه يتعارض مع دلالة من على القرب
[3] أي القرب منه قريب جدا ومنه أقل قربا فهنا لو حملنا ثم على التراخي الزمني تكون من للقرب لكن ليس للقرب القريب جدا قال في المعجم الوسيط: (التشكيك):” يُقَال (فِي علم الْمنطق) (لفظ مقول بالتشكيك) لفظ يدل على أَمر عَام مُشْتَرك بَين أَفْرَاد لَا على السوَاء بل على التَّفَاوُت كَلَفْظِ الْأَبْيَض”. اهـ فالبياض درجات متفاوتة كثيرة حتى لكثرة تفاوتها قد يشك أنها من نوع واحد وهو البياض لذلك سمي مقولا بالتشكيك
[4] قال البقاعي: ولما كان توليهم لم يستغرق زمن البعد أدخل الجار فقال: {من بعد ذلك}.
[5] قال البقاعي: ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال {من بعد ذلك}
[6] قال الزمخشري: معنى {ثُمَّ قَسَتْ} استبعاد القسوة من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ البيضاوي وثم الاستبعاد القسوة. قال أبو حيان: وأتى بمن في قوله: {من بعد ذلك} إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بد من تجوّز في أحدهما، والتجوز في ثم أولى، قال البقاعي:ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلاً عن الوقوع، أشار إليه بقوله {ثم قست} أبو السعود و(ثم) لاستبعاد القسوةِ بعد مشاهدةِ ما يُزيلها كقوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} الآلوسي و{ثُمَّ} لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها، وقيل: إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم.
[7] ومعنى {وهم يعلمون}: أنهم كاذبون مفترون مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله، فلم يفعلوا ذلك عن نسيان وخطأ بل فعلوه عن تعمد وعلم أنهم كاذبون فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد.
[8]قال البقاعي: قال مثبتاً الجار إعلاماً بأنه لا يغفر لمضيعه بعد الإرسال ولو في أدنى وقت: {من بعد ما تبين
[9] قال الزمخشري: {يُحَاجُّونَ فِى الله} يخاصمون في دينه {مِن بَعْدِ} ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا}قال بعض العلماء: ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان قال ابن عاشور: فالمقصود: المشركون لأنهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية دون اليهود من أهل الكتاب فإنهم لا يحاجّون في تفرد الله بالإلاهية. والتقدير: يحاجون المستجيبين لله من بعد ما استجابوا له، أي استجابوا لدعوته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وحذف فاعل {استجيب} إيجازاً لأن المقصود من بعد حصول الاستجابة المعروفة.
[10] قال البقاعي: ثم حقق أمر التمني في كونه محالاً مشيراً بإثبات الجار إلى قناعتهم به ولو في زمن يسير فقال: {من بعد إيمانكم}.
[11] قال ابن عاشور: مناسبته لما قبله أن ما تقدم إخبار عن حسد أهل الكتاب وخاصة اليهود منهم، وآخرتها شبهة النسخ، فجيء في هذه الآية بتصريح بمفهوم قوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب} [البقرة: 105] الآية لأنهم إذا لم يودوا مجيء هذا الدين الذي اتبعه المسلمون فهم يودون بقاء من أسلم على كفره ويودون أن يرجع بعد إسلامه إلى الكفر.
[12] في كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن (1/73).
[13] قال البيضاوي: البيضاوي:وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه: أحدها: الإتيان باللام الموطئة للقسم: ثانيها: القسم المضمر. ثالثها: حرف التحقيق وهو أن. رابعها: تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية. وخامسها: الإتيان باللام في الخبر. وسادسها: جعله من {الظالمين}، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاما بحصول أنواع الظلم. وسابعها: التقييد بمجيء العلم تعظيما للحق المعلوم، وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى، واستفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء
[14] قال في درة التنزيل::فإن قال قائل: فكيف خص ما في القبلة بلفظة من فقال: (.. من بعد ما جاءك من العلم..) البقرة: 145 ولم يكن ذلك في قوله: (.. بعد الذي جاءك من العلم..) وهل لاختصاص هذا المكان ب من فائدة تخصه دون المكانين الآخرين؟ قلت: هنا فائدة تقتضي من وليست في الآيتين الأخيرتين، وهي: أن أمر القبلة مخصوص بفرائض مضيقة وأوقات مخصوصة لها في اليوم وفي الليلة مؤقتة، فخص بمن التي هي لابتداء الغاية، والقبلة شرع كان يجوز نسخه كما نسخ ما هو مثله، فكأنه قال هناك: (.. ولئن اتبعت أهواءهم..) من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالقبلة التي وليتها، وأمرت بالتوجه نحوها صوت من الظالمين.القبلة الأولى إلى غيرها، وليس كذلك ما بعد قوله: (..قل إن هدى الله هو الهدى..) لأن العلم الذي وقع التوعد معه على اتباع أهواء أهل الكتاب لم يتخصص وجوب العلم به بوقت دون وقت إذ كان واجبا في الأوقات كلها، ولم يكن مما يجوز أن ينسخ لأنه علم بالإيمان، وصحة الإسلام، وبطلان الشرك والكفر، فلما لم يتخصص وجوبه بوقت دون آخر لم يحتج معه إلى لفظة من التي هي للحد وابتداء الغاية.وكذلك الآية في سورة الرعد، لما كان العلم المانع من اتباع أهواءهم علما بأن جميع ما أنزل الله تعالى حق، وأن قول الأحزاب الذين ينكرون بعضه باطل، كان هذا أيضا من العلوم التي لا يتخصص الفرض فيها بوقت يجب حده بزمان بل هو واجب في الأوقات كلها، فلم يكن لدخول من في الآيتين مقتض كما كان له في الآية المتوسطة. ومما يبين لك الأغراض التي أشرت إليها في الآي الثلاث، وأنها تجوز أن تكون مقصودة والله أعلم:قال أبو حيان:وأما المجيء بمن، فهو دلالة على ابتداء بعدية المجيء
قال السمين الحلبي نقلا عما نقل أبو حيان: ” وأما دخولُ ” مِنْ ” ففائدتُه ظاهرةٌ وهي بيانُ أولِ الوقتِ الذي وَجَبَ [على عليه السلام أن يخالِفَ أهلَ الكتابِ في قِبْلَتِهم
[15] قال السمين الحلبي: قوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ} متعلِّقٌ بيكتُمون ولا يتعلَّقُ بأَنْزَلْنا لفسادِ المعنى، لأنَّ الإِنزالَ لم يكُنْ بعد التبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التبيين قال الآلوسي في قوله سبحانه: {مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ} أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف (من بعد) متعلق بيكتمون وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح للناس وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام. قال سيد قطب ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد [ص] من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب.قال ابن عاشور: وقوله: {من بعد} متعلق بـ (يكتمون) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة.قال الطباطبائي: قوله تعالى: {من بعد ما بيناه للناس}، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس قال سيد طنطاوي: وقوله: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكتاب} متعلق بيكتمون، وقد دلت هذه الجملة الكريمة على أن معصيتهم بالكتمان في أحط الدركات وأقبحها؛ لأنهم عمدوا إلى ما أنزل الله من هدى، وجعله بينا للناس في كتاب يقرأ، فكتموه قصداً مع تحقق المقتضى لإِظهاره، وإنما يفعل ذلك من بلغ الغاية في سفاهة الرأي، وخبث الطوية.
[16] لما أمر سبحانه عباده بالطاعة، عقبه بالوعيد على تركها أصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به،والمعنى فإن أخطأتم الحق، فضللتم عنه، وتنحيتم عن الدخول في السلم وخالفتم ولاستسلام والانقياد له سبحانه و تنحيتم عن القصد، الذي أمركم الله تعالى بسلوكه، فتوعد تعالى على كل ذلك زجرا لهم عن الزوال عن المنهاج، من بعد أن ظهرت لكم الأدلة المفرقة بين الصواب والخطأ، والتي تدعوكم إلى اتباع طريق الحق بالأدلة التي قطعت عذركم فاعلموا أن الله تعالى غالب لا يعجزه الانتقام منكم لا يفوته هارب، ولا يَغلبه غالب، أنزل الله تعالى هذه الاية، وقد علم أنه سيزل الزالون من الناس، فتقدم في ذلك، وأوعد فيه، لكي تكون الحجة على خلقه.
[17]قال البقاعي: ولما كان الفطن من الناس يستجلب النعم قبل إتيانها إليه و الجامد الغبي يغتبط بها بعد سبوغها عليه وكان المحذور تبديلها في وقت ما لا في كل وقت قال تعالى: {من بعد 75 ما جآءته} أي وتمكن من الرسوخ في علمها تنبيهاً على أن من بدلها في تلك الحال فقد سفل عن أدنى الإنسان والتحق بما لا يعقل من الحيوان.
[18] الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ}. قلت: معناه من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله: {ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} [البقرة: 75]؟ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها، فكأنها غائبة عنه.
[19] قال البقاعي ولما كان الخلاف ربما كان عن أمر غامض بين أن الأمر على غير ذلك فقال مشيراً بإثبات الجار إلى أنه لم يستغرق الزمان {من بعد ما جاءتهم البينات} أي الدلائل العقلية والنقلية التي ثبتت بها النبوة التي ثبت بها الكتاب. قال الحرالي: الجامعة لآيات ما في المحسوس وآيات ما في المسموع، فلذلك كانت البينات مكملة لاجتماع شاهديها – انتهى.
[20] ونص البقاعي أيضا على دلالتها على القرب في سورة الشورى حيث قال بعد بيان دلالتها على التبعيض:”: {إلا} وأدخل الجار لعدم استغراق الزمان فقال: {من بعد ما جاءهم} أي على ألسنة أنبيائهم الذين لم يدعوا لبساً {العلم} أي بما لا يسوغ معه التفرق ومنه أن الفرقة ضلالة، وأشار الجار أيضاً إلى أن التفرق كان مع العلم لم يكن طال الزمان فتطرق إلى علمهم نسيان”.
[21] قال أبو زهرة – والأمر التالي الذي هو موضوع الاستنكار والعجب أنهم يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يعرضون من بعد بيانه لهم. فهم متناقضون في جملة أحوالهم يطلبون الحكم ممن لا يؤمنون بدعوته، مع أن الحكم صريح فيما يؤمنون ثم يعرضون عن الحكم الذي يتلاءم مع ما عندهم.
[22] قال البقاعي: ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد، قال تعالى: {من بعد قوة}
[23] البقاعي ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال: {من بعد ما رأوا
[24] قال السمين الحلبي: و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان، أحدُهما: أنه بدلٌ من قولِه: ” مِنْ بعدِهم ” بإعادةِ العاملِ. والثاني: أنه متعلقٌ باقتتل، إذ في البينات – وهي الدلالاتُ الواضحةُ – ما يُغْنِي عن التقاتلِ والاختلافِ. والضميرُ في ” جاءتهم ” يعودُ على الذين مِنْ بعدِهم، وهم أممُ الأنبياء.
[25] قال ابن عطية: بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع، وهذا كما تقول: اشتريت خيلاً، ثم بعتها، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته، ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً، وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان. ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك. الفعال لما يريد، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض.قال سيد قطب: ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة – من بعد ما جاءتهم البينات – وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف. كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر. وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان، ودفع الشر بالخير.. وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل.اطفيش – التيسير {مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} بعد الرسل، أى ما اقتتلت كل أمة بعد موت رسولها.
[26] خالف في هذا الإمام الرازي فقال: الفخر الرازي: قوله: {من بعد موسى} كما يحتمل الاتصال يحتمل الحصول من بعد زمان.
[27] قال ابن عطية، وقوله {من بعد موسى} معناه من بعد موته وانقضاء مدته، أبو زهرة: و قوله تعالى: [من بعد موسى] بيان لزمان تلك الهزيمة، فذكر أنه من بعد موسى، ولم يبين الزمان بالتعيين، وذكر كونه من بعد موسى للإشارة إلى أن تلك الهزيمة كانت بعد أن أخرجهم موسى من ذل فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وبعد أن ظهر منهم الاستخذاء والضعف، بعد أن خرجوا من ربق الذل، حتى إن موسى عليه السلام لما دعاهم لأن يدخلوا الأرض المقدسة ظهر خورهم وضعفهم فتاهوا في الأرض أربعين سنة استردوا فيها بأسهم وذهب عنهم خور العزيمة، ثم بعد ذلك نزل بهم ما نزل، فقوله تعالى: [من بعد موسى] إشارة إلى تلك التجارب الشديدة التي كانت تنزل بهم، فهم ذلوا في مصر، ثم أعزهم الله بموسى فلم يقووا على حياة العزة وتكليفاتها من جهاد ونضال إلا بعد أن تعودوا حياة الشدة والبأس في الصحراء، ثم بعد هذه العزة دخلوا الأرض المقدسة، ثم أخرجوا منها بعد أن استناموا إلى الدعة والراحةابن عطية، وقوله {من بعد موسى} معناه من بعد موته وانقضاء مدته
قال البقاعي: ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال: {من بني إسرائيل} ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال {من بعد موسى} أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتاباً عجباً ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله.
قال الحرالي: وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا: ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا – انتهى
[28] وهذا أحسن مما قرره أبو حيان ورد عليه اطفيش أبو حيان: {من بعده}، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة، ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصوّر التعدية في الذات، فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكاب المجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزول التعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغاية يكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. اطفيش – الهميان {مِنْ بَعْدِهِ}: أي من بعد موسى، وهو على حذف مضاف، أي بعد مضيه إلى الطور، ويجوز عود الضمير إلى مضيه ولو لم يتقدم له ذكر، لأن ذكر المواعدة تقتضيه ولا يصح تقدير المضاف مواعدة، أى من بعد مواعدته، ولا عود الضمير للوعد لأنه لا يزول بذلك تعارض بين مدلول ثم من التراخي عند المواعدة، ومدلول الابتداء به وهو وقوع البعدية عقب المواعدة، إذ المهملة واقعة بين المواعدة والاتخاذ، وبيان الغاية واقع عقب المضى إلى الطور فلم يتواردا على محل واحد.
[29] البقاعي ونبه بالجار على أن الاتخاذ في بعض زمن البعد فقال: من بعده أي بعد مفارقة موسى لكم إلى الطور كما في الآية الأخرى
[30] قال السعدي لما ذكر تعالى هؤلاء الأنبياء المخلصون المتبعون لمراضي ربهم، المنيبون إليه، ذكر من أتى بعدهم، وبدلوا ما أمروا به، وأنه خلف من بعدهم خلف.
[31] قال ابن عاشور -وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خَالِف، والخَلْف مأخوذ من الخَلَفْ ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم، وَلاَ حَد لآخر الخلف، بل يكون تحديده بالقرائن، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن، بل قد يكون الخلف ممتداً، قال تعالى بعد ذكر الأنبياء {فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات} [مريم: 59] فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم، فإنه ذكر من أسلافهم إدريسَ وهو جد نوح.
[32] قال البقاعي: ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم خلف} أي قوم هم أسوأ حالاً منهم {ورثوا الكتاب} أي الذي هو نعمة، وهو التوراة،ومثلها
قال ابن عطيةوإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً. قال ابن عاشور فكلمة {بعد} اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره. وقد ألم به إجمالاً اقتصاراً على شكر النعمة وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان.قال الطباطبائي و المراد: وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني وبينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش وأرفع عزة وملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية والحضارة.
[33] ويبدو أن في طبعات البقاعي تحريفا فقال البقاعي: ولما كان إتيانه بعده بمدة طويلة أدخل الجار فقال: {من بعدي}” فلا يمكن أن تدل من على طول المدة ولا سيما أن البقاعي يحملها في أغلب المواضع على التبعيض فلعل العبارة ولما كان إتيانه بعده بمدة غير طويلة أدخل الجار، والله أعلم بحقيقة الحال.
[34] قال البقاعي: ولما كان هذا ليس مستغرقاً لجميع الزمان الآتي، بل لا بد أن يبسط أيدي المؤمنين بها يوم الفتح، أدخل الجار فقال تعالى: {من بعد أن أظفركم}.
[35] قال سيد طنطاوي: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أى: اذكروا بتأمل واعتبار فضل الله عليكم ونعمه حيث جعلكم مستخلفين في الأرض من بعد قوم نوح الذين أغرقوا بالطوفان لكفرهم وجحودهم.قال أبو حيان: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح} أي سكان الأرض بعدهم قاله السدّي وابن إسحاق، أو جعلكم ملوكاً في الأرض استخلفكم فيها قاله الزمخشري، وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله {من بعد قوم نوح}..قال الطبري: فإنكم إنما جعلكم ربكم خلفاء في الأرض منهم، لما أهلكهم أبدلكم منهم فيها قال ابن عاشور: وليس المراد أنّهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأنّ منازل عاد غيرُ منازل قوم نوح عند المُؤرّخين.
[36] في النسخة المطبوعة تحريف فقد جاء فيها: ” ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم، أتى بالجار فقال: {من بعد قوم نوح” انتهى يقول علي هاني ويدل على ذلك قول البقاعي في مواضع أخرى “.ولما كانت هذه الأمم لعظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كله، لم يأت بالجار فقال: {قبلهم قوم نوح}”وقول البقاعي في موضع آخر:” وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال: هذه عادة الدهر، فقال: {من بعدهم} أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم.” انتهى وأيضا لا يمكن أن تدل من على التراخي فلا بد أن يكون في المطبوع تحريف.

[37] البقاعي وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال: {من بعدهم} بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟
[38] قال الطبري: يقول تعالى ذكره: ثُمّ جَعَلْناكُمْ أيها الناس خَلائِفَ من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا تخلفونهم فِي الأرْضِ وتكونون فيها بعدهم. اطفيش – التيسير: والمراد الإِيجاد لهم في الأَرض، وإِسكانهم فيها بعد إِذهاب من قبلهم سواءٌ من اتفقت أَرضهم ومن لم تتفق قال الخازن: والمعنى ثم جعلناكم أيها الناس خلفاء في الأرض من بعد القرون الماضية الذين أهلكناهم.
[39] قال البقاعي: ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال: {من بعدهم}.
[40] البقاعي: ولما كان المكتوب المشار إليه لم يستغرق ما بعد الذكر المراد من هذا الزبور أشارإلى التبعيض بإثبات الجار فقال: {من بعد الذكر}
[41] وحملها البقاعي على التبعيض: البقاعي: ولما كان هذا القول غير مستغرق لزمان البعد، أثبت الجار فقال تعالى: {من بعده.
[42] قال الطبري: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم.قال الطوسي: المعنى: إن قيل إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال: ” من بعد ذلك “؟ قيل فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لان توبتهم من غيره لا تنفع في التخلص منه قال الزمخشري {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} الكفر العظيم والارتداد، قال رشيد رضا: {إلا الذين تابوا} من ذنبهم وتابوا إلى ربهم: {من بعد ذلك} الظلم الذي دنسوا به أنفسهم فتركوه مستقبحين له نادمين على ما أصابوا منه
[43] قال البقاعي: ولما كان التائبلم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة 4 مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك}.
[44] ذكر البقاعي القرب لكنه علق {من بعد} بـ(تاب) والاصح تعليقه بـ(اتبعوه).
[45] قال الطباطبائي: و قوله: {في الله} متعلق بـ{هاجروا}، والمراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلا طلب العلم ولا بغية له إلا طلب المعيشة، والسياق يعطي أن قوله: {من بعد ما ظلموا} أيضا مقيد بذلك معنى، والتقدير: والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، وإنما حذف اختصارا وإنما اكتفى به قيدا للمهاجرة لأنها محل الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.
[46] البقاعي وأدخل الجار لأن أعمارهم لا تستغرق الزمان
[47] وهذا أصح مما قاله البقاعي حيث: {من بعدهم} أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم.
[48] قال البيضاوي -. {ما من شفيع إلا من بعد إذنه} تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له قال الزمخشري -وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} دليل على العزة والكبرياء.
[49] قال البقاعي: لا تغني} أي لا تجزي وتسد وتكفي، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة، عبر بما يحتمل ذلك فقال: {شفاعتهم} أي عن أحد من الناس {شيئاً} فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله: {إلا} ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقاً فقال: {من بعد أن يأذن.
[50] قال البقاعي:ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال: {من بعده}.
[51] حمل البقاعي من على التبعيض في معظم القرآن وليس بصحيح.