المبحث الأول من الفرق بين «فوق» و«من فوق» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

رتب هذا البحث على سبعة مباحث:

المبحث الأول: الفرق بين: (من فوق) و(فوق).
المبحث الثاني: الفرق بين(من تحت)، (تحت).
المبحث الثالث: أمامه بحذف (من).
المبحث الرابع: الفرق بين (آناء) و(من آناء).

المبحث الخامس: من أول.
المبحث السادس: من يوم.
المبحث السابع: الفرق بين {وراء} و{من وراء}.

*****************

المبحث الأول: الفرق بين: (من فوق) و(فوق)
(من فوق) تدل على ثلاثة معان متلازمة:
1. المعنى الأول: الابتداء وبيان مبدأ جهة الشيء أي الشيء مبتدئ من كذا، لذلك يغلب أن تسبق بفعل تكون هي ابتداء له أو ما يقوم مقام الفعل نحو {لهم} أي كائن، مستقر، استقر[1].
2. المعنى الثاني: على القرب الشديد بلا فاصل وأنه يعمهم ويحيط بهم من جميع جهاتهم إحاطة قريبة جدا بلا فاصل، وهو مأخوذ من الابتداء منهم بلا فاصل لأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية.
3. المعنى الثالث: وفيها التأكيد.
وأما (فوق) بدون (مِنْ) فهي تستعمل بمعنيين متصاحبين:
1) المعنى لأول: التركز فيه على الفوقية التامة البعيدة، ولهذا أفراد ومصاديق:
علو كبير مع عموم وإحاطة كالقبة كالسماء مثلا، والدرجات العالية جدا، ورفعة الشأن رفعة عالية المدى جدا، وقد تستعمل في مجرد كون شيء فوق شيء مطلقا ولو بدون علو.
2) المعنى الثاني: تستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر، وإنما شيء فوق شيء.
تطبيق هذا على الآيات القرآنية:
أولا: فوق مع (منْ): (من فوق):
وردت في عدة مواضع هي: (5/66) (6 / 65) (7/ 41) (14/ 26) (16/ 26)
(16/ 50) (16/ 88) (29/55) (33/10) (39/16) (39/20) (41/10) (42/ 5).
الآية الأولى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (5/66)
الجملة الكريمة استعارة عن سبوغ النعم عليهم، وتوسعة الرزق عليهم، {لأكلوا}: لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع ويرزقهم الجنان اليانعة الثمار من كل جانب وإدخال (من) لبيان جهة المأكول أنه من جهة الفوق والتحت، وأنه يعمهم من جميع جهاتهم بحيث جعلوا مغمورين فيه مع القرب وفيها التأكيد، والأكل من جميع الجهات كناية عن سبوغ النعمة وكثرتها وأنها عمتهم[2].
الآية الثانية: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (6 / 65).
إدخال (من) يعطي عدة فوائد:
1. بيان جهة ومبدأ العذاب فهو عذاب كائن من هاتين الجهيتن.
2. أنه يحيط بهم من الفوق ومن التحت إحاطة قريبة جدا، ففيها بيان قربه الشديد منهم.
3. فيها التأكيد فيبعث العذاب من الجهة التي لا يستطيعون دفعها من فوقهم أو من محل استقرارهم، ولم يقل من تحتكم بل قال {من تحت أرجلكم}فهي تصور العذاب الغامر من فوق، أو النابع من تحت لا مقاومة له ولا ثبات معه، وهذا أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال.
ولا يمكن أن يقال يبعث عليكم عذابا فوقكم؛ لأنه ليس المراد تعميم جهات الفوق وأنه عال وليس المراد أن شيئا فوق شيء، بل المراد ما تقدم[3].

*************

الآية الثالثة: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(7/ 41).
تدل على قوة إحاطة النار بهم من تحت ومن فوق، وأنها قريبة منهم بلا فاصل، مطبقة عليهم، وبيان الجهة التي يعذبون منها فهم محاطون بالعذاب من تحتهم ومن فوقهم، والغواشي جمع غاشية، وهى ما يغشى الشيء أي يغطيه ويستره.
قال أبو حيان: هذه استعارة لما يحيط بهم من النار من كل جانب كما قال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}.
قال الثعالبي:وهي لهم {غَوَاشٍ} جمع غاشية، وهي ما يَغْشَى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فَوْق.
قال السامرائي: ولم يقل {فوقهم} أي أن الظلل تكون ابتداء من فوقهم ومن تحت أرجلهم بلا فاصل بينها وبينهم بخلاف ما لو قال فوقهم وتحتهم؛لأن ذلك يحتمل المسافة القريبة والبعيدة والله أعلم بمراده[4].

*************

الآية الرابعة:
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
(14/ 26)
لما أريد بيان جهة الاجتثاث أنها كائنة من فوق الأرض، مع بيان أن عروقها قريبة من الأرض ليس بثابتة ولا متأصلة كالشجرة الطيبة مع التأكيد في القلع ذكر(من) [5].
قال البيضاوي: {من فوق الأرض} لأن عروقها قريبة منه
قال أبو حيان: واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله: أصلها ثابت أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجه الأرض.
قال اطفيش في الهميان: {مِنْ فوق الأَرْضِ} فإِن عروقها وإِن كانت تحت الأَرض لكنها قريبة من فوقها، وأيضاً قطعها من أصل ذهاب لها من فوق كما هو إِذهاب لها من تحتها.

*************

الآية الخامسة: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ[6] فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}(16/ 26)
{من فوقهم}: 1) تبين الجهة وأن الخرور من جهة الفوق، 2) وأن السقف سقط محيطا بهم كأنه ملاصق لهم فهي تفيد القرب وأنه أطبق عليهم 3) مع التأكيد.
وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، يطبق عليهم من فوقهم، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم، وفي ذكر {من فوق} بيان، كانوا تحته فوقع عليهم فهلكوا:
قال ابن عطية: ومعنى قوله {من فوقهم} رفع الاحتمال في قوله {فخر عليهم السقف} فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول: انفسد عليه متاعه، وقوله {من فوقهم} ألزم أنهم كانوا تحته.

*************

الآية السادسة: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (16/ 50).
(من): تدل على شدة خوفهم من الله واستشعارهم لعظمته ورقابته وجلالته فوقهم، وأنها قريبة وهذا السر في ذكر من بخلاف {وهو القاهر فوق عباده} هناك لبيان عظمة القهر وتعاليه علوا كبيرا عظيما فحذفت(من).
قال البقاعي: خوفاً مبتدئاً {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون.
قال الطباطبائي: فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وإن لم يكن عنده إلا الخير، والخوف إنما يكون من شر مترقب إلا أن حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوي الظاهر بقوته، وانكسار الصغير الوضيع أمام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط، ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله: {يخافون ربهم} بقوله {من فوقهم} فإن فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في مخافتهم، وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفي الاستكبار عن ذواتهم.

*************

الآية السابعة: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) (16/ 88)}
(من) في (من فوق): لبيان جهة الصب وأنها من فوق رؤسهم؛ للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء، ولتفيد إطباق العذاب مع قرب الصب لأن (من) لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية فتفيد أن ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة،لأن الحميم إذا صب عن قرب أشد من أن يصب عن بعد؛ لأن الصب عن بعد ينقص من حرارته بخلاف ما إذا صب عن قرب نزل كما هو.
لأنه أشد.
قال السامرائ: أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم
قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة زيادة (مِنْ) في قوله تعالى: (مِنْ فَوْقِ)، وهلا استغنى عنها؟
الجواب أنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية، قال: وذلك أن الحميم إذا صب فوقهم عن بعد، فإنه يدركه الهوي فينقص من حرارته، فإذا صب فوق رءوسهم بالقرب نزل كما هو، وهذا مشاهد عندنا في المس إذا طبخناه أو صب في الإناء يرده بالمغرفة ترفع بها إلى فوق وتصبه فيبرد بالهواء ومهما علونا بالمغرفة إلى فوق، كان أشد في تبريده فأفادت زيادة (من) أنه يصب فوق رءوسهم من أقرب أمكنة الفوقية إليهم حتى لَا ينتقص من حرارته شيء..
قال الآلوسي في سورة البقرة في {أو كصيب من السماء}: وعندي أن ذكر(من السماء) يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية.

*************

الآية الثامنة: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (29/55)
العذاب يغشاهم قال مبتدأ من جهة الفوق، وملتصقا بهم مستعليا عليهم من مكان قريب، ويحيط من جميع جهات الفوق ففيها بيان لإحاطة العذاب.
قال الآلوسي: {يَوْمٍ يَغْشَاهُمُ العذاب} ظرف لمضمر قد طوى ذكره إيذاناً بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل: يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال، وقيل: ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال[7].
الآية التاسعة: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (33/10).
في ذكر (من) بيان الجهة، مع الابتداء القريب، وأنهم حصروهم؛ لأن المراد أنهم حصروا المدينة من أعلاها وأسفلها وهذا يناسبه ذكر (من) أي جاءوكم من جهة الفوق ومن جهة التحت مع القرب مع التأكيد حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها.
{مّن فَوْقِكُمْ}: من أعلى الوادي من فوقه قِبَل المشرق وهم بنو غطفان ومن تبعهم من أهل نجد وبنو قريظة وبنو النضير.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ}: من أسفل الوادي من قِبَل المغرب من جانب الغرب، وهم قريش ومن تابعهم من الأَحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة.
تحزبوا حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها، وأضاف الفوق إلى ضميرهم لبيان قوة العدو وإحاطته فنسبة الفوتية اليهم للملابسة، وانما الفوتية لبعض الوادي على بعض.

*************

الآية العاشرة: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (39/16).
ذكر (من): لبيان أن الظلل من جهة الفوق ومن تحت الأرجل، وقربها وإحاطتها بهم، بحيث تحتوي عليهم من جميع الجوانب، وفيها تأكيد.
قال البقاعي: وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال: {من فوقهم ظلل} ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله: {من النار} وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر.ولما كان في القرار – كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله: {ومن تحتهم}.
سيد قطب: وهو مشهد رعيب حقاً.مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم وظلل من تحتهم، وهم في طيات هذه الظلل المعتمة تلفهم وتحتوي عليهم.وهي من النار!.

*************

الآية الحادية عشرة: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (39/20).
بيان أن الغرف طوابق متتابعة بعضها من فوق بعض يعتلي طابق على طابق، مع التأكيد في مقابلة ما قال للكافرين لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل مع التأكيد.
قال ابن عاشور: ومعنى {من فَوْقِهَا غُرَفٌ} أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضاً لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء.فالمعنى: لهم أطباق من الغُرف، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} [الزمر: 16].

*************

الآية الثانية عشرة: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (41/10).
أفادت (من) أن الرواسي من جهة الفوق كائنةً من فوقها مرتفعةً على الأرض قريبة بحيث تنتفعون بها وليست مغمورة جميعها في أعماق الأرض فمع أن أكثر أجزائها في أعماق الأض لكنه سبحانه من رحمته جعل جزاء كبيرا منها فوق الأرض، ولم يجعلها بعيدة عن الأرض بحيث لا تنتفعون بها بل هي من فوق الأرض؛ لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة لمحصليها، بالمتنال قريبة، وليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار وتكون منافعها معرضة للطلاب وفيها تأكيد.
قال الطبري: وهي الثوابت في الأرض من فوقها، يعني: من فوق الأرض على ظهرها.قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: {مِنْ فَوْقِهَا} وهلا اقتصر على قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات} [المرسلات: 27]، {وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ} [الأنبياء: 31]، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} [النمل: 61]؟ قلت: لو كانت تحتها كالأساطين لها تستقر عليها، أو مركوزة فيها كالمسامير: لمنعت من الميدان أيضاً، وإنما اختار إرساءها فوق الأرض[8] ، لتكون المنافع في الجبال معرضة لطالبيها، حاضرة محصليها، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، كلها مفتقرة إلى ممسك لا بد لها منه، وهو ممسكها عزّ وعلا بقدرته
قال السامرائي: فمن تدل على الابتداء قال تعالى {وجعل فيها رواسي من فوقها} ولم يقل فوقها لأن كلمة فوق تحتمل المسافة القريبة والبعيدة قال تعالى {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم} وقال {ورفعنا فوقكم الطور} {وقال {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن}.

*************

الآية الثالثة عشرة: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (42/ 5).
مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بـ(يتفطرن) أي مبتدئاً تفطرهن من فوقهن؛ لأن المراد يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانية، وتخصيصها لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه تعالى من تلك الجهة من عظيم العظمة والجلال والكبرياء والعزة، أي: يتفطرن من فوقهن من عظمة الله وجلاله وعلو شأن الله وعظمته، يدل عليه مجيئه بعد العلي العظيم، وفي (من) أيضا تأكيد.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال: {مِن فَوْقِهِنَّ}؟ قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السموات، وهي: العرش، والكرسي، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية.ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ} [الحج: 19-20] فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة.
قال البيضاوي – {من فوقهن} أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة، وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى.
فوق بدون (منْ):
وأما (فوق) بدون (مِنْ) فهي تستعمل بمعنيين متصاحبين:
أ‌- المعنى لأول: التركز فيه على الفوقية التامة البعيدة، ولهذا أفراد ومصاديق:
علو كبير مع عموم وإحاطة كالقبة، كالسماء مثلا، والدرجات العالية جدا، ورفعة الشأن رفعة عالية المدى جدا.
ب- المعنى الثاني: أن شيئا فوق شيء، فتستعمل حيث لا يكون النظر إلى أن شيئا ناشئ أو مبتدئ من شيء آخر، وإنما شيء فوق شيء.
وردت في عدة مواضع وهي: (2/26). (2/ 63) (2/ 93) (4/154) (7/171) 2/ 212) (3/55) (4/ 11) (6/18) (6/61) (6/ 165) (127) (7/ 127) (12/36) (12/76) (16/ 88) (23/ 17) (43/ 32) (48/10) (50/ 6) (67/ 19) (19/17) (78/ 12) (8/12) (49/ 2).
آية اجتمع فيها فوق ومن فوق: (24/40)
مقارنة بين آيتين في إحداهما (من) وفي الأخرى حذفها:
(44/ 48) (22/19)

الآية الأولى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَايُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (2/26).
• استعمل فوق دون (من) لأن السياق ليس للابتداء أي ليس لبيان ابتداء شيء من مكان، ولكن للتعميم في كل الفوق، أي بعوضة فصاعدا أي فخذ جميع الأشياء التي فوقها في الحجم والكبر فالله سبحانه لا يستحيي أن يضرب بها المثل فهو ترق من الصغير للكبير في الحجم والجُثة، لأن البعوضة غاية في الصغرفيكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر، وما فوقها تنبيهاً على الكبر[9].

الآية الثانية:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2/ 63) (2/ 93).
لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار [10] فقال {ورفعنا فوقكم الطور} ترهيباً لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وليس المراد بيان جهة ابتداء الرفع بل المراد رفعنا الجبل عاليا عليهم محيطا بهم عاما لهم.
قال السمين الحلبي: قوله تعالى: {فَوْقَكُمُ}: ظرفُ مكانٍ ناصبُه ” رَفعْنا ” وحكمُ ” فوق ” مثلُ حكم تحت، وقد تقدَّم الكلامُ عليه.قال أبو البقاء: ” ويَضْعُف أن يكونَ حالاً من ” الطور “، لأن التقدير يصير: رَفَعْنا الطورَ عالياً، وقد استُفيد [هذا] من ” رَفَعْنا ” وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ المرادَ به علوٌّ خاص وهو كونُه عالياً عليهم لا مطلقُ العلوِّ حتى يصيرَ رفعناه عالياً كما قدَّره.قال: ” ولأنَّ الجَبَلَ لم يكُنْ فوقَهم وقتَ الرفع، وإنما صارَ فوقَهم بالرفْعِ.ولقائلٍ أن يقولَ: لِمَ لا يكونُ حالاً مقدرة، وقد قالَ هو في قولِه ” بقوة ” إنها حالٌ مقَدَّرةٌ كما سيأتي.

*************

الآية الثالثة:
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (4/154).
يقال فيه ما قيل في الآيتين السابقتين: لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار فقال {ورفعنا فوقكم الطور}.

*************

الآية الرابعة:
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7/171).
يقال فيه ما قيل في الآيات السابقة:
لما كان الجبل قد صار فوقهم عاليا كأنه ظلة قد ملأ جهة الفوق عاماً لهم وارى جميع أبدانهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان ولم يسلم نزع الجار فقال {ورفعنا فوقكم الطور}
قال البقاعي: ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال: {فوقهم} ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله: {كأنه ظلة} أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله.ابن عطية – {فوقَهم} أعطت الرفع بزيادة قرينة هي أن الجبل اقتلعته الملائكة وأمر الله إياه.

*************

الآية الخامسة: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة 2/ 212)
حذف (من)؛ لأنه ليس المراد الابتداء بل المراد أنهم فوقهم بمراحل بعيدة فوقية ظاهرة.
الآية السادسة:
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (3/55).
لم يثبت الجار لبيان الفوقية التامة القوية البعيدة المدى، والمراد الفوقية في العز والغلبة والظفر والنصرة والقهر والاستيلاء[11] ، وليس المراد ابتداء الاتباع من جهة الفوق.

*************

الآية السابعة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}(4/ 11).
حذف (من) لأنه ليس المراد الابتداء والجهة، وإنما المراد أنه أكثر من اثنتين ولو كثرن وزدن بالغات ما بلغن فلذا لم يدخل حرف الجر، قال البقاعي: ولما كان ذلك قد يحمل على أقل الجمع، وهو اثنتان حقيقة أو مجازاً حقق ونفى هذا الاحتمال بقوله: {فوق اثنتين}.

*************

الآية الثامنة: {وهو القاهر فوق عباده} (6/18) (6/61).
كل شئ قهر شيئا فهو مستعل عليه، صور سبحانه قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله: {فوق عباده} وكل ما سواه عبد؛ ولما كان العباد تحت تسخيره وتذليله وأمره ونهيه، وصف بأنه فوقهم، ويدل حذف (من)على قوة وقهره سبحانه الاستعلاء والغلبة ورفعة الشأن رفعة عالية جدا لا تضاهى سبحانه، قال الزمخشري: تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله: {وإنا فوقهم قاهرون} “، قال ابن عرفة:” الفوقية إما إشارة إلى قهره واستيلائه على العباد، أو بمعنى أنه فوق ما يظن من القهر والغلبة”.

*************

الآية التاسعة: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (6/ 165).
يدل حذفها على الدرجات العالية في التفاوت الكثيرة المتفاوتة التي يشعر بها أيضا الجمع والتنكير في {درجات}، والمراد ورفع بعضكم درجات في الشرف والعقل، والمال، والجاه، والرزق،والعلوم وفي مراقي العقل والقوة الحسية والمعنوية والمحاسن والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد، قال أبو السعود:” {فَوْقَ بَعْضٍ درجات} كثيرةٍ متفاوتة” أخذ هذا أبو السعود من التنكير والجمع أقول ويدل عليه أيضا حذف من.قال رشيد رضا: “ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الخلق والخلق والغنى والفقر، والقوة والضعف والعلم والجهل والعقل والجهل والعز والذل ليختبركم فيما أعطاكم أي يعاملكم معاملة المختبر لكم في ذلك فيبني الجزاء على العمل”.

*************

الآية العاشرة: {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}(127) (7/ 127).
يريد {قاهرون} في المنزلة والتمكن ونحن قاهرون غالبون لهم وهم مقهورون تحت أيدينا كما كنا لم يتغير حالُنا أصلاً، و{قاهرون} يقتضي تحقير أمرهم أي قاهرون لهم قهراً قلّ من أن نهتم به ولا أثر غلبة موسى لنا في هذه المناظرة وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك.
واستعمال فوق بدون (من) لتدل على الفوقية الغالبة القاهرة العالية جدا، التي هي فوقهم بمراحل التي فيها السيطرة التامة[12].

*************

الآية الحادية عشرة:
{وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (12/36).
لم يستعمل (من) لأن المعهود في الحمل أن يقال حملته فوق ظهري أو فوق رأسي وليس من فوق لأنه ليس المراد جهة ابتداء الحمل بل بيان أن شيئا فوق شيء.
قال الشَّاعِرِ:
أَما تَرَانِي رَجُلًا كَمَا تَرَى… أَحْمِلُ فَوْقي بِزَّتِي كَمَا تَرَى
عَلَى قَلُوص صَعْبَةٍ كَمَا تَرَى… أَخافُ أَن تَطْرَحَني كَمَا تَرَى
ولعله يكون فيه إشارة إلى كثرته، وفي الروايات الإسرائيلية ما يشير إلى ذلك ففيها ” وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها “. وقد يقتصر على المعنى الأول فقط.

*************

الآية الثانية عشرة:
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (12/76).
أي نرفع درجاتٍ عاليةً من العلم من نشاء رفعَه، ولما أراد الدرجات الكبيرة الكثيرة العالية في التفاوت حذف (من)، مع أنه ليس المراد الجهة.
قال ابن عاشور: “وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس، والفوقية مجاز في شرف الحال، لأن الشرف يشبّه بالارتفاع، وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف {عليم} باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه، وظاهر تنكير {عليم} أن يراد به الجنس فيعم كلّ موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى.فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه، ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم “.
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة والتعظيم، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص والمعنى فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا، عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول أبو السعود: وقوله وفوق كل ذي علم عليمٌ تذييلٌ له.

*************

الآية الثالثة عشرة:
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}(16/ 88).
لم يذكر (من)؛ لأن المراد عظمة وكثرة المزيد، وأنه فوق عذاب كفرهم، وهو عذاب الصد عن سبيل الله تعالى، فليس المراد بيان أن المزيد من جهة كذا أو كذا بل المراد كثرة وعظمة المزيد، فناسب حذف(من).
والمعنى أنهم لما زادوا على كفرهم صدَّ غيرهم عن الإيمان، فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذابا على عذاب، وأيضا أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر، فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}، قال هميان الزاد: أي: عذابا فائقا في الشدة على العذاب الذي استحقوه بكفرهم أنفسهم[13].

*************

الآية الرابعة عشرة:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} (23/ 17).
حذف (من) لبيان شدة علو السماء وارتفاعها مع عمومها فوق البشر في جميع جهة الفوق؛ للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى، فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها، ولأن كونها فوق الناس مما يسهل انتفاعهم بها.
قال البقاعي:” ولما بين لهم أن فكرهم فيهم يكفيهم، ولاعتقاد البعث يعنيهم، أتبعه دليلاً آخر بالتذكير بخلق ما هو أكبر منهم، وبتدبيرهم بخلقه وخلق ما فيه من المنافع لاستبقائهم، فقال: {ولقد خلقنا قوقكم} في جميع جهة الفوق في ارتفاع لا تدركونه حق الإدراك”.
قال ابن عاشور: “وذِكر {فوقكم} للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها، ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت”.

*************

الآية الخامسة عشرة: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (43/ 32).
أفادت (فوق) مع التنكير والجمع في (درجات) أنها درجات كبيرة التفاوت كثيرة، فاوت بينهم وغاير بين منازلهم.
أبو السعود: “{درجات} متفاوتة بحسبِ القُربِ والبُعدِ حسبَما تقتضيِه الحكمةُ فمنْ ضعيفٍ وقويَ وفقيرٍ وغنيَ وخادمٍ ومخدومٍ وحاكمٍ ومحكوم”.
قال الزمخشري:” فلم يسوِّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدماً، ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدمون في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم؛ ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا.وإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟”.

*************

الآية السادسة عشرة:
(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (48/10).
ذكر الفوق بدون (من) لكمال التنزيه حتى يبقى التنزيه في غايته وعظمته فلا يظن أن الله سبحانه كعبيده، ومثلها قوله تعالى {وهو القاهر فوق عباده} بحذف (من)، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك[14].

*************

الآية السابعة عشرة:
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) (50/ 6).
لما كانت السماء في غاية الارتفاع قال فوقهم، ولأنها لعلوها وكبرها أحاطت بهم عبر بـ(فوق)، ف(فوق) تشعر بالإحاطة الكاملة مع العظمة والارتفاع بحيث يشاهدونها كل وقت.

*************

الآية الثامنة عشرة:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (67/ 19).
حذف (من) لأن ارتفاع الطير ليس من فوقهم مباشرة بل هناك مسافة عالية تحلق فيها الطير، وهذا أدل على قدرة الله تعالى في أنه سبحانه يمسكها ويرفعها لهذا الارتفاع الكبير في الجو على خلاف طبيعة الأجسام من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها، وتفيد أن النظر إليها سهل في متناول اليد فمجرد أن يرفعوا رءوسهم يرونها.
قال البقاعي: “ولما كان الجو كله مباحاً للطيران، نزع الجار فقال: {فوقهم} وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث، إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها {صافات ـ ـ لما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب، ترجمه بقوله: {ما يمسكهن} أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط، على خلاف ما يقتضيه الطبع.

*************

الآية التاسعة عشرة:
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (19/17).
لما كان العرش عظيما ضخما جدا عاما لجهة الفوق كلها مع إحاطته بالملائكة عبر بفوقهم بإسقاط الجار (من) [15].
والضمير في قوله: {فوقهم} للملائكة الذين هم على الأرجاء وقيل فوق الخلائق.
قال ابن عاشور: “(فوقهم): وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عالياً فهو بمنزلة القيدين في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38]”.

*************

الآية العشرون:
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) (78/ 12).
حذف (من) لبيان شدة علوها وارتفاعها مع عمومها كالقبة وإحاطتها فوق البشر في جميع جهة الفوق، للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق، فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها لأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها.
قال البقاعي:” {فوقكم} أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة {سبعاً} أي من السماوات”،قال ابن عاشور:” واستعير فعل {بنيْنا} في هذه الآية لمعنى: خلقنا ما هو عَالٍ فوق الناس ـ ـ ـ مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السَبع الشداد”.
وبقيت آيتان فيهما المعنيان السابقان لكنهما يحتاجان لمزيد بيان:
الآية الأولى:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَا) (8/12).
ليس المراد من جهة الفوق بل المراد ضرب نفس الفوق وهو أعالي الأعناق التي هي المذابح وهي محل تركيب الرقبة في أعلاها ففيها بيان مكان الضرب وهو الأعالي التي هي المذابح والمفاصل وليس المراد الابتداء ونحوه.
قال الزمخشري – {فَوْقَ الاعناق} أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييرا للرؤوس.وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعني ضرب الهام.قال:
وَأضْرِبُ هَامَة الْبَطَلِ الْمُشِيحِ ***
غَشَّيْتُهُ وَهْوَ فِي جَأْوَاءَ بَاسِلَة *** عَضْباً أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا
قال البقاعي:” ولما كان ضرب العنق والراس أوحى مهلك للإنسان، وكان العنق يستر في الحرب غالباً، عبر بقوله: {فوق الأعناق} أي الرؤوس أو أعالي الأعناق منهم لأنها مفاصل ومذابح “.قال السمين الحلبي ـ ـ ” أحدها: أن ” فوق ” باقيةٌ على ظرفيتها، والمفعولُ محذوفٌ أي: فاضربوهم فوق الأعناق، عَلَّمَهم كيف يضربونهم.والثاني: أن ” فوق ” مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل: فاضربوا رؤوسَهم.وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف.وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول: فوقُك رأسُك برفع ” فوقك “، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: ” فوق الأعناق: أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل ” يقول علي هاني: ما ذكره الزمخشري هو الحق لمن تأمل أقوال المفسرين وسياق الآية، وقد رجحه أيضا الضحاك والسمعاني والقرطبي وابن جزي وأبو عبيدة ابن عاشور والشنقيطي.
الآية الثانية: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (49/ 2).
ليس المراد بيان الجهة والابتداء هنا، إنما المراد أن الصوت يكون مرتفعا ومستعليا فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يغمر صوته عليه الصلاة والسلام فلذلك حذف (من).
قال الزمخشري: أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوت، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم “. وقال ابن عاشور:”والرفع مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لِمعتاد الكلام، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغاً إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار، على طريقة الاستعارة المكنية، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية.و {فوق صوت النبي} ترشيح لاستعارة {لا ترفعوا} وهو فوْق مجازي أيضاً.وموقع قوله: {فوق صوت النبي} موقع الحال من {أصواتكم}، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد.ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه.والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضُكم بعضاً كما وقع في سُورة سبب النزول “.
يقول علي هاني: فالنهي عام في رفع الصوت فوق صوته عليه السلام على الإطلاق، وسبب النزول أنه كانت عادة الأَعراب الجَفَاء وعُلُوّ الصَّوْتِ، وأنه تمارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم رجلان فارتفعت أصواتهما، ففي فوق التركز على الفوقية في رفع الصوت التي فيها سوء أدب وهي ما يفعلها الأعراب ونحوهم، وليس فيها أن شيئا ناشيء أو مبتدئ من شيء آخر.
آية اجتمع فيها فوق ومن فوق:
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}(24/40).
هذه الآية مثال رائع للمراد بدخول (من) على فوق(من فوق)، وعلى حذفها منها، فلما أراد الجهة وابتداء الغاية والقرب وأن البحر يغشاه موج موصوف أنه من جهة فوقه مباشرة موج آخر ملتصق به متتابع تجيء موجة تتبعها أخرى، فهي أمواج مترادفة متكاثفة موجة من فوقها أخرى وأنه قريب مع التأكيد قال من فوقه.
ولما أراد أن الظلمات طبقات من الظلمات الكثيرة المتكاثفة، وأراد استغراق الفوقية لم يثبت الجار، فهي ظلمة الموج المترادف ظلمة اللجة، وظلمة الموج المتراكب، وظلمة السحاب قال ظلمات بعضها فوق بعض، والمعنى: إن الكافر يعمل في حيرة، ولا يهتدي لرشده، فهو من جهله وحيرته، كمن هو في هذه الظلمات، لأنه من عمله وكلامه واعتقاده، متقلب في ظلمات.
قال البقاعي: {موج} آخر {من فوقه} أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول {سحاب} قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: {ظلمات} أي من البحر والموجين والسحاب {بعضها}.ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: {فوق بعض} متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر.
قال أبو حيان: بمعنى أن تجيء موجة تتبعها أخرى فهو متلاطم لا يسكن، وأخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، وفوق هذا الموج {سحاب} وهو أعظم للخوف لإخفائه النجوم التي يهتدى بها، وللريح والمطر الناشئين مع السحاب.، أبو السعود: وقولُه تعالى: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} جملةٌ مِن مبتدأ وخبرٍ محلُّها الرَّفعُ على أنَّها صفةٌ لموجٌ أو الصِّفةُ هي الجارُّ والمجرورُ وموجٌ الثَّانِي فاعلٌ له لاعتمادِه على الموصوفِ والكلامُ فيهِ كما مرَّ في قولِه تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} أي يغشاهُ أمواجٌ متراكمةٌ متراكبةٌ بعضُها على بعضٍ، وقوله تعالى: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} صفةٌ لموجٌ الثَّاني على أحد الوجهينِ المذكُورينِ أي من فوق ذلك الموجِ سحابٌ ظلمانيٌّ ستَر أضواءَ النُّجومِ وفيه إيماءٌ إلى غايةِ تراكم الأمواجِ وتضاعفُها حتَّى كأنَّها بلغت السَّحابَ {ظلمات} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي ظلماتٌ {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدَّةِ الظُّلماتِ كما أنَّ قوله تعالى: {نُّورٌ على نُورٍ} بيانٌ لغاية قُوَّةِ النُّورِ خلا أنَّ ذلك متعلِّق بالمشبَّهِ وهذا بالمشبَّه به كما يُعرِبُ عنه ما بعده.وقرئ بالجرِّ على الإبدالِ من الأُولى، وقرئ بإضافةِ السَّحابِ إليها
مقارنة بين آيتين في إحداهما (من) وفي الأخرى حذفها:
في سورة الدخان (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) (44/ 48)، وفي سورة الحج (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)) (22/19) فحذف (من) في الدخان وأثبتها في الحج.
حذف (من) في سورة الدخان لأن الصب هنا يتعلق بالعذاب، فذكر العذاب معلقاً به الصب،، ليكون أهول وأهيب ولم يعلق الصب بنفس الحميم مباشرة، وإن كان العذاب ناتجا عنه، وكلما كان العذاب ينزل من أعلى يعطي قوة أكثر وإحاطة أكثر واستيعابا أكبر نحو {فصب عليهم ربك سوط عذاب}، فالمعنى{في صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} صب ما تولد عن الحميم من الآلام والعذاب، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم، ولفظة العذاب أهول وأهيب وفيه مبالغة وبجعل العذاب مصبوباً كالمحسوس، وفيه مبالغة أخرى في ذكر من (من عذاب الحميم) فـذكر من {مِنْ} تبين نوع المصبوب وأنه بعض هذا النوع وأن هناك ما هو أكثر منه في قدرتنا، فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية.
ال البقاعي: “فقال: {ثم صبوا} أي في جميع الجهة التي هي {فوق رأسه} ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه”.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: صبوا فوق رأسه من الحميم، كقوله تعالى: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم} [الحج: 19] لأنّ الحميم هو المصبوب لا عذابه؟ قلت: إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدّته، إلا أنّ صب العذاب طريقة الاستعارة، كقوله:صُبَّتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ الدَّهْرِ مِنْ صَبَبِ *** وكقوله تعالى: {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] فذكر العذاب معلقاً به الصب، مستعاراً له، ليكون أهول وأهيب
وأما سورة الحج: فقال سبحانه {يصب من فوق رءوسهم الحميم}؛ لأن الصب يتعلق بنفس الحميم يصب، وكلما كان أقرب كان أقوى حتى لا يبرد أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم
فـ(من) في (من فوق) ـ كما تقدم: لبيان جهة الصب وأنها من فوق رؤسهم؛ للإشارة إلى أن ما يؤذيهم وهو الحميم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء، ولتفيد إطباق العذاب مع قرب الصب لأن (من) لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية فتفيد أن ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة،لأن الحميم إذا صب عن قرب أشد من أن يصب عن بعد؛ لأن الصب عن بعد ينقص من حرارته بخلاف ما إذا صب عن قرب نزل كما هو “.
يقول علي هاني: فالجهة والتركيز في كل آية مخلتفة؛لأن آية الدخان تركز على صب العذاب نفسه فهذا اقتضى العلو والإحاطة والاستيعاب وكلما كان العذاب ينزل من أعلى يعطي قوة أكثر وإحاطة أكثر واستيعابا أكبر فحذف (من)، وأما آية الحج التركيز فيها على صب الحميم وصبه إن كان من قرب يكون أشد حتى لا تخف حرارته فذكر (من) فكان كل منهما في موضعه عين البلاغة أصاب المفصل بين شدة العذاب.
وقد رأينا عالمين يقارنان بين الآيتين أيهما أبلغ فقال السامرائي حفظه الله، آية الحج أبلغ من آية الدخان، وقال الجلال المحلي آية الدخان أبلغ وعبارته: “(ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) أي من الحميم الذي لا يفارقه العذاب فهو أبلغ مما في آية ” يصب من فوق رؤوسهم الحميم.

 

[1] بأن يكن الجار والمجرور خبرا متعلقا بمحذوف تقديره {كائن، أو كان)(مستقر، استقر).
[2] قال البقاعي {لأكلوا} أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر بـ ” من ” لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل {من فوقهم}، ولما كان ذلك، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى: {ومن تحت أرجلهم} أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً
قال أبو السعود: ومفعول (أكلوا) محذوف بقصد التعميم، أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قوله: فلان يعطي ويمنع، و(مِنْ) في الموضعين لابتداء الغايةاطفيش – الهميان: {لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرجُلِهِم}: من للابتداء، والكلام عبارة عن توسيع الرزق، كأنه قيل لأفيض عليهم الرزق من كل جهة، وجعلوا مغمورين فيه، فان هذا مما يعبر به عن توسيعه.
[3] قال أبو زهرة والنص الكريم يفيد عموم العقاب، لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لا خاصا، فإذا كانت صواعق أو إعصار شديد وصواعق أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا، والزلازل المدمرة والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما: أولهما: التعبير ب(يبعث عليكم) فان البعث معناه الإثارة وعبر بيبعث للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يثير عليهم ذلك العذاب وعبر ب (يبعث) بدل ينزل عليهم لأن البعث والإثارة تعنى أن النزول يكون من عل ولأن البعث والإثارة فيهما معنى الإيجاد لما ليس بموجود.
ثانيهما: التعبير عن ذلك بكلمة (عذابا) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم يستحقون وهو على أية حال أمر مقصود وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان: ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها، صر، وحاصب من السماء وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول وغير ذلك مما ينزل الله من عل، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها، وبراكين وزلازل وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع.
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى: (من تحت أرجلكم) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.أبو السعود: وقوله تعالى: {من فَوْقِكُمْ} متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةً لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قوم لوطٍ وأصحابِ الفيل وأضرابِهم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَالآلوسي {مّن فَوْقِكُمْ} أي من جهة العلو كالصيحة والحجارة والريح وإرسال السماء {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أي من جهة السفل كالرجفة والخسف والإغراق.
[4] قال اطفيش – الهميان: {لَهم مِنْ جَهنَّم مِهادٌ} فراش {ومِنْ فَوقِهم غَواشٍ} أغطية جمع غاشية وهى ما يتغطى به، والمراد أن جهنم محيطة، وفى التعبير بالمهاد والغواشى تهكم، فإن المهاد ما يفرش لنوم أو استراحة، والغاشية ما يتغطى به النائم أو المستريح سيد قطب: فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش، يدعوه – للسخرية – مهاداً، وما هو مهد ولا لين ولا مريح! – ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم! قال ابن عاشور: المِهاد -بكسر الميم- ما يُمْهَد أي يفرش، و« غواش » جمع غاشية وهي مَا يغشى الإنسانَ، أي يغطّيه كاللّحاف، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمِهاد، وما هو فوقهم منها بالغواشي، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار.فقد انتفت راحتهم، وهذا ذِكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حِرمانهم من الخير.قال سيد طنطاوي: والغواشى جمع غاشية، وهى ما يغشى الشىء أى يغطيه ويستره.أى: أن هؤلاء المكذبين لهم نار جهنم تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، فهى من تحتهم بمنزلة الفراش، ومن فوقهم بمثابة الغطاء، ومثل ذلك الجزاء نجزى كل ظالم ومشرك.
[5] قال الزمخشري وقوله تعالى: {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} في مقابلة قوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم: 24] ومعنى {اجتثت} استؤصلت، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها قال الطبرسي – (اجتثت من فوق الأرض) * أي: اقتطعت واستؤصلت، واقتلعت جثته من الأرض
[6] قال أبو حيان: ومن القواعد لابتداء الغاية أي: أتاهم أمر الله من جهة القواعد.ابن عاشور: و{من القواعد} متعلق ب « أتى ».{ومِن} ابتدائيّة، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال، فهو في معنى هدمه.و {القواعد}: الأسس والأساطين التي تجعل عَمداً للبناء يقام عليها السقف.وهو تخييل أو ترشيح، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد
[7] قال ابن عاشور: وقوله: {من فوقهم} بيان للغشيان لتصويره تفظيعاً لحاله كقوله: {ولا طائر يطير بجناحيه} [الأنعام: 38] وتأكيداً لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز، فهو في موضع الحال من {العذاب} وهي حال مؤكدة.، وقوله: {ومِن تحت أرجلهم} احتراس عما قد يُوهمه الغشيان من الفوقية خاصة، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها.
[8] يقول علي هاني: ووصف القرآن للجبال بأنها أوتاد يدل على أن جزء منها غائر في الأرض أيضا وهو الذي قرره القرآن تقريرا واضحا واكتشفه العلم الحديث أيضا.
[9] والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه لان البعوضة غاية في الصغرورجح هذا لأن إنكار من أنكر كان لضرب الله المثل لمهانتهما فقصد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة، والفاء عاطفة ترتيبية} الفاء عاطفة ترتيبية: فهو ترق وترتيب من الصغير للكبير أن يضرب مثلا بعوضة فضلاً عما هو أكبر منه، وكما تقول لصاحبك – وقد ذمّ من عرفته يشح بأدنى شيء فقال فلان بخل بالدرهم فما فوقه، تريد بما فوقه ما بخل فيه وهو الدرهم والدرهمان، كأنك قلت: فضلا عن الدرهم والدرهمين، ولفظ «فوق» يدل على العلو، فإذا قيل هذا فوق ذاك، فإنما معناه أنه أكبر، قال البقاعي: والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون – انتهى
[10] قاله البقاعي
[11] قال الطباطبائي: قوله تعالى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}، وعد منه تعالى له (عليه السلام) أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه الكافرين بنبوته، وأن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة وإنما ذكر تعالى في تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه وأن غيرهم هم الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى (عليه السلام) أو غير ذلك.
[12] قال رشيد رضا: {قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنّا فوقهم قاهرون} أي قال مجيبا للملأ سنقتل أبناء قومه تقتيلا ما تناسلوا– فتعبيره بالتقتيل يدل على التكثير والتدريج- ونستبقي نساءهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ولادته حتى ينقرضوا.{وإنّا فوقهم قاهرون} وإنا مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان قاهرون لهم كما كنا من قبل فلا يستطيعون إفسادا في أرضنا، ولا خروجا من حظيرة تعبيدنا.ابن عاشور: وجملة: {وإنّا فوقهم قاهرون} اعتذار من فرعون للملإ من قومه عن إبطائه باستئصال موسى وقومه، أي: هم لا يقدرون أن يفسدوا في البلاد ولا أن يخرجوا عن طاعتي والقاهر: الغالب بإذلال.
و {فوقهم} مستعمل مجازاً في التمكن من الشيء وكلمة {فوقهم} مستعارة لاستطاعة قهرهم لأن الاعتلاء على الشيء أقوى أحوال التمكن من قهره، فهي تمثيلية.
[13] قال البيضاوي: {زدناهم عذاباً}؛ لصدهم.{فوق العذاب}، المستحق بكفرهم.{بما كانوا يفسدون}، بكونهم مفسدين بصدهم ضاعفوا كفرهم، فضاعف الله عقابهم، {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} متعلق بزدناهم أي زدناهم عذاباً فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل أي بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين}، قال ابن عاشور: والتّعريف في قوله تعالى: {فوق العذاب} تعريف الجنس المعهود حيث تقدّم ذكره في قوله تعالى: {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} [سورة النحل: 85]، لأن عذاب كفرهم لما كان معلوماً بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود؛ وأما عذاب صدّهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولاً فناسبه التنكير.
[14] قال البقاعي: ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول، فقال مبيناً للأول: {يد الله} أي المرتدي بالكبرياء، ولما كان منزهاً.عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: {فوق أيديهم} أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة والقوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن 19 الإدراك،
قال الزمخشري: لما قال {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} أكده تأكيداً على طريق التخييل فقال: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يريد أن يد رسول الله التي تعلو أيدي المبايعين: هي يد الله، والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام، وإنما المعنى: تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: وقال ابن عاشور: فجملة {يد الله فوق أيديهم} مقررة لمضمون جملة {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} المفيدة أن بيعتهم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة {يد الله فوق أيديهم} وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف.وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم: إمّا لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبي صلى الله عليه وسلم ” اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة “، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايَع بالفتح ويضع هذا المبايَع يده على يد المبايع، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية.ويشهد لهذا ما في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بايعه الناس كان عُمر آخذاً بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان عمر يضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي الناس كيلاً يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدلّ على أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت توضع على يد المبايعين.وأيًّا مَّا كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل.
[15] انظر البقاعي.