المبحث الأول من الفرق بين «بعد» و«من بعد» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا البحث في الفرق بين (بعد)، (من بعد) في القرآن الكريم واللغة وقسمته إلى ستة مباحث:
المبحث الأول: أقوال النحاة في من الداخلة على ظروف الزمان.
المبحث الثاني: ذكر المعاني المفردة لـ(من) الواردة في القرآن الكريم واللغة. [1]
المبحث الثالث: معاني (من) الناحية العملية التطبيقية على آيات القرآن الكريم، وهذا هو أهم مبحث في هذا البحث.
المبحث الرابع: التفريق بين الآيات المتشابهات التي يذكر من في بعضها ويحذف في بعضها:
المبحث الخامس: بعد بحذف (من): المعاني الإفرادية المستخلصة من كلام المفسرين لـ(بعد).
المبحث السادس: المعاني الاجتماعية وتطبيقها على القرآن الكريم وهذا هو المبحث الأهم في حذف من.

***********************************************

المبحث الأول: أقوال النحاة في من الداخلة على ظروف الزمان:
للنحاة في (من) الداخلة على الظروف كقبل وبعد وأخواتهما ثلاثة أقوال:
القول الأول:
قالوا هي: لابتداء الغاية الزمانية، نحو: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}، وقوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4]، وهو كثير في القرآن وغيره، فمن ذلك: نمت من أول الليل، وصمت من أول الشهر الى آخره: « مطرنا من الجمعة إلى الجمعة»
وقول الشاعر:
تُخُيِّرْن مِنْ أزمانِ يومِ حَليمةٍ… إلى اليوم قد جُرِّبْن كلَّ التجاربِ[2]
وقوله:* أقْوَينَ من حِجَجٍ ومِنْ دهْرِه [3]*
وقول الشاعر من الطويل:
– مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ الشمسُ لا ترى… من القوم إلا خارجيّاً مُسَوَّما
وهذا أثبته الكوفيون، واختاره المحققون كأبي حيان والسمين والآلوسي والزمخشري وغيرهم، وزعم أكثر البصريين أنها لا تجئ لابتداء الزمان وأولوا ما ظاهره أنها لابتداء الزمان على حذف مضاف:
بأن قدروا في الآية: من تأسس أول يوم،
وأجابوا عن الحديث بأن الأصل من صلاة الجمعة،
وقدروا في ( تخيرن من الزمان) ومن مجيء أزمان يوم.
وقدروا في (قوين من حجج ومن دهره: من مر حجج ومن مر دهر،
وقدروا في(مِنَ الصبحِ حتى تَطْلُعَ): ومن طلوع الصبح.
ويرد عليهم بأن الأصل عدم الحذف،، ولا دليل على ذلك الحذف.
قال السمين الحلبي: والخلافُ في هذه المسألة قويٌّ، ولأبي علي فيها كلام طويل [4].
القول الثاني: زائدة على قول من يجيز زيادة (من) في الموجب [5]، ومعناها التأكيد.
اختاره ابن مالك وهو ظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل، وضعفه أبو حيان[6].
القول الثالث: بمعنى في.
اختاره الرضي والتفتزاني.
قال الرضي: ” ومن الداخلة على الظروف غير المتصرفة أكثرها بمعنى في نحو جئت من قبلك ومن بعدك {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وأما جئت من عندك، وهب لي من لدنك فلابتداء الغاية”.
وقال الرضي في موضع آخر: لا أرى في الآية ـ يعني آية هب لي من لدنك ـ ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور- من- منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد[7] بل هما حدثان واقعان فيما بعد مِنْ وهذا معنى في، ومِنْ في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى في انتهى. وقال الآلوسي:” وفي كون التأسيس (أي في لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ليس أصلا لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني[التفتزاني] وله وجه، وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين.
وقال العلامة التفتزاني[8] : “قولهم جلس بين يديه وخلفه على معنى في لأنه ظرف ومن بين يديه ومن خلفه للتبعيض لأنّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول جئته من الليل أي في بعض الليل”، ورد السامرائي هذا المذهب[9].
الراجح:
يقول علي هاني: بعد النظر في كلام المفسرين وكلام الكتب التي تذكر في الآيات المتشابهة، وتأمل الآيات القرآنية يتضح أن الراجح:
أنها لابتداء الغاية، وينشأ من ابتداء الغاية معان فرعية: فمن ذلك التأكيد، وكذلك إفادة القرب في سياقات أخرى؛ لأنها تكون لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية والبعدية ونحوها، وتفيد استيعاب الزمان كله من أول لحظاته في سياقات أخرى وسيأتي في كلام المفسرين ما يوضح هذه المعاني بالتفصيل وبيان اجتماع أكثر من معنى في وقت واحد في المبحث الثالث.
قال السامرائي:
قال ابن هشام في المغني:
“وَاخْتلف فِي (من) الدَّاخِلَة على قبل وَبعد فَقَالَ الْجُمْهُور لابتداء الْغَايَة، ورد بِأَنَّهَا لَا تدخل عِنْدهم على الزَّمَان كَمَا مر وَأجِيب بِأَنَّهُمَا غير متأصلين فِي الظَّرْفِيَّة وَإِنَّمَا هما فِي الأَصْل صفتان للزمان إِذْ معنى جِئْت قبلك جِئْت زَمنا قبل زمن مجيئك فَلهَذَا سهل ذَلِك فيهمَا، وَزعم ابْن مَالك أَنَّهَا زَائِدَة وَذَلِكَ مَبْنِيّ على قَول الْأَخْفَش فِي عدم الِاشْتِرَاط لزيادتها وجاء في تاج العروس ولسان العرب: وَفِي الصِّحاحِ: وَقد تَدْخلُ مِنْ تَوْكِيداً لَغْواً؛ قالَ الأَخْفَشُ: وَمِنْه قَوْلُه تَعَالَى: {وتَرَى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ}، وقالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لرجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جوْفِه}”، ثم نقل السامرائي كلام الرضي ثم قال: بهذا يتبين ثلاثة آراء في من الداخلة على بعض من الظروف غير المتصرفة:
1) أنها لابتداء الغاية 2) زائدة 3) أنها بمعنى في.
قال السامرائي: والذي يبدو لي أن الأول هو الراجح وليست بمعنى في لأن الأصل عدم النيابة، وليست بزائدة لأن الأصل عدم الزيادة وإذا أمكن عدم إخراجها من معناها الذي وضعت له فهو الأولى ولا تصرف عن معناها الأساسي إلا إذا تعذر إبقاؤها عليه ” اهـ.

 

[1] اصل معنى من في أصلها لابتداء الغاية فإن استوعبت الكل سموها بيانية أو زائدة وإن لم تستوعب قالوا للتبعيض وأحيانا للابتداء وحده.
[2] هذا من كلام النابغة الذبياني والضمير يعود للسيوف في البيت الذي قبله، وهو: ولا عيب فيهم غير أنّ سيُوفَهم… بهنَّ فُلول من قِراع الكتائب، وم حليمة: من أيام العرب المشهورة في العصر الجاهلي، فيه انتصر الغساسنة على اللخميين، وبه ضرب المثل “ما يوم حليمة بسر” يقول إن سيوف الغساسنة صقيلة اختارها أصحابها من زمن يوم حليمة، وحافظوا عليها إلى اليوم، وقد أظهرت التجارب جودتها وحسن بلائها في رقاب الأعداء. وحليمة بنت الحرث بن أبي شمر ملك غسان، وجه أبوها جيشًا إلى المنذر بن ماء السماء، فأخرجت لهم طيبًا وطيبتهم فلما قدموا على المنذر، قالوا له: أتيناك من عند صاحبنا، وهو يدين لك، ويعطيك حاجتك فتباشر هو وأصحابه، وغفلوا بعض الغفلة، فحمل ذلك الجيش على المنذر وقتلوه. ويقال: إنه ارتفع في ذلك اليوم من العجاج ما غطى عين الشمس.
[3] قبله لِمَنِ الدِيارُ بقُنةِ الحِجرِ القنة: أعلى الشيء. الحجر: منازل ثمود عند وادي القرى. أقوين: خلون. مذ حجج: منذ سنوات، المعنى: يتساءل الشاعر عن ديار قنة الحجر التي خلت منذ سنوات عديدة.
[4] قال السيوطي في همع الهوامع: ( من) لابتداء الْغَايَة مُطلقًا أَي مَكَانا وزمانا وَغَيرهمَا نَحْو {من الْمَسْجِد الْحَرَام} [الْإِسْرَاء: 1] {أسس على التَّقْوَى من أول يَوْم} [التَّوْبَة: 108] (مُطِرْنَا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة) {خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة} [الْحَج: 5] الْآيَة: (من مُحَمَّد رَسُول الله إِلَى هِرقل) وخصها البصرية إِلَّا الْأَخْفَش والمبرد وَابْن درسْتوَيْه بِالْمَكَانِ وأنكروا وُرُودهَا للزمان، قَالَ ابْن مَالك وَغير مَذْهَبهم هُوَ الصَّحِيح لصِحَّة السماع بذلك، وَكَذَا قَالَ أَبُو حَيَّان لِكَثْرَة ذَلِك فِي كَلَام الْعَرَب نظما ونثرا وَتَأْويل مَا كثر وجوده لَيْسَ بجيد، وَقَالَ الرضي الْمَقْصُود من معنى الِابْتِدَاء فِي (من) أَن يكون الْفِعْل المعدي بهَا شَيْئا ممتدا كالسير وَالْمَشْي وَيكون الْمَجْرُور بِمن الشَّيْء الَّذِي مِنْهُ ابْتَدَأَ ذَلِك الْفِعْل نَحْو سرت من الْبَصْرَة أَو يكون الْفِعْل أصلا للشَّيْء الممتد نَحْو تبرأت من فلَان وَخرجت من الدَّار لِأَن الْخُرُوج لَيْسَ ممتدا لحصوله ب الِانْفِصَال وَلَو بِأَقَلّ خطْوَة وَلَيْسَ (التأسيس) فِي الْآيَة حَدثا ممتدا وَلَا أصلا لَهُ بل هُوَ حدث وَاقع فِيمَا بعد (من) فَهِيَ بِمَعْنى (فِي) ثمَّ قَالَ وَالظَّاهِر مَذْهَب الْكُوفِيّين إِذْ لَا منع من قَوْلك نمت من أول اللَّيْل إِلَى آخِره وَهُوَ كثير الِاسْتِعْمَال قَالَ وضابطها أَن يحسن فِي مقابلتها (إِلَى) أَو مَا يُفِيد فائدتها نَحْو أعوذ بِاللَّه مِنْك إِذْ الْمَعْنى ألتجئ إِلَيْهِ فالباء أفادت معنى الِانْتِهَاء
قال الآلوسي:” والحق أن كثيرا من الآيات، وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه”، وقد حملها على الابتداء كثير من العلماء.قال أبو حيان في { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ }: “و(من) لابتداء الغاية، وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة انتهى، وهو ضعيف”، قال حقي البورسوي: عند قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)}: مِنْ قَبْلِكَ رسلا كائنة من زمان قبل زمانك، فـ(من) لابتداء الغاية في الزمان على مذهب الكوفية مثل نمت من أول الليل، وصمت من أول الشهر الى آخره، وقال المحشى سنان چلبى: (من) زائدة على قول من جوز زيادتها في الموجب، وأما عند غيره فهي بمعنى في كما في قوله تعالى”{ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}.قال ابن عرفة: قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ… } أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف. قال أبو حيان: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ } وتلك الودادة ابتدأت من زمان وضوح الحق وتبينه لهم، قال أبو حيان: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} فقوله من قبلك من فيه لابتداء الغاية قال الشهاب: الجمهور على أنها لابتداء الغاية، قال هميان الزاد: { مِنْ أوَّل يَومٍ } من أيام وجوده، أو وضع أساسه، وفيه دليل على أن (من) تجئ للابتداء في الزمان كالمكان وهو الصحيح عندي، وزعم أكثر البصريين أنها لا تجئ لابتداء الزمان، وقدروا هنا من تأسس أول يوم، والأصل عدم الحذف، وقيل: أول بمعنى البداءة، والبداءة ليست زمانا، ومن الابتداء في الزمان حديث: « مطرنا من الجمعة إلى الجمعة ».* تخيرين من الزمان يوم حليمة *… وقوله:* قوين من حجج ومن دهره *… وأجيب بأن الأصل من صلاة الجمعة، ومن استمرار الزمان، ومن مر حجج ومن مر دهر، والأصل عدم الحذف، ولا دليل على ذلك الحذف.
[5] قال الأشموني: المعنى الرابع لـ(من) التنصيص على العموم أو تأكيد التنصيص عليه، وهي الزائدة: ولها شرطان: أن يسبقها نفي أو شبهه وهو النهي والاستفهام، وأن يكون مجرورها نكرة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: “وزيد في نفي وشبهه فجر نكرة” نحو: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور} والتي لتنصيص العموم هي التي مع نكرة لا تختص بالنفي، والتي لتأكيده هي التي مع نكرة تختص به كأحد وديار. وذهب الكوفيون إلى عدم اشتراط النفي وشبهه، وجعلوها زائدة في نحو قولهم: “قد كان من مطر”. وذهب الأخفش إلى عدم اشتراط الشرطين معًا؛ فأجاز زيادتها في الإيجاب جارة لمعرفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُم}.قال الصبان: ووافق الأخفش في عدم اشتراط الطرين الكسائي وهشام منهم، من الكوفيين واختاره في التسهيل كقال الصبان: فإن قلت: إذا أفادت التنصيص فكيف تكون زائدة؟ قلت: المراد بزيادتها وقوعها في موضع يطلبه العامل بدونها، فتكون مقحمة بين طالب ومطلوب، وإن كان سقوطها مخلًا بالمقصود قاله المصرح
[6]قال السمين: «مِنْ بعد» متعلقٌ ب «يَنْقْضُون»، و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وقيل: زائدةٌ وليس بشيء. قال أبو حيان: { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } ومن لابتداء الغاية، وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون زائدة انتهى، وهو ضعيف.
قال ابن عرفة: قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ… } أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف.
[7] قال السامرائي: ” وفي هذا الكلام نظر فنحن نخالفه في أن المقصود من معنى الابتداء في (من) أن يكون الفعل شيئا ممتدا أو يكون أصلا للممتد فإن ذلك في ابتداء الغاية وليس في عموم الابتداء كما ذكرنا، فقوله { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } من فيه للابتداء فبدء التأسيس على التقوى أول يوم فهي لابتداء وقوع الحدث “وقال السامرائي في أول المبحث الأحسن أن يقال (من) للابتداء لا لابتداء الغاية لأن ابتداء الغاية معناه أن الحدث ممتد إلى غاية معينة كقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } ونحو (جئت من داري ) فإن الإسراء امتد من المسجد الحرام وانتهى بالمسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو الغاية قال السامرائي وأما ما ذهب إليه الرضي من أن (من) الداخلة على الظروف بمعنى (في) فالأصح خلافه وهي أنها للابتداء.نحو { ومن بيننا وبينك حجاب} ليست بمعنى (في) وإنما هي للابتداء جاء في الكشاف. جاء في الكشاف للزمخشري: ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)، فإن قلت: هل لزيادة ( من ) في قوله: { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى: أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
[8] قال الشهاب عند قوله تعالى {وادعوا شهداءكم من دون الله}: ” قال الفاضل المحقق في شرحه هنا [ يعني التفتزاني]: كلمة (من) الداخلة على دون إنما هي بمعنى كما (في) سائر الظروف غير المتصرّفة وهي التي لا تكون إلا منصوبة على الظرفية أو مجرورة بمن خاصة وقد يقال إنها إذا تعلقت بادعوا تكون لابتداء الغاية لأنّ الدعاء ابتداء من دون الله وإذا تعلقت بالشهداء على معنى يشهدون بين يدي الله فللتبعيض كما سيجيئ في تفسير قوله تعالى: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [سورة الأعراف، الآية: 17] أنّ قولهم جلس بين يديه وخلفه على معنى في لأنه ظرف ومن بين يديه ومن خلفه للتبعيض لأنّ الفعل يقع في بعض! الجهتين كما تقول جئته من الليل أي في بعض الليل، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل أنها زائدة وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها لابتداء الغاية ولم ينقل عن النحاة التبعيض والظرفية ففيما ذكره نظر”.
[9] وقال السامرائي في موضع آخر: وأما ما ذهب إليه الرضي من أن (من) الداخلة على الظروف بمعنى (في) فالأصح خلافه وهي أنها للابتداء.نحو { ومن بيننا وبينك حجاب} ليست بمعنى (في) وإنما هي للابتداء جاء في الكشاف للزمخشري: ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)، فإن قلت: هل لزيادة ( من ) في قوله: { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فائدة؟ قلت: نعم، لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب: لكان المعنى: أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، وأما بزيادة ( من ) فالمعنى: أن حجاباً ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.