الفرق بين «قبل» و«من قبل» في اللفظ القرآني، بحث تفصيلي للشيخ علي هاني

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المبحث الأول: ذكر المعاني المفردة لـ(من) الواردة في القرآن الكريم واللغة [1]:
(من) تفيد أكثر من معنى في وقت واحد وهذا ما سأذكره في المبحث الثالث، وقبل ذلك سأذكر المعاني المفردة التي ذكرها العلماء ونصوصهم أنقلها في الهامش
والمعنى الأصلي الذي لـ(من) ولا يخرج عنها في جميع المعاني هو الابتداء: أي بيان مبدأ و جهة حصول الفعل ونحوه: أي: أن الشيء مبتدئ من كذا [2] ثم ينشأ من ابتداء الغاية معان فرعية:
1) فمن ذلك التأكيد.
2) وكذلك إفادة القرب أو المبادرة في سياقات أخرى؛ لأنها تكون لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية.
3) وتفيد استيعاب الزمان كله من أول لحظاته في سياقات أخرى
4) وسيأتي في هذا البحث ما يوضح هذه المعاني بالتفصيل وبيان اجتماع أكثر من معنى في وقت واحد في المبحث الثالث.
قال ابن هشام في المغني [3]: “وَاخْتلف فِي (من) الدَّاخِلَة على قبل وَبعد فَقَالَ الْجُمْهُور لابتداء الْغَايَة.
وإليك هذه المعاني تفصيل المعاني:
1) المعنى الأول: البدء من أول لحظة مع الاستيعاب والعموم [4] والتأكيد:
الاستيعاب لجميع الوقت السابق، ذكر (من) يفيد الاستيعاب مع التأكيد، فهو يفيد الابتداء من قبل زمن المضاف إليه مباشرة من غير فاصل، مستغرقا جميع الوقت الذي قبل، وتستوعب بذكر طرفيه ابتداء وانتهاء، فتفيد أن ما قبلها عريق في القدم.
وبيان معنى الاستيعاب: أنك إذا قلت: ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته، مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم يفتك، وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته، فهي أبلغ من قبل قبلك، ومن في أصلها تدل على تدل على الابتداء، والابتداء [5] يدل على أنه حصل من أول اللحظات والمراد أنه هنا من أول اللحظات إلى آخرها [6]
وتفيد مع الاستيعاب التأكيد والظروف إذا حدّت حقّقت.
وقد نص على الاستيعاب: الإسكافي في درة التنزيل [7]، وأبو جعفر بن الزبير [8]، والكرماني [9]، وابن عرفة [10]، والسامرائي [11]، وابن عاشور[12] ومحمد الأمين الخضري [13]، و الفيروزآبادي [14]، والنيسابوري [15]، ونص عليه جماعة من البصريين [16]، والزمخشري والبيضاوي وأبو حيان في بعض المواضع [17]
هذا ذكر من نص على الاستيعاب ويجتمع مع الاستيعاب التوكيد وقد نص كثير من العلماء على أن (من) تفيد التوكيد فلذلك نراها تستعمل في مقام وسياق يحتاج إلى القوة والتأكيد بخلاف حذف (من): من هؤلاء العلماء أبو جعفر بن الزبير[18]، د صالح الشتري [19]، وهو مذهب ابن مالك [20] في (من) الداخلة على الظروف، وهو ظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل، ونص عليه ابن عاشور[21]، والجوهري، والنيسابوري[22]، والطبرسي[23]، وابن عرفة[24]، وكذا البيضاوي[25] والشهاب[26] والآلوسي[27] والجلال [28] في بعض المواضع[29].
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}(2/4)
يشمل الإيمان بالكتب السابقة من التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء كلها وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب الإيمان بذلك كله، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم.
انظر البغوي والخازن والسعدي.
********************
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا) (4/60)
هذا إنكار من الله، عز وجل، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، قال ابن عاشور: وعطف قوله {وما أنزل من قبلك} لأنّ هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود، وقد دخل المعطوف في حَيّز الزعم فدلّ على أنّ إيمانهم بما أنزل من قبل لم يَكن مطّرداً، فلذلك كان ادّعاؤهم ذلك زعمْا، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا، إذ لو كانوا يؤمنون بها حقّا، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهّان، وشريعة موسى عليه السلام تحذّر منهم.
********************
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}(4/162)
يؤمنون بسائر الكتب التي أنزلها الله على رسله من قبله
انظر الطبري و الخازن والسمعاني و الطبرسي
********************
(قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) 5/59)
وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب المنزلة كلها من قبل كتابنا من قبل إنزال القرآن الكريم.
انظر الطبري البيضاوي و أبو السعود و البقاعي و سيد طنطاوي و الطبرسي.
********************
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(21)}(2/21)
فهي تشمل الكل مع التأكيد كأنه قيل من قبل مباشرة فصاعدا فهي تشمل الكل
أي من تقدم زمانكم من الخلائق والبشر، قال أبو السعود: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل، وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ مَنْ عداهم من معاصريهم.
قال ابن عاشور: فكان قوله: {والذين من قبلكم} تذكيراً لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى. ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف (من) في قوله: {من قبلكم} الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على {قبلكم}، لأن {من} في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبْلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد.
***********************
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ] مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}(3/93)
لبيان أن حل كل الطعام كان ثابتا في جميع أزمنة ما قبل التوراة على بني إسرائيل مع التأكيد
قال الزمخشري: والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها، لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 16] إلى قوله تعالى: {عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 18] وفي قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] إلى قوله: {ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وما هو إلا تحريم قديم، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا، إلى أن انتهى التحريم إلينا، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا. وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم [30].
*******************
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) (4/136).
قوله تعالى: {والكتاب الذي أنزل من قبل}، من التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب، فالمراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب، كل كتاب أنزل قبل القرآن.
انظرالزمخشري ابن الجوزي القرطبي ابن كثير البغوي.
*******************
{قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)} (7/ 129)
تفيد الابتداء والاستيعاب والتأكيد، الابتداء من أول لحظات القبل وأول لحظات البعد فما فوقها فلم تذهب لحظة إلا وقد أوذوا، ويلاحظ التأكيد في من بعد ما جئتنا أكثر بدليل التعبير الماضي والمجيء.
قال الزمخشري: يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئى، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب.
قال الطباطبائي: على أن غرضهم إظهار أن مجيء موسى وقد وعدوا أن الله ينجيهم بيده من مصيبة الإسارة وهاوية المذلة لم يؤثر أثره فإن الأذى الذي كانوا يحملونه ويؤذون به على حاله
*******************
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [14: 22]
{مِنْ} متعلقة بأشركتموني أي كفرت بإشراككم إياي لله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته، والكفر مجاز عن التبري، فهو كفر بجميع إشراكاتهم به في جميع المدة السابقة
قال الطبري مِنْ قَبْلُ يقول: إني جحدت أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني فيه من عبادتكم من قبلُ في الدنيا.
قال الزمخشري -و {مِن قَبْلُ} متعلقة بأشركتموني، يعني: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا.
*****************
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (19/7)
لم نجعل للغلام الذي نهب لك مشاركاً في هذا الاسم من قبله أحدا مسمى باسمه، والسميّ: فعيل بمعنى مفعول فلم يسم أحد قبله مطلقا يحيى، وهذا مزيدُ تشريفٍ وتفخيم له عليه الصلاة والسلام، فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة و مزيّة قوّة تعريف المسمى لقلّة الاشتراك، وله مزية اقتداء الناس به من بعد حين يسمون أبناءهم ذلك الاسم تيمّناً.
*****************
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)} (24/ 58).
وجوب الاستئذان يشمل من أول لحظات ما بعد صلاة العشاء مباشرة إلى ما قبل صلاة الفجر مباشرة فلا تخرج لحظة إلا وهي داخلة ويجب فيها الاستئذان مع التأكيد على وجوب العمل بهذا من تحقق أول لحظات بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الفجر فتفيد الابتداء والتأكيد واستيعاب الوقت.
قال البقاعي: وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط[حين تضعون] دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط ـ ـ ـ {بعدهن} أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم
قال اطفيش – الهميان: اي بعد تلك الاوقات اي في غيرهن ابن عاشور: وحرف (من) مزيد للتأكيد. أي في غير تلك الأوقات الثلاثة.
*****************
{فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)} (30/24)
من تفيد التعميم وأن الأمر لله من قبل الغلب مباشرة مستوعبة جميع الزمان الماضي، ومن بعد الغلب مباشرة مستوعبة جميع الزمان المستقبل مع التأكيد.
قال البقاعي: ولما أفهم السياق العناية بالروم، فكان ربما توهم أن غلب فارس لهم في تلك الواقعة وتأخير نصرهم إلى البضع ربما كان لمانع لم يقدر على إزالته، نفى ذلك بإثبات الجار المفيد لأن أمره تعالى مبتدىء من الزمن الذي كان قبل غلبهم حتى لم تغلبهم فارس إلا به، وهو مبتدىء من الزمن الذي بعده، فالتأخير به لا بغيره، لحكمة دبرها سبحانه فقال: {من قبل} أي قبل دولة أهل فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس، لا إلى غاية تكون مبدأ لاختصاصه بالأمور فيه سبحانه غلبوهم {ومن بعد} أي بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم لا إلى غاية فيه أيضاً غلبهم الروم، فحذف المضاف إليه هو الذي أفهم أن زمن غلبة فارس لهم وما بعده من البضع مذكور دخوله في أمره مرتين.
يعني أن كلاً من كون الروم مغلوبين أوّلاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه وعلمه ومشيئته فغَلَبة الغالب وخِذْلان المغلوب، بأمر الله وقضائه {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} أي هو المنفرد بالقدرة وإنفاذ الأحكام
2) فإياك أن تظن أن انتصار الفرس جاء غصْباً عن إرادة الله، أو خارجاً عن مراده، إنما أراده الله وقصده لحكمة وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره – سبحانه – وأراده.، فلله الأمر من قبل الغلب، ولله الأمر من بعد الغلب.
4)، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة و إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها
يقول علي هاني وهناك أقوال سبعة في تقدير المضاف إليه تراجع في محلها.
*******************
(مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) [غافر 40: 74]
تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول: حسبت أنّ فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً
من قبل أي قبل هذه الإعادة
قال الآلوسي: أي بل تبين لنا اليوم إنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئاً يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئاً يعتد به.
قال ابن عاشور: أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئاً يغني عنا، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يُعتدّ به، كما تقول: حسبتُ أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء، إن كنتَ خبرته فلم تر عنده خيراً.
****************
(وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) [41: 48]
وضلّ وبطل وغاب عنهم عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يعبدونها {من قبل}: في جميع فترة حياتهم في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله الذي حلّ بهم.
****************
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [46: 4]
هاتوا بأي كتاب انزله الله يدل على صحة قولكم يأمركم بعبادة غير الله تعالى، أنزله في أي وقت في عموم القبل قبل هذا القرآن، يعني: أنّ هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك. وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله.
*******************
{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
(57/ 10) فيها الاستيعاب والتأكيد فكل من أنفق من قبل الفتح وما قبله لا يساويه من أنفق من بعد الفتح مباشرة وما بعده.
قال ابن عرفة: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ الآية لما تضمنت تشريف القسم المقابل كان تحريضا، إذ [هو] عام في البعدية إلى يوم القيامة أو مقابل قوله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، وهذه البعدية صادقة في سائر الأزمان فينبغي للمكلف تحصيل صادقيتها ليكون أحد المقابلين للأفضل، ونص في الآية على نفي مساواة من جمع الوصفين، قبل الفتح لفعل مثله بعده، فمن أنفق قبله، ولم يقاتل، هل يساوي من قاتل بعده ولم ينفق؛ لأن بذل النفس أعظم ثوابا من بذل المال، فهل يعدل فضيلة ذلك فضل السبقية [أو لا؟] فيه نظر، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية، وتضمنت الآية نفي مساواة من أنفق في أول الأزمنة المتقدمة على الفتح، لمن أنفق في أول الأزمنة المتأخرة عنه، مع أن المساواة منتفية بين من أنفق قبله مطلقا، وبين من أنفق بعده مطلقا، فالجواب: أن كل ما ثبت لأحد المتساوين ثبت للآخر، و (مَن) إنما دخلت لتأكيد معنى السبقية.

قال الزمخشري: ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة.
******************
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [57: 22]
من قبل أن نبرأ المصيبة أي نخلقها ونوجدها بريئة من كل عيب في وقتها ومكانها الذي هو عين الحكمة، فهي موجودة مكتوبة من الأزل مثبتة في في اللوح مثبتة، لأن الكتاب السابق أزلي قبل حصولها، و الأقرب أن الضمير نفس المصيبة لأنها هي المقصود المحدث عنها
برأ: خلق، والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة، لأنها هي، وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل محل المصيبة. ابن كثير أي: في الآفاق وفي نفوسكم {إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
قال البقاعي: وبين أن الكتابة حدثت بعد أن كان هو سبحانه ولا شيء معه بإدخال الجارّ فقال: {من قبل أن نبرأها} أي نخلق ونوجد ونقدر المصيبة والأرض والأنفس، وهذا دليل على أن اكتساب العباد يجعله سبحانه وتقديره. قال سيد قطب: إن هذا الوجود من الدقة والتقدير بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدر من قبل في تصميمه، محسوب حسابه في كيانه.. لا مكان فيه للمصادفة. ولا شيء فيه جزاف. وقبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كل حدث سيظهر للخلائق في وقته المقدور.. وفي علم الله لا شيء ماض، ولا شيء حاضر، ولا شيء قادم. فتلك الفواصل الزمنية إنما هي معالم لنا – نحن أبناء الفناء – نرى بها حدود الأشياء. فنحن لا ندرك الأشياء بغير حدود تميزها. حدود من الزمان وحدود من المكان. نحن لا نملك إدراك المطلق إلا في ومضات تتصل فيها أرواحنا بذلك المطلق، عن طريق غير الطريق الذي اعتدناه في إدراك الأشياء. فأما الله – سبحانه – فهو الحقيقة المطلقة التي تطلع جملة على هذا الوجود، بلا حدود ولا قيود. وهذا الكون وما يقع فيه من أحداث وأطوار منذ نشأته إلى نهايته كائن في علم الله جملة لا حدود فيه ولا فواصل من زمان أو مكان الأمثل – تشمل الإنسان، فإنّها مقدّرة من قبل ومسجّلة في لوح محفوظ.
******************
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [21: 34]
الزمخشري كانوا يقدّرون أنه سيموت فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا، أي: قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشراً، فلا أنت ولا هم إلا عرضة للموت، فإذا كان الأمر كذلك فإن مت أنت أيبقى هؤلاء؟ وفي معناه قول القائل:
فَقُلْ لِلَّشامِتِينَ بِنَا أفِيقُوا *** سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
البقاعي عليه قوله: {وما جعلنا} 10 أي بما لنا من العظمة التي اقتضت تفردنا بالبقاء 11 {لبشر} وحقق عدم هذا الجعل بإثبات الجار فقال: {من قبلك الخلد} ناظراً إلى قوله {وما كانوا خالدين} بعد قوله {هل هذا إلا بشر مثلكم} وهذا من أقوى الأدلة على أن الخضر عليه السلام مات.
******************
(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [28: 46].
في الآية قولان:
القول الأول:
لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة، ونحوه قوله: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ} [يس: 6]. وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى غيره عمرو بن لحي فقد أنذرهم في تلك الأزمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى زمان عمرو بن لحي، فهم لأجل عدم النذير عمي، عن الهدي، سالكون سبيل الردى.، وقال أبو السعود {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} صفةٌ لقوماً أي لم يأتهم نذيرٌ لوقوعِهم في فترةٍ بينك وبينَ عيسى وهي خمسمائةٌ وخمسونَ سنةً أو بينك وبين إسماعيلَ بناء على أنَّ دعوةَ مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ كانتْ مختصَّةً ببني إسرائيلَ قال البقاعي في يس:. البقاعي {ما أتاهم من نذير} أي رسول في هذه الأزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما 15 ان المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله: {من قبلك} أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم
الزمخشري والبيضاوي وأبو السعود
القول الثاني:
مطلقا فالمراد التعميم والاستيعاب نذير منهم عموماً أما موسى وعيسى فلبني إسرائيل، وأما إسماعيل عليه السلام فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفى إتيان النذير إياهم من قبله صلى الله عليه وسلم يقول علي هاني: وهذا هو الراجح.
قال القرطبي: ما أتاهم من نذير من قبلك ” يعني العرب أي لم تشاهد تلك الأخبار.
قال الآلوسي: وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أصلاً وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلاً إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة بكثير واندراك شرعه وعدمه وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك [31].

**********

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [32: 3] كالآية الكريمة السابقة.
****************
(وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [28: 53]
قال الفخر الرازي: ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم: {آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} فقوله: {إنه الحق من ربنا} يدل على التعليل يعني أن كونه حقا من عند الله يوجب الإيمان به وقوله: {إنا كنا من قبله مسلمين} بيان لقوله: {به إنه} لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه.
قال أبو حيان: {إنا كنا من قبله مسلمين}: بيان لقوله: {آمنا به}، أي إيماننا به متقادم، إذ كان الآباء الأقدمون إلى آبائنا قرأوا ما في الكتاب الأول، وأعلموا بذلك الأبناء، فنحن مسلمون من قبل نزوله وتلاوته علينا، والإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي.
أبو السعود: {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي مِن قبلِ نزولِه {مُسْلِمِينَ} بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتبِ المتقدمةِ وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ.
****************

{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
[29: 48].
وأنت أميّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك ولم تكن تكتب بيمينك، ولكنك كنت أمّيّا إذا – أي ما كنت تحسن القراءة والكتابة لكونك أميا
قال البقاعي: ولما كان المراد نفي التلاوة عن كثير الزمن الماضي وقليله، أدخل الجار فقال {من قبله} أي هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك
كما يدل عليه قوله في موضع آخر: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله}: [يونس: 16].

*****************
(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [الدخان 44: 37].
خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية يعني من تقدمهم من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم من كلِّ جبَّارٍ عَنيدٍ أولي بأسٍ شديدٍ.
*****************

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) [14: 44].
الطبري القول في تأويل قوله تعالى: أو لَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ. وهذا تقريع من الله تعالى ذكره للمشركين من قريش بعد أن دخلوا النار بإنكارهم في الدنيا البعث بعد الموت. يقول لهم إذ سألوه رفع العذاب عنهم وتأخيرهم لينيبوا ويتوبوا: أو لَمْ تَكُونُوا في الدنيا أقْسَمْتُمْ منْ قَبْلُ ما لَكُمْ منْ زَوَالٍ يقول: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الاَخرة، وأنكم إنما تموتون، ثم لا تبعثون؟ السمرقندي مّن قَبْلُ} يقول: حلَفْتُم، وأنتم في الدنيا من قبل هذا اليوم {مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} أي: لا تزولون عن الدنيا، ولا تبعثون النسفي – أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث أبو حيان يوبخون بذلك، ويذكرون مقالتهم في إنكار البعث، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى: {واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} ومعنى ما لكم من زوال، من الأرض بعد الموت أي: لا نبعث من القبور. ابن كثير أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال: أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك. أبو السعود – {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ} على إضمار القولِ معطوفاً على (فيقول) أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً: ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرَاً وجهلاً وسفهاً {مَا لَكُمْ من زَوَالٍ} مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مَشيداً وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو ما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] ابن سعدي
ولهذا يوبخون ويقال لهم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} عن الدنيا وانتقال إلى الآخرة، فها قد تبين حنثكم في إقسامكم، وكذبكم فيما تدعون،
سيد قطب وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون. وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها. فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة:
أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟!..
فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزولوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلا بارزا للظالمين ومصيرهم المحتوم:
ابن عاشور
والزوال: الانتقال من المكان. وأريد به هنا الزوال من القبور إلى الحساب. أبو زهرة –
فيقول الملائكة بأمر الله تعالى مبكتا مذكرا لهم كفرهم: {أو لم تكونوا أقستم من قبل ما لكم من زوال}، وقوله تعالى: {أو لم تكونوا أقسمتم}، (الواو) عاطفة على ما قبلها، والهمزة للاستفهام الإنكاري الذي فيه إنكار الواقع، والاستفهام داخل على النفي ونفي النفي إثبات على معنى التوبيخ، والمعنى لقد أقسمتم من قبل مغترين على الله تعالى جاهلين لأنفسكم، ولمجرى الحياة {ما لكم من زوال}، أي ليس لكم أي زوال، وإنهم في الحقيقة كما يظهر من مجرى أمورهم أنهم كانوا لا ينكرون الموت، ولكن ينكرون الحياة بعد الموت ويقولون: {…أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد…(5)} [الرعد].
ولكن لأنهم عتاة غاشمون لا يرعون إلا ولا ذمة، وقد اغتروا بالحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور، يعملون كأنهم لا يموتون ولا يفنون، وأنهم في الدنيا خالدون.
وقد فسر بعض العلماء أن المراد من الزوال المنفي أنهم لا يزولون ثم يبعثون، وهذا تفسير مجاهد تلميذ ابن عباس ترجمان القرآن، كما سماه عبد الله ابن مسعود، ويكون المعنى على هذا التفسير: ما لكم من زوال من هذه الدنيا تنتقلون من بعده إلى الآخرة.
الطباطبائي
و الكلام على تقدير القول والمعنى يقال لهم توبيخا وتبكيتا: أ لم تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال وأنكم بما عندكم من القوة والسطوة ووسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى أجل قريب.
سيد طنطاوي الجملة الكريمة تحكى رفض مطالبهم بأبلغ أسلوب، حتى يزدادوا حزنا على حزنهم، وحسرة على حسرتهم.
قال المطعني الاستفهام: للتقرير والتبكيت والتوبيخ
والتقدير أتقولون هذا الآن وكنتم أقسمتم في الحياة الدنيا أنكم لن تبعثوا من قبوركم للقاء يومكم هذا.
**********************
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ 53، [34: 53].
تركز على أنهم في جميع الفترة الماضية من أول القبلية إلى ما سبق كانوا يكفرون ثم يقولون الآن آمنا فمن قبل هذا الوقت كفرتم، تفيد الاستيعاب لجميع ما قبل الآخرة والبعث وهو الدنيا مع التأكيد وتصوير أنه هذا قبل هذا مباشرة لبيان أنه لا عذر أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة، أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت من قبل معاينة أهوال الآخرة، وذلك حال كونهم في الدنيا في دار العمل فانتهى الأمر، ولم يعد لهم أن يحاولوه اليوم
قال ابن عرفة: قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ… (53)}تدل على أول الأزمنة القبلية، فأفادت الآية أنهم ماتوا على الكفر، لأن ابتداء الغاية بحسب مآلهم، وحالهم حينئذ أمر الآخرة، فأفادت من أن ابتداء أمر الآخرة حينئذ في حقهم الكفر، وهو انتهاء أمر الدنيا، فهم ماتوا كفارا في شك، والمراد به الشك اللغوي لَا استواء الطرفين كما هو اصطلاحا، فيتناول الظن، وهو تنبيه بالأدنى عن الأعلى، لأنه إذا كان الشاك يناله هذا الوعيد فأحرى من جز
قال ابن عاشور: وجملة {وقد كفروا به من قبل} في موضع الحال، أي كيف يقولون آمنّا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبلُ في وقت التمكن فهو كقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43].
*******************
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 2(/286).
القول الأول: التعميم والتأكيد.
ابن كثير والبقاعي والزمخشري ومحمد رشيد رضا وسيد قطب والسعدي والواحدي والنسفي وابن عجيبة والمراغي وأبو زهرة والأمثل الطبرسي (

ابن سعدي وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها قال ابن كثير: أي: لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به، من الدين الحنيف السهل السمح.
قال البقاعي. ثم عظم المنة بقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا
قال رشيد رضا – وحمله أكثر المفسرين على التكاليف الشاقة لأن الآية نزلت في زمن التشريع ونزول الوحي، ولذلك قال {كما حملته على الذين من قبلنا} أي من الأمم التي بعث فيها الرسل، كبيني إسرائيل، فقد كانت التكاليف شاقة عليهم جدا. وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه تعالى لا يكلفنا ما يشق علينا كما صرح بذلك بعد في قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] وهو يتضمن الامتنان علينا وإعلامنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر وانه يجب علينا شكره لذلك. وحكمة الدعاء بذلك الآن استشعار النعمة والشكر عليها. الطبرسي (كما حملته على الذين هن قبلنا) أي: على الأمم الماضية، والقرون الخالية، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام، كما قال تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وأخذ عليهم من العهود والمواثيق، وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفا عنها.
المراغي كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبني إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو ذلك.
قال سيد قطب: وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم – كما علمهم ربهم في هذا القرآن – بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم. فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم. وفي آية الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم).. وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة.
قال السعدي: وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} وقد فعل وله الحمد
قال ابن عرفة فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء.
قال الواحدي -نحو ما أمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم.
قال الزمخشري:‏ من العقوبات النازلة بمن قبلنا طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم
في المحافظة عليها‏. ‏ قال النسفي مِن قَبْلِنَا} كاليهود
الأمثل هنا قد يسأل سائل: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلماذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها؟
في الجواب نقول: تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر.
أبو زهرةكما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم. ولكن ما هذه الآصار وتلك الأعباء؟ أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلي الذين من قبلهم في قوله تعالى: [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214] (البقرة) وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه. ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة

القول الثاني: قال ابن عاشور و الطباطبائي وابن عرفة والطباطبائي المنتخب الآلوسي الخازن الهواري الطبري الثعلبي الماوردي البغوي الفخر الرازي البيضاوي أبو حيان
قال ابن عاشور وقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} صفة ل {إصراً} أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ” ويضع عنهم إصرهم “.
قال الطباطبائي: والمراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى: {و يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف – 157].
قال ابن عطية: ولا خلاف أن المراد ب {الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} اليهود 99.
ابن عرفة: لأن (تكاليفهم) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم، قال الضحاك: اليهود والنصارى.
الهواري يعني ما كان شدِّدَ به على بني إسرائيل، والإِصر العهد الطبري يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها، فعوجلوا الثعلبي مِن قَبْلِنَا}. يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم الماوردي يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم. البغوي. يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم الفخر الرازي: المسألة الثانية: ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم، قال الله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} [النساء: 160] وقال تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء: 66] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلا في الدنيا، كما قال: {من قبل أن نطمس وجوها} [النساء: 47] وكانوا يمسخون قرد وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات البيضاوي والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة. أو ما أصابهم من الشدائد والمحن أبو حيان و: الذين من قبلنا، المراد به اليهود.
وقال الضحاك: والنصارى.
*********************
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 2(/286).
في المراد من {الذين من قبلنا} قولان والأرجح الأول وهو التعميم ويدخل دخولا أوليا بنو إسرائيل.
القول الأول: التعميم والتأكيد.
ابن كثير والبقاعي والزمخشري ومحمد رشيد رضا وسيد قطب والسعدي والواحدي والنسفي وابن عجيبة والمراغي و ابن عثيمين وأبو زهرة والأمثل ابن عثيمين الطبرسي (

ابن سعدي وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها قال ابن كثير: أي: لا تكلّفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم، التي بعثتَ نبيَك محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به، من الدين الحنيف السهل السمح.
قال البقاعي. ثم عظم المنة بقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا
قال رشيد رضا – وحمله أكثر المفسرين على التكاليف الشاقة لأن الآية نزلت في زمن التشريع ونزول الوحي، ولذلك قال {كما حملته على الذين من قبلنا} أي من الأمم التي بعث فيها الرسل، كبيني إسرائيل، فقد كانت التكاليف شاقة عليهم جدا. وفي تعليمنا هذا الدعاء بشارة بأنه تعالى لا يكلفنا ما يشق علينا كما صرح بذلك بعد في قوله: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] وهو يتضمن الامتنان علينا وإعلامنا بأنه كان يجوز أن يحمل علينا الإصر وانه يجب علينا شكره لذلك. وحكمة الدعاء بذلك الآن استشعار النعمة والشكر عليها. الطبرسي (كما حملته على الذين هن قبلنا) أي: على الأمم الماضية، والقرون الخالية، لأنهم كانوا إذا ارتكبوا خطيئة عجلت عليهم عقوبتها، وحرم عليهم بسببها ما أحل لهم من الطعام، كما قال تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وأخذ عليهم من العهود والمواثيق، وكلفوا من أنواع التكاليف ما لم يكلف هذه الأمة تخفيفا عنها.
المراغي كما كلفت من قبلنا من الأمم التي بعثت فيها الرسل كبني إسرائيل إذ كان يجب عليهم قطع موضع النجاسة من الثوب إذا تنجس، وكانوا يدفعون ربع المال زكاة إلى نحو ذلك.
قال سيد قطب: وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله، ومعرفتهم – كما علمهم ربهم في هذا القرآن – بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم. فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم. وفي آية الأنعام: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم).. وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة.
قال السعدي: وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} وقد فعل وله الحمد
قال ابن عرفة فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء.
قال الواحدي -نحو ما أمر به بنو إسرائيل من الأثقال التي كانت عليهم.
قال الزمخشري:‏ من العقوبات النازلة بمن قبلنا طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم
في المحافظة عليها‏. ‏ قال النسفي مِن قَبْلِنَا} كاليهود
الأمثل هنا قد يسأل سائل: إذا كانت السهولة والسماحة في الدين جيّدة، فلماذا لم يكن للأقوام السابقة مثلها؟
في الجواب نقول: تفيد آيات في القرآن أنّ التكاليف الشاقّة لم تكن موجودة في أصل شرائع الأديان السابقة، بل فرضت كعقوبات على أثر عصيان تلك الأقوام وعدم إطاعتها، كحرمان بني إسرائيل من أكل بعض اللحوم المحلّلة بسبب عصيانهم المتكرّر.
أبو زهرةكما حمل الله جلت قدرته وعلت حكمته على الذين من قبلهم. ولكن ما هذه الآصار وتلك الأعباء؟ أهي أعباء من التكليفات تتعلق بالأوامر الشرعية والنواهي أم هي ما يبتلى به المؤمن من شدائد واختبارات كما ابتلي الذين من قبلهم في قوله تعالى: [أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214] (البقرة) وإني أميل إلى أن الآصار هي من هذا النوع من الابتلاء، كأنهم لرغبتهم في نصر الله تعالى يضرعون إليه أن يمدهم بعونه في حمل عبء الجهاد في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه. ويزكي ذلك قوله تعالى في ختام السورة

القول الثاني: قال ابن عاشور و الطباطبائي وابن عرفة والطباطبائي المنتخب الآلوسي الخازن الهواري الطبري الثعلبي الماوردي البغوي الفخر الرازي البيضاوي أبو حيان
قال ابن عاشور وقوله: {كما حملته على الذين من قبلنا} صفة ل {إصراً} أي عهداً من الدين، كالعهد الذي كلّف به من قبلنا في المشقة، مثل ما كلّف به بعض الأمم الماضية من الأحكام الشاقّة مثل أمر بني إسرائيل بتيه أربعين سنة، وبصفات في البقرة التي أمروا بذبحها نادرة ونحو ذلك، وكل ذلك تأديب لهم على مخالفات، وعلى قلة اهتبال بأوامر الله ورسوله إليهم، قال تعالى في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ” ويضع عنهم إصرهم “.
قال الطباطبائي: والمراد بالذين من قبلنا: هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ما تشير السورة إلى كثير من قصصهم، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى: {و يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف – 157].
قال ابن عطية: ولا خلاف أن المراد ب {الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} اليهود 99.
ابن عرفة: لأن (تكاليفهم) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم، قال الضحاك: اليهود والنصارى.
الهواري يعني ما كان شدِّدَ به على بني إسرائيل، والإِصر العهد الطبري يعني على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالاً وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها، فعوجلوا الثعلبي مِن قَبْلِنَا}. يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم الماوردي يعني بني إسرائيل فيما حملوه من قتل أنفسهم. البغوي. يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم الفخر الرازي: المسألة الثانية: ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول: لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها، وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم، قال الله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} [النساء: 160] وقال تعالى: {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم} [النساء: 66] وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر، وكان عذابهم معجلا في الدنيا، كما قال: {من قبل أن نطمس وجوها} [النساء: 47] وكانوا يمسخون قرد وخنازير، قال القفال: ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات البيضاوي والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة. أو ما أصابهم من الشدائد والمحن أبو حيان و: الذين من قبلنا، المراد به اليهود.
وقال الضحاك: والنصارى.
*****************
(وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ)(28/ 12).
التحريم: استعارة للمنع؛ لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم: محظور. وحجر، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثدياً، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط، ولا يؤتى بمرضع فيقبلها حتى أهمهم ذلك ليكون ذلك سبباً لرده إليها.
” من قبل ” من قبل قصها أثره وحضورها هناك ومجيئها إليهم، في جميع مدة القبل من أول المدة إلى آخرها.
*******************
المعنى الثاني: استيعاب مع إفادة أن هذا الفعل معهود فيما سبق وليس ببدع [32]، وأنه ليس بأوّل مرة يفعل لتقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة، ليس الأمر بغريب، فبينهما الشبه التامّ وفيه في سياقات الحث على التأسي، أو لزيادة التأكيد.
قد تقدم من ذكر الاستيعاب والتأكيد وأما كونه مألوفا وليس ببدع فقد نص عليه الإمام الرازي [33]، وأبو السعود [34]، والآلوسي [35]، والسامرائي [36]، وابن عاشور[37]، وابن عطية [38]، والطباطبائي [39]، وأبو حيان [40]، و الطبري[41] والزمخشري[42] وغيرهم من المفسرين مما سيأتي في البحث.
*****************
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 2/(118)
تفيد الاستيعاب وأنه معهود أي كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم، طلبوا مثل هذا من أنبيائهم فقد طلب قوم موسى أن يروا الله جهرة، وطلبوا وتعنتوا في طلب الخوارق المعجزة. فبين هؤلاء وهؤلاء شبه في الطبيعة، وشبه في التصور.
انظر ابن كثير سيد قطب البغوي. البيضاوي، وحملها البقاعي كعادته في تفسير {من قبل}على التبعيض وهو بعيد
*********************

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}2/(183).
قال ابن عرفة: وزيادة « مِنْ » تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: تزول هذه الآية
قال الزمخشري: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله عنه: أوّلهم آدم، يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم
قال البيضاوي: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس.
قال أبو حيان: {على الذين من قبلكم}: ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا.
*********************
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
(2/214)
” مِنْ قبلِكم ” متعلِّقٌ ب ” خَلَوا ”
أي شبه الذين مضوا قبلكم من أمم أوتوا الكتب ودعوا إلى الحق فآذاهم الناس في ذلك فصبروا وثبتوا فيشمل النبيين وأتباعهم من المؤمنين ومن سار على خطاهم، أفتصبرون مثلهم على المكاره، وتثبتون ثباتهم على الشدائد من غير أن تفتنوا بالإيذاء كما هي سنة الله تعالى في أنصار الحق وأهل الهداية في كل زمان؟، و(من) هنا ليست لمجرد التأكيد كما قال السمين الحلبي مستندا إلى أن القبلية مستفادة من خلوا لأن من أفادت الاستيعاب هنا وهذا غير مستفاد من خلوا
انظر الخازن والسمين الحلبي وابن عاشور ورشيد رضا.
وحملها البقاعي على القرب فقال: ” ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال: {من قبلكم}” وما قدمته أحسن.
*********************
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 3/11).
تفيد الاستيعاب وأنه معهود قديم، أبو حيان: ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وترتب العذاب على كفرهم، كشأن من تقدّم من كفار الأمم، أخذوا بذنوبهم، وعذبوا عليها، {والذين من قبلهم} هم كفار الأمم السالفة، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب، وغيرهم.
*********************

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [8: 52]
قال أبو السعود: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فوعون من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقوم نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعناد
قال الآلوسي: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب الخ؛ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة [43].
*********************
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)8/ 54 كالسابقتين.
*********************
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(3/137).
يعني بقوله تعالى ذكره: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم يا معشر أصحاب محمد وأهل الإيمان به، من نحو قوم عاد وثمود، وقوم هود، وقوم لوط وغيرهم من سُلاف الأمم قبلكم سنن ثابتة،، يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه، ومن قبلكم متعلق بخلت، يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة، امتحنوا، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة، حتى جعل الله العاقبة للمتقين، والنصر لعباده المؤمنين، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
انظر الطبري والزمخشري و أبو السعود و سيد طنطاوي [44].

*********************
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)}(3/144)
خلت أي مضت وسلفت بالموت، فقد مضى رسل من قبله وماتوا فسيخلو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كما خلوا بالموت و يموت كما مات الرسل قبله، فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد خلوِّه عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته، وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم، وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد، إن محمدا قد مات، فتزلزل بعض الناس، و(من قبله) متعلق بـ(خلت).
*********************
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). (5/75)
أي إنما عيسى عليه السلام رسول لله من جنس الرسل وكسائر رسله الذين كانوا قبله، ليس بدعا في هذا الوصف، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فمضوا وخلو، وليس بإله كما أن الأنبياء قبله رسل ليسوا بآلهة، فهو عليه السلام له سَويَّة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام فإنْ أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى، وهو أعجب.
*********************
(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) 7/ 38
{فِى أُمَمٍ} في موضع الحال، أي كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أي ادخلوا في النار مع أمم، قد تقدّم زمانهم زمانكم، و{خلت} حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة يعني كفار الأمم الماضية، ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها؛ ويملي متبوعها لتابعها.. فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها، وكيف يكون التنابز فيها وهذا النص يفيد أولا – أن الكفر كله ملة واحدة لا تفريق بينها، فالباطل قد جمعها والعقاب قد وحدها، ويفيد ثانيا أنه يتسلسل في الأجيال جيلا بعد جيل، وبعد تفرقهم في الأجيال تجدهم قد التقوا في النار جميعا، و{في النار} متعلق بادخلوا.
انظر الزمخشري والبيضاوي والجلال وأبا السعود وسيد قطب.
*********************
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) 13/6
قبل الأولى النظر فيها أن شيئا قبل شيء وأما الثانية فالنظر فيها للتعميم
أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك ما يسوؤهم ان يعجل لهم، كما قالوا ” امطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم ” 1 قبل ان يسألوا الاحسان بالانظار لهم، وقد حكم الله تعالى ان يمهلهم التوبة وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا وتزجر عن مثل ما وقعت لأجله، وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم بسبب تكذيبهم رسلهم وسميت مثلة؛ لأنها كانت عقوبة متماثلة لما ارتكبوا أي: مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها، وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتبارا بحال من سلف.
ابن عطية: مع خلو ذلك في الأمم ونزوله بأناس كثير قال سيد قطب هؤلاء يستعجلونك أن تأتيهم بعذاب الله، بدلا من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم.
قال أبو زهرة:أي خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا، وعاندوا رسلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وسميت مثلة؛ لأنها كانت عقوبة متماثلة لما ارتكبوا، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص؛ للتماثل بين الجريمة والعقوبة، وذلك أعدل وأردع.
قال السمين الحلبي: قوله تعالى: {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن ” السَّيِّئة ” قاله أبو البقاء
*********************
(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) (13/30).
أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها الأمم الماضية الكثيرة قد أُرسل إليهم رسل وأنت خاتم الأنبياء، والمعنى: أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك.

*********************
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} 41/25]
أي ثبت ووجب وهو حق، على هؤلاء الكفار حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن والإنس عصوا الله فحق القول بأنهم يعاقبون.
*********************
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (48/23)}
{خلت} مضت وسبقت، فائدة {التي خلت من قبل} الدلالة على اطرادها وثباتها، والمعنى: أن ذلك سنة الله مع الرسل، ولما وصف تلك السنة بأنها راسخة فيما مضى أعقب ذلك بوصفها بالتحقق في المستقبل تعميماً للأزمنة بقوله: {ولن تجد لسنة اللَّه تبديلاً}، فقد سن غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال تعالى: {لأغلبن أنا ورسلي} الآلوسي -نصب على المصدرية بفعل محذوف أي سن سبحانه غلبة أنبيائه عليهم السلام سنة قديمة فيمن مضى من الأمم.
*******************
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [24: 34].
مألوف وتعميم
عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيها أنزل إليهم من الآيات المنيرات، وفيما ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم، ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه وفيما ذكر لهم من المواعظ.
{وَمَثَلاً مّنَ} أمثال من {قَبْلِكُمْ} أي قصة عجيبة من قصصهم واخبار من كان قبلكم من امم الرسل وشبها من حالهم بحالكم حتى صار كالمثل السائر، وفيه ترغيب وترهيب، مثل ذكر حال المتقدمين المكذبين وماذا حصل لهم وما حلَّ بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى، ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه، وذكر الصالح وما عمل وماذا كان جزاؤه، و {الذين خلوا من قبلكم} هم الأمم الذين سبقوا المسلمين.
*******************
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) 21/24)
قال ابن عاشور: وأما قوله تعالى: {وذكر من قبلي} فمعناه ذكر الأمم الذين هم قبلي يشمل جميع الكتب السالفة المعروفة: التوراة والزبور والإنجيل وكتاب لقمان. الطبري يقول: وخبر من قبلي من الأمم التي سلفت قبلي، وما فعل الله بهم في الدنيا وهو فاعل بهم في الاَخرة القرطبي من قبلي ” في التوراة والإنجيل، وما أنزل الله من الكتب؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه؟
قال أبو السعود: وقوله تعالى: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِي وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} إنارةٌ لبرهانه وإشارةٌ إلى أنه مما نطقت به الكتبُ الإلهية قاطبةً وشهِدت به ألسنةُ الرسلِ المتقدمة كافةً وزيادةُ تهييجٍ لهم على إقامة البرهان لإظهار كمالِ عجزِهم، أي هذا الوحيُ الواردُ في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطعِ العقليّ ذكرُ أمتي أي عظتُهم وذكرُ الأمم السالفة قد أقمتُه فأقيموا أنتم أيضاً برهانَكم.
*******************
(وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
46/17).
أتعدانني أن أبعث، وقد مضت وتقدمت وسبقت قرون كثيرة من الأمم الخالية قبلي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة، فهلكوا وماتوا وتطاولت الأزمان فلم يبعث منهم أحدا وهذا حاصل على الاستمرار، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان، لكان قد بُعث من هلك قبلي.
*******************
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}3/184)
من قبلك: متعلق بكذب، فقد كذب رسل من قبلك: نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وغيرهم. يعني مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل [45].
*******************
{الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (3 /183)
قال أبو السعود {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ} كثيرةُ العددِ كبيرةُ المقدار {من قَبْلِي بالبينات} أي المعجزات الواضحةِ.
*******************
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) 35/4
قال ابن كثير يقول: وإن يكذبك – يا محمد – هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم
قال سيد طنطاوي: أى: وإن يكذبك – أيها الرسول الكريم – قومك، فلا تخزن، ولا تبتئس، فإن إخوانك من الأنبياء الذين سبقوك، قد كذبهم أقوامهم، فأنت لست بدعا فى ذلك.
*******************
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [35: 25]
سلى نبيه بما سلف من الأمم لأنبيائهم أي فقد كذّب الذين من قبلهم من الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات من الكفار أنبياء أرسلوا اليهم من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك، فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضاً، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.
*******************
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)
[29: 18].
مألوف وتعميم من أول أزمنة القبلية فما تحتها مع التأكيد
يقول تعالى ذكره: وإن تكذّبوا أيها الناس رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم فيما دعاكم إليه من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم [أو الخطاب من سيدنا نوح لقومه]، والبراءة من الأوثان، فقد كَذّبت جماعات في الأزمان الكائنة من قبلكم رسلَها فيما دعتهم إليه الرسل من الحقّ، كثيرة، كعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم فحلّ بها من الله سخطه، ونزل بها منه عاجل عقوبته، فسبيلكم سبيلها فيما هو نازل بكم بتكذيبكم إياه مثل عاد وثمود وغيرهم فأهلكوا
قال الطباطبائي:ومعنى الشرط والجزاء في صدر الآية أن التكذيب هو المتوقع منكم لأنه كالسنة الجارية في الأمم المشركة وقد كذب من قبلكم وأنتم منهم وفي آخرهم وليس علي بما أنا رسول إلا البلاغ المبين.
*******************
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(4/26).
مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين وأهل الرشد والإيمان بالله وأنبيائه ومناهجهم، فيما حرم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وسائر ما حرم عليكم في الاَيتين اللتين بين فيهما ما حرم من النساء والمراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح حال الأمم التي سبقتنا، من كليات الشرائع، ومقاصدها.
*******************
{(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)4/ 131}.
مساق الآية لتأكيد الأمر بالتقوى
قال الآلوسي: أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، و {مِنْ} متعلقة بوصينا أو بأوتواالزمخشري {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بوصينا، أو بأوتوا
قال البغوي: يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم. قال الزمخشري {الكتاب} اسم للجنس يتناول الكتب السماوية
ومثلهم ابن الجوزي والبيضاوي الخازن وأبو السعود.
*******************

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) (6/6)
قال الفخر الرازي: اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم [46].

*******************
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) (38/3).
قال السامرائي مبينا سر التأكيد في أول سورة ص: ومثل هذا الفرق بين ق وص: قال سبحانه في ص {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} وقال تعالى في ق{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
ففي ص من قبلهم وفي ق قبلهم ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في ص أشد مما في ق فإنه قال في ق لم يزد على أن قال بعد هذه الآية {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة وأما في ص فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في ق فقد قال بعد هذه الآية {و عجبو ا أن جاءهم ــ ــ ـ بل لما يذوقوا عذاب} فقد ذكر أنهم قالوا هذا ساحر كذاب وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصوا بذلك وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم في حين لم يزد في ق على أن قال {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} واستبعدوا البعث بقولهم {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وعلاوة على ذلك فقد توعدهم بالعذاب بقوله {بل لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه ثم تهددهم مرة أخرى بقوله {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
فالفرق بين المقامين واضح فإن موقف الكفار من الرسول في ص أشد وكان تهديده وتوعده لهم أشد فقال في ص من قبلهم وقال في ق قبلهم فاتضح الفرق بين قوله {وكم أهلكنا قبلهم} {ومن قبلهم} وهناك أمر آخر حسن قولهم {قبلهم}
*******************
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (6/10).
فقد استهزأت أمم من قبلك برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبل زمانك أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك، وفعلوا مثل فعل قومك، فلست بأول رسول استهزئ به، ولا هم أول أمة استهزأت برسولها. وتنوينُ (رسل) للتفخيم والتكثير، و(من) ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل.
قال السمين الحلبي: ” مِنْ قبلك ” صفة لرسل، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع ” من قبل ” صلة [47].
*******************
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)(13/32).
قال الآلوسي: والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمر مطرد قد فعل برسل جليلة كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم.
قال الماتريدي: مِنْ قَبْلِكَ) من تقدم من الرسل، سألهم قومهم الآيات والعذاب بالهزء ابن عطية، هذه آية تأنيس للنبي عليه السلام، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما ترى من قومك وتلقى منهم، فليس ذلك ببدع ولا نكير، قد تقدم هذا في الأمم و «أمليت لهم » أي مددت المدة وأطلت.
*******************
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) [21: 41].
قال ابن عطية: ثم آنس تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بما جرى على سائر الأنبياء من استهزاء قومهم بهم وحلول العذاب بالمستهزئين.
قال الزمخشري: سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.
قال أبو حيان: ولما تقدم قوله {إن يتخذونك إلاّ هزواً} سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم”.
قال أبو السعود: وتنوينُ الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقةٌ بمحذوف هو صفة له، أي وبالله لقد استُهزئ برسل أولي شأنٍ خطير وذوي عددٍ كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامه.
*******************
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)13: 38)
قال الطباطبائي و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: {و لقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية.
الفخر الرازي فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله: {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضا مثله في حقه قال الزمخشري: كانوا يعيبونه بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، وكانوا يقترحون عليه الآيات، وينكرون النسخ فقيل: كان الرسل قبله بشراً مثله ذوي أزواج وذرية
*******************
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 6/28)
قال ابن القيم: فمعنى الآية والله أعلم بما أراد من كلامه أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها تمنوا أنهم يردون الى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ولا يكذبون رسله فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك وأنهم ليس في طبائعهم وسجاياهم الايمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا
فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الاضراب ببل وتبين معنى الذي بدا لهم والذي كانوا يخفونه والحامل لهم على قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، فالقوم كانوا يعلمون أنهم كانوا في الدنيا على باطل وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله وتيقنوا ذلك وتحققوه ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم بل تواصوا بكتمانه فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والايمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه من علمهم أنهم على باطل وأن الرسل على الحق فعاينوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان و لعادوا الى الكفر والتكذيب فإنهم لم يتمنوا الايمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق وأن الشرك باطل وانما تمنوا لما عاينوا العذاب الذى لا طاقة لهم باحتماله وهذا كمن كان يخفى محبة شخص ومعاشرته وهو يعلم أن حبه باطل وأن الرشد في عدوله عنه فقيل له ان اطلع عليه وليه عاقبك وهو يعلم ذلك ويكابر ويقول بل محبته ومعاشرته هي الصواب فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفى قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة بل بعد أن مسته وأنهكته فظهر له عند العقوبة ما كان يخفى من معرفته بخطئه وصواب ما نهاه عنه ولو رد لعاد لما نهى عنه وتأمل مطابقة الاضراب لهذا المعنى وهو نفى قولهم انا لو رددنا لآمنا وصدقنا لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق أي ليس كذلك بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه وكنتم تخفونه فلم يظهر لكم شيء لتكونوا عالمين به لتعذروا بل ظهر لكم ما كان معلوما وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه والله أعلم
الطبري مِنْ قَبْلُ ذلك في الدنيا، فظهرت. الطبرسي أحدها: إن معناه بل بدا لبعضهم من بعض ما كان علماؤهم يخفونه عن جهالهم وضعفائهم، مما في كتبهم، فبدا للضعفاء عنادهم.
قال ابن كثير: ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت 14 به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ} الآية [الإسراء: 102]. قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
*******************
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (6/34)
ولقد كذبت الأمم الخالية رسلهم أرسلتهم إلى أممهم فنالوهم بمكروه، فصبروا كما كذبك قومك
قال أبو حيان: سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر،
قال أبو السعود: وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ من قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين، وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأَذِيَّة، وعِدَةٌ ضِمْنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر. وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ (رسلٌ) للتفخيم والتكثير، و(من) إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوفٍ وقع صفةً (لرسلٌ) أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك.
ابن عاشور {من قبلك} وصف كاشف لِ {رُسل} جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل.
******************
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام: 42](6/42).
من للابتداء المراد به الاستيعاب وفيها التأكيد وأنه مألوف وقد اقتصر بعض العلماء على الابتداء وبعضهم على التأكيد بجعلها زائدة.
الطبري يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء العادلين به الأصنام، ومحذّرهم أن يسلك بهم إن هم تمادوا في ضلالهم سبيل من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا، ومخبرا نبيه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل: وَلَقَدْ أرْسَلْنا يا محمد إلى أُمَمٍ يعني: إلى جماعات وقرون
قال البيضاوي{ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} أي قبلك، ومن زائدة.
قال الشهاب: وأمّا دخول من زائدة على الظروف في الإثبات فذهب إلى جوازه كثير من النحاة وارتضوه كما في شرح التسهيل وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس.
قال القونوي: (أي قبلك ومن زائدة) وفي مغني اللبيب وزعم ابن مالك أن من الداخلة على قبل وبعد زائدة وذلك مبني على قول الأخفش في عدم اشتراط النفي لزيادتها انتهى واختاره المصنف هنا وفي بعض المواضع اختار قول الجمهور من أنها لابتداء الغاية كما ه عادته من أن بعض اللطائف تذكر في موضع وبعضها في موضع آخر تنشيطا للسامع وترغيبا للطالب
قال الجلال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَم مِنْ} زَائِدَة {قَبْلك}
قال الآلوسي و {مِنْ} ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناءً على جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلاً إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك
قال اطفيش – التيسير {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} رسلا {إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وكفروا وكذبوهم فلا تضجر من كفر قومك فإِن هذه عادة الأُمم مع رسلهم، ومن للابتداء، وقال ابن مالك: زائدة، يعنى أَن هذا من المواضع التى وردت فيها زائدة من فى الإِثبات ولو مع معرفة.
******************
(تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [16: 63]
قال الفخر الرازي: ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وهذا يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات.
قال القرطبي: هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن من تقدمه من الأنبياء قد كفر بهم قومهم.
قال ابن عاشور: استئناف ابتدائي داخل في الكلام الاعتراضي قصد منه تنظير حال المشركين المتحدث عنهم وكفرهم في سوء أعمالهم وأحكامهم بحال الأمم الضالّة من قبلهم الذين استهواهم الشيطان من الأمم البائدة مثل عاد وثمود، والحاضرة كاليهود والنصارى.
******************
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) 6/148)
قال الطبري: كذلكَ كَذّبَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يقول: كما كذّب هؤلاء المشركون يا محمد ما جئتهم به من الحقّ والبيان، كذّب من قبلهم من فَسقة الأمم الذين طغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه، وردّوا عليهم نصائحهم.
قال أبو السعود: {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثلَ ما كذّبك هؤلاءِ في أنه تعالى منَع من الشرك ولم يحرِّم ما حرموه كذّب متقدِّموهم الرسلَ،
قال أبو زهرة -كهذا القول الذي سيقوله الذين أشركوا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الذين سبقوهم بالشرك من قبلهم فالشر مسلسل فيهم قد ما داموا قد غووا، والكفر كله ملة واحدة في التفكير واستيلاء الهوى
******************
(تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ) [7/ 101]
قال أبو حيان: {فما كانوا ليؤمنوا} بعد المعجزات {بما كذبوا} به قبلها كما قال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}
قال أبو السعود -ثم إن كان المحكيُ عنهم آخرَ حالِ كلِّ قوم منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور هاهنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت الإصرارِ والعناد، وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيّنٌ بنفسه، وإنما المحتاجُ إلى البيان عدمُ إيمانِهم بعد تواترِ البينات الظاهرةِ وتظاهُر المعجزاتِ الباهرةِ التي كانت تَضْطرُّهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقولِ، والموصولُ الذي تعلق به الإيمانُ والتكذيبُ سلباً وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها.
قال رشيد رضا: -فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات بما كانوا كذبوا به من قبل مجيئها عند بدء الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي.
قال سيد قطب: فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين الى الإيمان. وليس البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا.
قال سيد طنطاوي: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات من رسلهم بما كانوا قد كذبوا به قبل رؤيتها منهم، لأنهم لجحودهم وعنادهم تحجرت قلوبهم، واستوت عندهم الحالتان: حالة مجىء الرسل بالمعجزات وحالة عدم مجيئتهم بها.

******************
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}(10/74)
قال ابن عاشور: وصيغ النفي بصيغة لام الجحود مبالغة في انتفاء الإيمان عنهم بأقصى أحوال الانتفاء. حتى كأنهم لم يوجدوا لأن يؤمنوا بما كذبوا به، أي لم يتزحزحوا عنه. ودلت صيغة الجحود على أن الرسل حاولوا إيمانهم محاولة متكررة. ودل قوله: {بما كذبوا به من قبل} أن هنالك تكذيباً بادروا به لرسلهم، وأنهم لم يقلعوا عن تكذيبهم الذي قابلوا به الرسل، لأن التكذيب إنما يكون لخبرِ مخبر فقوله: {فجاءهم بالبينات} مؤذن بحصول التكذيب فلما كذبوهم جاؤوهم بالبينات على صدقهم فاستمروا على التكذيب فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل. وهذا من إيجاز الحذف لجمل كثيرة. وهذا يقتضي تكرر الدعوة وتكرر البينات وإلا لما كان لقوله: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} وقع لأن التكذيب الذي حصل أول مرة إذا لم يطرأ عليه ما من شأنه أن يقلعه كان تكذيباً واحداً منسياً. وهذا من بلاغة معاني القرآن.
وبذلك يظهر وقع قوله عقبه {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} فان الطبع مؤذن بأن قلوبهم قد ورد عليها ما لو خلت عند وروده عن الطبع عليها لكان شأنه أن يصل بهم إلى الإيمان، ولكن الطبع على قلوبهم حال دون تأثير البينات في قلوبهم.
******************

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (9/ 69]
لما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب: {كالذين} أي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين.
******************
{لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9/70).
قال أبو حيان: لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام، نصّ على طوائف بأعيانها ستة، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء: نوح أول الرسل، وابراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدّة وكثرة المال والولد.
قال الطبرسي: أي: خبر من كان قبلهم (قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين): ذكر سبحانه الأمم الماضية، والقرون السالفة، وانه سبحانه أهلكها، ودمر عليها، لتكذيبها رسلها، لئلا يأمنوا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، فأهلك سبحانه قوم نوح بالغرق، وعادا قوم هود بالريح الصرصر، وثمود قوم صالح بالرجفة.
******************
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)}(10/13)
من قبل زمانِكم، أقسم الله تعالى في هذه الاية أنه اهلك من كان قبل هذه الامة من القرون
قال الواحدي: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم} يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية القرطبي: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ” يعني الأمم الماضية من قبل أهل مكة أهلكناهم.
اطفيش – التيسير {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} كقوم نوح وعاد وثمود. والقرن هنا أَهل كل زمان مأْخوذ من الاقتران، فكل أَهل زمان مقترنون فى أَعمالهم وأَحوالهم
******************
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)10/ 39
قال الطبري كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم.
قال ابن عطية {الذين من قبلهم} يريد من سلف من أمم الأنبياء.
******************
{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)}(10/102).
قال ابن عطية: هذه سنة الله في الأمم الخالية، فهل عند هؤلاء غير ذلك قال الطبري: الذي حلّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربهم سبيلهم: فهل ينتظر يا محمد هؤلاء المشركون من قومك المكذّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يوما يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب الذين مضوا قبلهم فخلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود
قال ا لخازن يعني من مضى من قبلهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل قال قتادة يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود.
قال المراغي: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم محذّرا مشركي قومه من حلول عاجل نقمة ربهم بهم وقد حل بمن قبلهم من سائر الأمم الخالية التي سلكت في تكذيب رسله وجحودهم مسلكهم: هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون بما جئتهم به من عند الله تعالى إلا يوما يعانون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذين كانوا على مثل ما هم عليه من الشرك والتكذيب.
******************
(فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(11/ 116).
فهو تعجيب وتوبيخ لهؤلاء الذين سلكوا سبيل من كان قبلهم في الفساد نحو عاد وثمود، وسائر القرون الذين مر ذكرهم في القرآن، وأخبر الله بهلاكها ” ابن عطية {القرون من قبلكم} هم قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره
قال رشيد رضا هذه الآيات الثلاث في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم جاءت بعدما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة، وإنذار قومه صلى الله عليه وسلم بهم، وما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح، واجتناب أهل الظلم والفساد.
******************
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) 9/48]
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتغاء الفتنة كان في جميع مدة القبل مع التأكيد،أي قبل تبوك ابتغوا الفتنة وطلبوا لك الشر والعنت، إشارة إلى أن هذا قد حصل منهم ثم انعكس قصدهم، كما قبل هذه الغزوة في يوم أحد بكسر قلوب العسكر بالرجوع عنه حتى كاد بعضهم أن يفشل وفي المريسيع بما قال ابن أبيّ {ليخرجن الأعز منها الأذل} وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من التكذيب في أخذ كنوز كسرى وقيصر والإرجاف بكم في نقض بني قريظة وغير ذلك فعكس فيها قصودهم.
قال رشيد رضا: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} أي تالله لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين من قبل هذا العهد عهد غزوة تبوك وأوله ما كان في غزوة أحد {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [آل عمران: 122].
******************
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) (11/78).
لابتداء الغاية والاستيعاب والتأكيد في جميع فترة القبل كانوا يعملون، قبل هذا المجئ ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون السيئات الكثيرة وشرها أفظع الفاحشة، فضروا بها ومرنوا عليها حتى زال عندهم استقباحها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء فجاءوا إلى الأضياف لذلك، فهو يعرف ما يريدون، وكأنهم كانوا لا يدعون مليحاً ولا غيره من الغرباء،
قال الزمخشري: ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء.
قال ابن عطية: وقوله: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعاً قال أبو حيان – ومن قبل كانوا يعملون السيآت أي: كان ذلك ديدنهم وعادتهم، أصروا على ذلك ومرنوا عليه، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية، جاؤا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها، والتقدير في ومن قبل أي: من قبل مجيئهم.
قال رشيد رضا: ومن قبل هذا المجيء كأن يعملون السيئات الكثيرة وشرها أفظع الفاحشة وأنكر في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل، يتسابقون إليها ويتبارون فيها، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة.
******************
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}(11/109).
في جميع فترة القبل لابتداء الغاية والاستيعاب والتأكيد، مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالين أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم تنصيصاً على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم. ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل} أي أنهم مقلدون، وليسوا بمفكرين ولا بمهتدين ولذا كانوا يقولون لأنبيائهم
قال ابن عاشور: وعبّر عن عبادة الآباء بالمضارع للدّلالة على استمرارهم على تلك العبادة، أي إلاّ كما اعتاد آباؤُهم عبادتهم. والقرينة على المضي قوله: {من قبلُ}، فكأنّه قيل: إلاّ كما كان يعبد آباؤهم. والمضاف إليه {قَبْلُ} محذوف تقديره: من قبلهم، تنصيصاً على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم.
قال أبو زهرة:{ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل} أي أنهم مقلدون، وليسوا بمفكرين ولا بمهتدين ولذا كانوا يقولون لأنبيائهم
قال سيد طنطاوي: وجملة {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} مستأنفة، لبيان أن الخلف قد ساروا فى الجهالة والجحود على طريقة السلف.
وعبر عن عبادة الآباء بالمضارع، مع أنها كانت فى الماضى بقرينة {مِّن قَبْلُ}. للدلالة على استمرارهم على هذه العبادة الباطلة حتى موتهم، وأن أبناءهم لم ينقطعوا عنها، بل واصلوا السير على طريق آبائهم الضالين بدون تفكر أو تدبر.
والمضاف إليه فى قوله {مِّن قَبْلُ} محذوف، والتقدير: من قبلهم
*****************
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [13: 42].
قال الفخر الرازي: أما قوله: {وقد مكر الذين من قبلهم} يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى [48].
قال أبو حيان: ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش، وأنّ ذلك عادة المكذبين للرسل، مكر بابراهيم نمروذ، وبموسى فرعون، وبعيسى اليهود، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله له تعالى.
*****************
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [14: 9].
قال الخازن: والمقصود منه أنه عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأمر القرون الماضية والأمم الخالية والمقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم.
قال أبو السعود: ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيُقلعوا عما هم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى {وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف عليه و قال سيد قطب: ويستمر موسى في بيانه وتذكيره لقومه. ولكنه يتوارى عن المشهد لتبرز المعركة الكبرى بين أمة الأنبياء والجاهليات المكذبة بالرسل والرسالات. وذلك من بدائع الأداء في القرآن، لإحياء المشاهد، ونقلها من حكاية تروى إلى مشهد ينظر ويسمع، وتتحرك فيه الشخوص، وتتجلى فيه السمات والانفعالات
والآن إلى الساحة الكبرى التي يتلاشى فيها الزمان والمكان.

*****************
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ) [15: 10]
قال الخازن – قوله سبحانه وتعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} لما تجرأ كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم: إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال السمعاني: الشيعة: هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم، ومعناه هاهنا: في أمم الأولين.
قالالزمخشري: {فِى شِيَعِ الأولين} في فرقهم وطوائفهم.
قال ابن عاشور: وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقرّر عند الأمم ومتحدِّث به بينهم، وفيه أيضاً تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام.
والتأكيد بلام القسم و (قَد) لتحقيق سبق الإرسال من الله، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} [سورة يونس: 2]. وذلك مقتضى موقع قوله: {من قبلك}.
*****************
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [16: 26]
قال السامرائي: فإذا كان السياق ممتدا يأتي بـ (من)، ففي سورة النحل قال تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ {26}) كل الآيات فيها (من) لأن الحديث كله عن سلسلة الأنبياء (مستمرة) فهو خط واحد من الأول إلى الآخر
قال ابن عطية: وقالت فرقة أخرى: المراد ب {الذين من قبلهم} جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى قال الفخر الرازي: وفي المراد بالذين من قبلهم قولان:
والقول الثاني: وهو الأصح، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين
قال أبو السعود: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} وعيدٌ لهم برجوع غائلة مكرِهم إلى أنفسهم كدأب مَنْ قبلهم من الأمم الخاليةِ الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجلِ، أي قد سوَّوا منصوباتٍ ليمكروا بها رسلَ الله تعالى
قال ابن عاشور، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم فرعون، قال تعالى في قوم صالح: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً} [سورة النحل: 50] الآية، وقال: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [سورة الأنعام: 123]. فالتعريف بالموصول في قوله تعالى: {الذين من قبلهم} مساوٍ للتعريف بلام الجنس.
*****************
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [16: 33].
مثل هذا الفعل الشنيع الذى صدر عن الكافرين من قومك – كذب {الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم الخالية كقوم نوح وقوم هود، وقوم صالح، كما كذبك قومك، فأهلكهم الله تعالى، أخبر سبحانه ان الذين مضوا من الكفار، فعلوا مثل ما فعل هؤلاء من تكذيب الرسل، وجحد التوحيد، فأهلكهم الله فما الذي يؤمن هؤلاء من أن يهلكهم الله.
*****************
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)16/ 35]
قال الآلوسي: {كذلك} أي مثل ذلك الفعل الشنيع {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق
قال ابن عاشور: والمقصود: أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضياً لله لما أهلكهم، فهلا استدلّوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.
قال أبو زهرة: وهنا إشارات بيانية ترجع التخريج الأول ونشير إليها:
الأولى – في قوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم}، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل: وكذلك قال الذين من قبلكم، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء، وبذلك يترجح التخريج الأول أو الثاني ولا يترجح الأخير.
*****************
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(10/16).
لابتداء الغاية والاستيعاب والتأكيد فقد لبتثت عمرا طويلا ودهراً مديداً مقدارَ أربعين سنةً من قبل نزول القرآن لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشفُ عن أسرار الحقائقِ وأحكامِ الشرائع ولم أتكلم بشيء قبل تلاوته، وقبل درايتكم به، وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني ثم قرأت عليكم كتابا بزت فصاحته كل منطيق وعلا من كل منثور ومنظوم،، وأولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت
قال الفخر الرازي: وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتابا ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى.

*****************

(لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (23/83)
فيها بيان الاستيعاب مع بيان أنه مألوف متقادم معهود وليس ببدع.
من قبل، متعلق بقوله: {وعدنا} في ذكره زيادة في الاستبعاد، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد، ولم يقع منه شيء و ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا، فذلك دليل على أنه لا حقيقة كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه عليه الصلاة والسلام فقد وقع قديما من الأنبياء، ثم لم يوجد مع طول العهد وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم،
والمعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن وآباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها ونظمها الأناسي الأولون في صورة إحياء الأموات وحساب الأعمال والجنة والنار والثواب والعقاب والأساطير: ما سطّره الأوّلون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة [49]، و الدليل على كونها أساطير أن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوفوننا بقيام الساعة ولو كان حقا غير خرافي لوقع، و من هنا يظهر أولا أن قولهم: {من قبل} لتمهيد الحجة على قولهم بعده {إن هذا إلا أساطير الأولين} [50].
*****************
(لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (27/68)
يقال في هذه الآية ما قيل في الآية السابقة.
*****************
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (22//78)
الذي سمانا مسلمين من قبل نزول القرآن وفي القرآن الله سبحانه وتعالى
ومعنى (مِنْ قَبْلُ) من قبل نزول هذا القرآن في سائر الكتب التي نزلت قبله في الأزمنة السابقة المتقدمة في سالف الدهر وقديم الزمان فنوّه بذكركم والثناء عليكم في سالف الدهر وقديم الزمان فكتب ثناءه في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان وغيرهم.
ومعنى (في هَذَا): وَفِي هَذَا الكِتابِ وهو القرآن. الذي أنزل عليكم من بعد إنزال تلك الكتب.
الطبري وابن عباس ومجاهد والبغوي والرازي والبيضاوي والبقاعي.

*****************
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) [الروم [30: 42]
فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله أمر بالاعتبار بمن سلف من الأمم، كقوم نوح ولوط وشعيب وعاد وثمود وغيرهم من القرون العاصية، كيف أهلكهم الله، وكيف صارت قصورهم قبورهم، ومحاضرهم مقابرهم، فلم يبق لهم عين ولا اثر، ثم بين أنه فعل ذلك بهم بسبب معاصيهم وإشراكهم ولسوء صنيعهم، وأشار إلى استغراق ديار المهلكين كل حد ما حولهم من الجهات كما سلف فقال: {في الأرض} فإن سيركم الماضي لكونه لم يصحبه عبرة عدم.
*****************
(مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب[33: 38]
السنة الطريقة المعتادة
اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ المؤكد لقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} كأنه قيل: سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره سن الله له سنة واسعة لا حرج عليه فيها كما أحل لداوود فنكح مائة امرأة وأحل لسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرّية فكذلك لا حرج على النبي في نيل ما فرض الله له وأباحه من تزويج زينب بعد زيد.،
{خلوا من قبل} يدل على العموم وأنها سنة مطردة من أقدم عصور راسخة فيما مضى ففائدة هذا الوصف الدلالة على اطرادها وثباتها فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس، وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل.

*****************
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا)(33: 62).
هذه سنته سن في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون أن يفعل بهم هذا إذا لم يرجعوا عما هم فيه، أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم ويقتلونهم، هكذا سنة الله فيهم إذا أظهروا النفاق، فهذا ليس بدعا بكم بل هو سنة جارية وعادة مستمرة تفعل بالمكذبين.
و {الذين خلوا} الذين مَضَوا وتقدموا يشمل {الذين خلوا} المنافقين من الأمم السابقة السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى.
*****************
(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا) [48: 23]
سن غلبة أنبيائه وجنده سنة قديمة فيمن مضى من الأمم في مختلف الأمم والعصور وهي سنة دائمة لا تتبدل أي سنة الله وعادته في خلقه جارية في خذلانه أهل الكفر أعداءه، ونصرة أهل الايمان أوليائه في ما مضى من الامم السالفة.
*****************
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} (34/ 54).
في الآية قولان:
القول الأول: المراد في الدنيا عندما أهلكوا أو ماتوا حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بجميع الكفرة في جميع الفترة الماضية، ويناسبه التعبير بيشتهون [51]، وتكرار هذا واطراده
البقاعي وابن عاشور والسعدي والطباطبائي والشيرازي في الأمثل [52]
قال السعدي: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} من الشهوات واللذات، والأولاد، والأموال، والخدم، والجنود، قد انفردوا بأعمالهم، وجاءوا فرادى، كما خلقوا، وتركوا ما خولوا، وراء ظهورهم، {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} من الأمم السابقين، حين جاءهم الهلاك، حيل بينهم وبين ما يشتهون قال البقاعي: {بأشياعهم} أي الذين كفروا مثلهم {من قبل} أي قبل زمانهم فإن حالهم كان 35 كحالهم في الكفران والإيمان، والسعادة والخسران، ولم يختل أمرنا في أمة من الأمم، بل كان كلما كذبت أمة رسولها أخذناها، فإذا أذقناهم بأسنا أذعنوا وخضعوا، فلم نقبل منهم ذلك، ولا نفعهم شيئاً لا بالكف عن إهلاكهم ولا بإدراكهم لشيء من الخير بعد إهلاكهم. ابن عاشور: والتشبيه في قوله: {كما فعل بأشياعهم من قبل} تشبيه للحيلولة بحيلولة أخرى وهي الحيلولة بين بعض الأمم وبين الإِمهال حين حلّ بهم عذاب الدنيا، مثل فرعون وقومه إذ قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [يونس: 90]، وكذلك قوم نوح حين رأوا الطوفان، وما من أمة حلّ بها عذاب إلا وتمنّت الإِيمان حينئذٍ فلم ينفعهم إلاّ قوم يونس.
والأشياع: المشابهون في النحلة وإن كانوا سالفين. وأصل المشايعة المتابعة في العمل والحلف ونحوه، ثم أطلقت هنا على مطلق المماثلة على سبيل المجاز المرسل بقرينة قوله: {من قبل}، أي كما فعل بأمثالهم في الدنيا من قبل، وأما يوم الحشر فإنما يحال بينهم وبين ما يشتهون وكذلك أشياعهم في وقت واحد.
وفائدة هذا التشبيه تذكير الأحياء منهم وهم مشركو أهل مكة بما حل بالأمم من قبلهم ليُوقنوا أن سنة الله واحدة وأنهم لا تنفعهم أصنامهم التي زعموها شفعاء عند الله. الطبري
وقوله: كمَا فُعِلَ بأشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ يقول فعلنا بهؤلاء المشركين، فحلنا بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان بالله عند نزول سَخَط الله بهم، ومعاينتهم بأسه كما فعلنا بأشياعهم على كفرهم بالله من قبلهم من كفار الأمم، فلم نقبل منهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما لم نقبل في مثل ذلك الوقت من ضُرَبائهم
القول الثاني: أن هذا في الآخرة أي حيل بينهم وبين النجاة من العذاب، ومنعوا من ذلك
الواحدي وابن عطية والشوكاني وكثير من المفسرين.
قال الواحدي -{وحيل بينهم} منعوا مما يشتهون من التوبة والإيمان والرجوع إلى الدنيا {كما فعل بأشياعهم} ممن كانوا على مثل دأبهم من تكذيب الرسل قبلهم حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة ابن عطية – {بأشياعهم} أي بمن اتصف بصفتهم من قبل في الزمن الأول، لأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد. لا يقال فيه {من قبل} أبو حيان -و {من قبل}: يصح أن يكون متعلقاً {بأشياعهم}، أي من اتصف بصفتهم من قبل، أي في الزمان الأول، ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا.
*****************
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [22: 52].
قال الطبري: فتأويل الكلام: ولم يرسل يا محمد مَنْ قَبْلك من رسول إلى أمة من الأمم ولا نبيّ محدّث ليس بمرسل، إلا إذا تمنى قال في درة التنزيل: 117 الآية الثانية:
فإن قال: فقد جيء بـ(من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ(من) قلت: القصد بـ(من) في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفى عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.
أبو حيان {من قبلك} {من} فيه لابتداء الغاية و {من} في {من رسول} زائدة تفيد استغراق الجنس.
قال الآلوسي: «من » الأولى ابتدائية، والثانية مزيدة لاستغراق الجنس
قال ابن عاشور: فقوله: {من رسول ولا نبيء} نص في العموم، فأفاد أنّ ذلك لم يعدُ أحداً من الأنبياء والرسل.
*****************
(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [39: 65]
قال ابن عاشور:) فَالْمُرَادُ الْقَبْلِيَّةُ فِي صِفَةِ النُّبُوءَةِ فَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مُرَادٌ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ.. ابن عطية وقالت فرقة: الآية على وجهها، المعنى: «ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك » الفخر الرازي
السؤال الأول: كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ والجواب تقدير الآية: أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت، كما تقول كسانا حلة أي كل واحد منا.
*****************
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)30: 47]
قال ابن كثير: هذه تسلية من الله لعبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه 4، بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس، فقد كُذّبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل الواضحات
قال أبو السعود: كما أرسلناك إلى قومِك {فَجَاؤُهُم بالبينات} أي جاء كلُّ رسول قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك ابن سعدي {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} في الأمم السابقين.
*****************
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ) [40: 78]
قال الفخر الرازي: والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا،
قال الآلوسي: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً} ذوي خطر وكثرة {مِن قَبْلِكَ} من قبل إرسالك.
قال سيد قطب: إن لهذا الأمر سوابق كثيرة، قص الله على رسوله بعضها في هذا الكتاب، وبعضها لم يقصصه. وفيما قصه من أمر الرسل ما يشير إلى الطريق الطويل الواصل الواضح المعالم؛ وما يقرر السنة الماضية الجارية التي لا تتخلف؛ وما يوضح حقيقة الرسالة ووظيفة الرسل وحدودها أدق إيضاح، وتؤكد الآية حقيقة تحتاج إلى توكيدها في النفس، وتتكئ عليها لتقررها تقريراً شديداً
قال ابن عاشور: فالمقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أنْ يأتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بإذْنِ الله} وأما قوله: {وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ} الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلاً من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون: {ما أنزل اللَّه على بشر من شيء} [الأنعام: 91] ويقولون: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] فدُمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة.
وقد بعث الله رسلاً وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يعلمه بهم إذ لا كمال في الإِعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من قصّهُ في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم بوحي غير القرآن فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث: « أن الله بعث نبيئاً اسمه عَبُّود عبداً أسودالطباطبائي
فقوله: {و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} مسوق للإشارة إلى كون ما سيذكره سنة جارية منه تعالى
*****************
(مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) [41: 43].
{ما يقال لك} أي: ما يقول لك كفار قومك إلا إلا مثل ما قد قيل ولقي به جميع من تقدمك من الرسل من الكلمات المؤذية والمطاعن، هذه سنة الأنبياء مع أممهم فلتتأسَّ بهم ولتمض لأمر الله ولا يهمنك شأنهم. ما قال للرسل كفار قومهم، فكما قد كذبت فقد كذبوا، وكما صبروا على أذى قومهم لهم، فاصبر أنت على أذى قومك لك،إنه وحي واحد، ورسالة واحدة، وعقيدة واحدة. وإنه كذلك استقبال واحد من البشرية، وتكذيب واحد، واعتراضات واحدة.. ثم هي بعد ذلك وشيجة واحدة، وشجرة واحدة، وأسرة واحدة، وآلام واحدة، وتجارب واحدة، وهدف في نهاية الأمر واحد، وطريق واصل ممدود.
*****************
(كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [42: 3]
مألوف وسنة وتعميم
قال الزمخشري – وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى: أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده من الأوّلين والآخرين ـ ـ ـ وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته
قال أبو السعود – وقولُه تعالَى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتحقيق أنَّ مضمونَ السورةِ موافقٌ لما في تضاعيفِ سائرِ الكتبِ المنزَّلةِ على الرسلِ المتقدمةِ في الدعوةِ إلى التوحيدِ والإرشادِ إلى الحقِّ أو أنَّ إيحاءَهَا مثلُ إيحائِها بعدَ تنويهِها بذكرِ اسمِها والتنبيه على فخامةِ شأنها.
الآلوسي وقوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإلى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها.
*****************
(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [43: 23]
قال البيضاوي: تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه، وتخصيص المترفين إشعار بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
قال ابن كثير: ثم بين تعالى أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل، تشابهت قلوبهم، فقالوا مثل مقالتهم.
البقاعي
ولما كانت مقالة قريش قد تقدمت والمراد التسلية بغيرهم، وكان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فلا أمة لغيره في زمانه ولا بعده يسليه بها، سلاه بمن مضى، وقدم ذكر القبلية اهتماماً بالتسلية وتخليصاً لها من أن يتوهم أنه يكون معه في زمانه أو بعده نذير، وإفهاماً لأن المجدد لشريعته إنما يكون مغيثاً لأمته وبشيراً لا نذيراً لثباتهم على الدين بتصديقهم جميع النبيين فقال تعالى: {من قبلك} أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في ” سبأ ” لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم
قال ابن عاشور: جملة معترضة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تمسك المشركين بدين آبائهم والإشارة إلى المذكور من قولهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ} [الزخرف: 22]، أي ومثل قولِهم ذلك، قال المترفون من أهل القُرى المرسل إليهم الرسل من قبلك.
والواو للعطف أو للاعتراض وما الواو الاعتراضية في الحقيقة إلا تعطف الجملة المعترضة على الجملة التي قبلها عطفاً لفظياً.
والمقصود أن هذه شنشنة أهل الضلال من السابقين واللاحقين، قد استووا فيه كما استووا في مَثاره وهو النظر القاصر المخطىء.
*******************
(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [43: 45]
قال الزمخشري: ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظراً وفحصاً: نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً. وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، والسؤال الواقع مجازاً عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة: كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال. وقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجني ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم. وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل.
قال ابن كثير: وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
قال أبو السعود: والمرادُ به الاستشهادُ بإجماعِ الأنبياءِ على التوحيدِ، والتنبيهُ على أنَّه ليسَ بِبدْعٍ ابتدعَهُ حتى يكذّبَ ويُعادَى.
قال ابن عاشور: و {مِنْ} في قوله: {من قبلك} لتأكيد اتصال الظرف بعامله.
قال سيد قطب: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ?).. والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول. فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون ?والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة.. صورة الرسول [صلى الله عليه وسلم] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية: (أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ?)وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول. وهي صورة طريفة حقاً. وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب.
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [صلى الله عليه وسلم] والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان.. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين.. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب.. على أنه بالقياس إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب. فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار. حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويجاب، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج.
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره، حين نهتدي إلى طرف من قانونه.
****************
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [28: 78]
ان الله قد أهلك من قبله من القرون من هو اشد منه قوة واكثر جمعا للمال واكتنازه ” كقوم عاد، وثمود، وقوم لوط وغيرهم، فما المانع من إهلاك قارون، مع مُضِيِّ عادتنا وسنتنا بإهلاك من هو مثله وأعظم، إذ فعل ما يوجب الهلاك؟. فإن كان ذا قوة وذا مال، فقد أهلك الله من قبله أجيالا كانت أشد منه قوة وأكثر مالا. وكان عليه أن يعلم هذا. فهذا هو العلم المنجي. فليعلم. وليعلم أنه هو وأمثاله من المجرمين أهون على الله حتى من أن يسألهم عن ذنوبهم. فليسوا هم الحكم ولا الأشهاد[53]!
****************
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت 29: 3].
يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا الذين من قبلهم من الأمم يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر بالشدائد والمصائب،، كموسى إذا أرسلناه إلى بني إسرائيل، فابتليناهم بفرعون وملئهم، وكعيسى إذ أرسلناه إلى بني إسرائيل، فابتلَينا من اتبعه بمن توَلى عنه، فكذلك ابتلينا أتباعك بمخالفيك من أعدائك فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا منهم في قيلهم آمنا وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِين منهم في قيلهم ذلك، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار
قال البيضاوي: {ولقد فتنا الذين من قبلهم} متصل ب {أحسب} أو ب {لا يفتنون}، والمعنى أن ذلك سنة قديمة جارية في الأمم كلها فلا ينبغي أن يتوقع خلافه.
قال أبو السعود: والمعنى أنَّ ذلك سنَّة قديمةٌ مبنية على الحكمِ البالغةِ جاريةٌ فيما بين الأممِ كلَّها فلا ينبغي أنْ يُتوقَّع خلافُها والمعنى أنّ الأممَ الماضيةَ قد أصابَهم من ضروبِ الفتنِ والمحنِ ما هو أشدُّ ممَّا أصاب هؤلاءِ فصبروا كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى [54]
****************
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [30: 9]
يقول تعالى ذكره: أَوَ لم يسر هؤلاء المكذّبون بالله، الغافلون عن الاَخرة من قريش في البلاد التي يسلكونها تجرا، فينظروا إلى آثار الله فيمن كان قبلهم من الأمم المكذّبة كعادٍ وثمودَ لوط وأمثالهم ا، و إلى مصارع الأمم قبلهم فيعتبروا، فقد كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم – أيها المبعوث إليهم محمد صلوات الله وسلامه عليهٍّ وأكثر أموالا وأولادا، وما أوتيتم معشار ما أوتوا، ومُكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليهأبو السعود – قَبْلِهِمْ} من الأممِ المهلكةِ [55]
*****************
(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) [32: 26]
أو لم يبين لهم كثرة إهلاكنا القرون الخالية من قبلهم مثلُ عادٍ وثمودٍ وقومِ لوطٍ، سنتنا فيمن سلك سبيلهم من الكفر بآياتنا، فيتعظوا وينزجروا ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي. وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها، وضعفها وقوتها. والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين، واطراد تلك السنن، ويتخذ من مصارع القرون، وآثار الماضين.
****************
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) [34: 45]
وكذّب الذين من قبلهم من الأممِ المتقدِّمة والقُرون الخاليةِ فأهلكتهم كثمود وعاد.، وفيه تسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة، وسيحل بهم ما حل بأولئك. قال البقاعي: والحال أنه قد كذب {الذين من قبلهم} أي من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر أبو السعود {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من كما كذَّبوا
****************
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (67/18)
مثلها كفار الأمم، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين، وأصحاب الرس وقوم فرعون أي من قبلِ كفارِ مكةَ من كفارِ الأممِ السَّالفةِ، كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهِم كذبوا كما كذبتم، فأهلكهم الله تعالى ويضرب لهم الأمثلة من واقع البشرية، ومن وقائع الغابرين المكذبين
****************
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) [39: 25]
كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين من قُريش من الأمم الماضية الذين مضوا في الدهور الخالية رسلهما. أي هم مظنة أن يأتيهم العذاب كما أتى العذابُ الذين مَن قبلهم إذ أتاهم العذاب في الدنيا بدون إنذار غيرَ مترقبين مجيئه،
وحملها البقاعي على القرب فقال: {كذب الذين} وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال: {من قبلهم} أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم: ابن عاشور على نحو قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، فكان عذاب الدنيا خزياً يخزي به الله من يشاء من الظالمين، وأما عذاب الآخرة فجزاء يَجزي به الله الظالمين على ظلمهم.

*****************
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [35: 44].
مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم التي كانوا يمرون مثل قوم لوط، وعاد، وثمود بها ألم نهلكهم ونخربْ مساكنهم ونجعلْهم مثلاً لمن بعدهم وهذه سنة من سنن الله تعالى، والأمور لا تمضي في الناس جزافاً؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة، ويعلمها للناس، كي لا ينظروا الأحداث فرادى، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة، محصورين في فترة قصيرة من الزمان، وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة، وسنن الوجود، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.
*****************
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [40: 21].
فيروا ما الذي كان خاتمة أمم الذين كانوا من قبلهم من الأمم الذين سلكوا سبيلهم كعاد وثمود وأضرابِهم، في الكفر بالله، وتكذيب رسله كانُوا هُمْ أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً يقول: كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشدّ منهم بطشا
*****************
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [40: 82]
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر من الأمم السالفة، كعاد، وثمود وغيرهم ممن كانوا أعظم منهم قوة وأكثر أموالاً وأشد آثارًا في الأرض من الأبنية الحصينة، والغراس الأنيقة، والزروع الكثيرة، وماذا حل بهم من العذاب الشديد، مع شدة قواهم، وما أَثّروه في الأرض، وجمعوه من الأموال
**************************
(قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [39: 50]
الطبري مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: الذي من قبل مشركي قُرَيش من الأمم الخالية لرسلها، تكذيبا منهم لهم، ابن الجوزي وفيهم قولان: أحدهما: أنهم الأمم الماضية، قاله السدي. والثاني: قارون، قاله مقاتل اطفيش – التيسير {الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم} قرون متقدمون، وهذا أيضا يدل على أن الانسان الجنس لقوله: ابن عاشور و {الذين من قبلهم} هم غير المتدينين ممن سلفوا ممن علمهم الله، ومنهم قارون وقد حكى عنه في سورة القصص أنه قال ذلك.
*****************
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
[64: 5].
*******************
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}(11/49)
لابتداء الغاية في أول أزمنة القبل أي من قبل إنزال القرآن، فما تحتها مع التأكيد والاستيعاب
نوحيها إليك نحن فنعرفكها، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها، فلم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها، حتى يقول من يكذبك: إنك تعلمتها منه، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك.
*******************
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}(2/91).
في جميع فترة القبل كان منكم القتل فهو أمر مألوف فمعاداة الأنبياء دأب لهم مع التأكيد
قال ابن عاشور: وقوله: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} كذب إذ لو كان حقاً لما قتل أسلافهم الأنبئاء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبئاء. أبو زهرة: فلم تقتلون أنبياء الله؟ أي الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى إليكم، وذكر الأنبياء مضافا إلى الله تعالى لإثبات جحودهم المطلق، وأنهم يعاندون أوامر الله تعالى سواء أكان من بعثه من ولد إسحاق أم كان من ولد إسماعيل، فقد قتلوا زكريا ويحيى، وهما من ولد إسحاق
وحملها البقاعي على التبعيض، البقاعي ثم بين أن كفرهم بهذا القتل إنما هو بطريق الرضى بقتل أسلافهم بقوله مثبتاً الجار لأن ذلك كان منهم في بعض الأزمان الماضية {من قبل}
القرطبي:فالخطاب لمن حضر محمدا صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم. وإنما توجه الخطاب لأبنائهم؛ لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا
*******************
(قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (5/77)
في الآية قولان أرجحهما الثاني
القول الأول:
ابتداء الغاية أي أن هذا مبتدأ من فترة القبل القريب بتصويره أنه حدث قريبا مع التأكيد، وللإشعار بأن ضلالهم سابق معهود مألوف وليس ببدع،، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم أي ولا تتبعوا أهواء أئمتهم و أسلافهم الذين ضلوا من الفريقين، أو من النصارى على القولين الذين قد ضلوا من قبل زمانكم عن سبيل الهدي في القول فيه أو قبل سيدنا محمد، فتقولون فيه كما قالوا: وتَبْهتوا أمه كما بيهتونها بالفرية، وهي صدّيقة
وقوله {من قبلُ} معناه من قبِلكِم.
القول الثاني: الاستيعاب والتأكيد وبيان أن ضلالهم عريق قديم معروف وهو الأرجح لأنه أشد ذما
ابن كثير وابو زهرة والطباطبائي
وقال ابن كثير: َمَا ذَاكَ إِلَّا لِاقْتِدَائِكُمْ بِشُيُوخِ الضَّلَالِ، الَّذِينَ هُمْ سَلَفُكُمْ مِمَّنْ ضَلَّ قَدِيمًا،
أبو زهرة: ولنتكلم في معنى النص الكريم، أن الله تعالى في علمه وحكمته ينهى أهل الكتاب عن الاستمرار في الاتباع لقوم قد ثبت ضلالهم قديما، وكانوا من قبل في ضلال بعيد، وهم عبدة الأوثان، ومن كان على شاكلتهم ممن اخترعوا آلها على هواهم لا على منطق استقاموا عليه، ولا على نور من السماء اهتدوا بهديه، وقد سلكوا مسلكهم، فادخلوا الوثنية في دينهم واتبعوا فلسفة ضالة مضلة.
وهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا بسبب ذلك أضلوا خلقا كثيرا، حتى شاع بينهم الانحراف عن الطريق، فكانت وثنية اليونان والرومان والفلاسفة هي التي أضلت خلقا كثيرا، فالضلال الاول هوضلال الوثنية من قبل وهي التي اضلت النصارى،والاضلال هو سيطرة ذلك على من سيطروا عليهم، والضلال الأخير هو عدم خضوعهم لحكم تفسيرها وهي عامة شاملة للمسلمين بطبيعة الحال.
قال الطباطبائي: وكذلك ظاهر السياق أن المراد بهم هم الوثنية وعبدة الأصنام فإن ظاهر السياق أن الخطاب إنما هو لجميع أهل الكتاب لا للمعاصرين منهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يكون نهيا لمتأخريهم عن اتباع متقدميهم.
ويؤيده بل يدل عليه قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}: [التوبة: 30].
فيكون ذلك حقيقة تحليلية تاريخية أشار إليها القرآن الكريم هي أن القول بالأبوة والبنوة مما تسرب إلى أهل الكتاب من قبل من تقدمهم من الوثنية، وقد تقدم في الكلام على قصص المسيح (عليه السلام) في سورة آل عمران في الجزء الثالث من الكتاب أن هذا القول في جملة من الأقوال والآراء موجود عند الوثنية البرهمنية والبوذية في الهند والصين، وكذلك مصر القديم وغيرهم، وإنما أخذ بالتسرب في الملة الكتابية بيد دعاتها، فظهر في زي الدين وكان الاسم لدين التوحيد والمسمى للوثنية.
قال البغوي: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي: رُؤَسَاءَ الضَّلَالَةِ مِنْ فَرِيقَيِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، والخطاب للذين كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُهُوا عَنِ اتِّبَاعِ أَسْلَافِهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ بِأَهْوَائِهِمْ
قال سيد طنطاوي: قل لهم أيضا: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ أى: ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أى: قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جريا وراء شهواتهم وأهوائهم
قال سيد قطب: فمن الغلو في تعظيم عيسى- عليه السلام- جاءت كل الانحرافات. ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح، فبلغه بأمانة الرسول، وهو يقول لهم: «يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم. إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار»..

*******************
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} 2/ 198
تفيد التعميم مع التأكيد وأنه في القبل القريب وما تحته كانوا ضالين، فنقلهم الله تعالى إلى الهداية وحولهم من الضلال للهداية ـ فتشير إلى النقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد، فاعرفوا نعمة الله عليكم
قال أبو زهرة:إن هنا هي المخففة من الثقيلة، أي إن حالكم أنكم كنتم من قبل هدايته من زمرة الضالين وجماعتهم، فاعرفوا ماضيكم من حاضر أولئك الذين ما زالوا على ضلالهم ووازنوا بين حالكم وحالهم، فإن تلك الموازنة تريكم نعمة ربكم عليكم، وتريكم حالكم كما كنتم من قبل، ولذا عبر عن حالهم الماضية بالوصف إذ قال:[و إن كنتم من قبله لن الضالين]أي من هذه الزمرة الضالة التي ترون حالها، ولم يقل إنكم ضللتم من قبل.
قال الزمخشري: {وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ} من قبل الهدى {لَمِنَ الضالين} الجاهلين، لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه. وإِن هي مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة

********************
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)}(3/164).
تفيد التعميم مع التأكيد وأنهم في جميع مدة القبل كانوا في ضلال مبين، فنقلهم الله تعالى إلى الهداية وحولهم من الضلال المبين والجهالة الجهلاء للهداية ـ ـ فتشير إلى النقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد، فاعرفوا نعمة الله عليكم، لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان وقعها أعظم، فإذا كان وجه النعمة العلم والإعلام، عقيب الجهل والذهاب عن الدين، كان أعظم ونظيره قوله: {ووجدك ضالا فهدى}.
سيد قطب: ثم.. الإشارة إلى آثار هذه المنة في حياة الأمة المسلمة (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).. وهي تشي بالنقلة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن عهد إلى عهد. فتشعر الأمة المسلمة بما وراء هذه النقلة من قدر الله الذي يريد بهذه الأمة أمرا ضخما في تاريخ الأرض، وفي حياة البشر، والذي يعدها لهذا الأمر الضخم بإرسال الرسول [ص] فما ينبغي لأمة هذا شأنها، أن تشغل بالها بالغنائم التي تبدو تافهة زهيدة في ظل هذا الهدف الضخم، ولا أن تجزع من التضحيات والآلام، التي تبدو هينة يسيرة في ظل هذه الغاية الكبيرة..
وحملها البقاعي على التبعيض:
البقاعي ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال 28 {29 من قبل 30} أي من قبل ذلك
*******************
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (12/ 3).
للاستيعاب والتأكيد فجميع زمان القبل أي من قبل إيحائنا إليك، كنت من الغافلين عن معرفة هذا، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه من، لا تعلمه ولا شيئا منه قبل وحينا اليك، فنقلك من حال إلى حال، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله لكونه جاء به من غير تعليم، وهو تعليلٌ لكونه مُوحى، والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ عليه السلام، ومفهوم {من قبله} مقصود منه التعريض بالمشركين المُعْرضين عن هدي القرآن.
قال الزمخشري والضمير في {قَبْلِهِ} راجع إلى قوله: ما أوحينا والمعنى: وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أي: من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.
قال البيضاوي {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، وهو تعليل لكونه موحى وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة.
ابن جزي {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} الضمير في قبله للقصص أي: من الغافلين عن معرفته، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله لكونه جاء به من غير تعليم.
البقاعي ولما كان كونه لم يستغرق الزمان الماضي، أثبت الجار فقال: {من قبله} أي هذا الكتاب أو إيحائنا إليك به {لمن الغافلين} أي عن هذه القصة وغيرها، مؤكداً له بأنواع التأكيد، وهو ناظر إلى قوله آخرها {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} بعد التفاته عن كثب 62 إلى آخر التي قبلها {وما ربك بغافل عما تعملون 63} والحسن: معنى يتقبله العقل ويطرق 64 إلى طلب المتصف به أنواع الحيل، ومادة، غفل، بكل ترتيب تدور على الستر والحجب، أبو السعود {مِن قَبْلِهِ} من قبل إيحائِنا إليك هذه السورةَ {لَمِنَ الغافلين} عن هذه القصة لم تخطُر ببالك ولم تقرَعْ سمعَك قطُّ، وهو تعليلٌ لكونه مُوحى، والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ عليه السلام وإن غفَل عنه بعضُ الغافلين.
ابن عاشور ومفهوم {من قبله} مقصود منه التعريض بالمشركين المُعْرضين عن هدي القرآن.

*******************

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (62/2).
مثلها
البيضاوي: وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية وهو بيان لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم وإزاحة لما يتوهم أن الرسول تعلم ذلك من معلم و إن هي المخففة واللام تدل عليها.
ابن كثير: وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة، على حين فترة من الرسل، وطُمُوس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب -البقاعي: أكد هذا المفهوم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} أي كوناً هو كالجبلة لهم. ولما كان 47 كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام {لفي ضلال} أي بعد عن المقصود {مبين *} أي ظاهر في نفسه مناد لغيره 49 أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم 50 من يميل 51 إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من 52 مخلوق عن نبيهم إعظاماً 53 لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى، وينقذهم 54 مما كانوا فيه من العمى والرد
قال ابن عاشور:
وجملة {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} في موضع الحال من الأميين، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإِشراك بالله. وإنما كان ضلالاً مبيناً لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة. و {إنْ} مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها. وقد سد مسدها فعل (كان) كما هو غالب استعمال {إنْ} المخففة. واللام في قوله: {لفي ضلال مبين} تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين (إنْ) النافية و {إنْ} المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر (إن) إذ الأصل: وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالباً لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
*******************
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [24: 55] ابتداء الاستخلاف مبتدئ من قبلهم مألوف
من فيها الابتداء والتحقيق والقرب
القول الأول: الطبري الواحدي البغوي وأبو حيان و أبو السعود
: كما فعل من قبلهم ذلك ببني إسرائيل، إذ أهلك الجبابرة بالشأم وأورثهم أرضهم وديارهم وجعلهم ملوكها وسكانها}
القول الثاني: التعميم والاستيعاب ومألوف وهو الراجح.
الطبرسي. الفخر الرازي لخازن والبقاعي وسيد قطب
كداود، وسليمان عليه السلام وهارون ويوشع وغيرهما من الأنبياء والصالحين وأتباع الرسل من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد وتقدير النظم: ليستخلفنهم استخلافا كاستخلاف من قبلهم من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام.

القول الثالث: الاستخلاف يشمل الأمم السابقة كالآشوريين.
قال سيد قطب: فما حقيقة ذلك الإيمان ? وما حقيقة هذا الاستخلاف ?
إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله؛ وتوجه النشاط الإنساني كله. فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله؛ لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله؛ وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس،ابن عاشور وهذا اسخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيهه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان، والفرس، واليونان، والرومان.
قال الطباطبائي: وقوله {ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} إن كان المراد بالاستخلاف إعطاء الخلافة الإلهية كما ورد في آدم وداود وسليمان (عليهما السلام) قال تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}: [البقرة – 30] وقال: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض}: [ص – 26] وقال {وورث سليمان داود}: [النمل – 16] فالمراد بالذين من قبلهم خلفاء الله من أنبيائه وأوليائه ولا يخلو من بعد كما سيأتي.
وإن كان المراد به إيراث الأرض وتسليط قوم عليها بعد قوم كما قال: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}: [الأعراف – 128] وقال {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}: [الأنبياء – 105] فالمراد بالذين من قبلهم المؤمنون من أمم الأنبياء الماضين الذين أهلك الله الكافرين والفاسقين منهم ونجى الخلص من مؤمنيهم كقوم نوح وهود وصالح وشعيب كما أخبر عن جمعهم في قوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}: [إبراهيم – 14] فهؤلاء الذين أخلصوا لله فنجاهم فعقدوا مجتمعا صالحا وعاشوا فيه حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
وأما قول من قال إن المراد بالذين استخلفوا من قبلهم بنو إسرائيل لما أهلك الله فرعون وجنوده فأورثهم أرض مصر والشام ومكنهم فيها كما قال تعالى فيهم {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض}: [القصص – 6]. ففيه أن المجتمع الإسرائيلي المنعقد بعد نجاتهم من فرعون وجنوده لم يصف من الكفر والنفاق والفسق ولم يخلص للذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا حينا على ما ينص عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة ولا وجه لتشبيه استخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات باستخلافهم وفيهم الكافر والمنافق والطالح والصالح.
ولو كان المراد تشبيه أصل استخلافهم بأصل استخلاف الذين من قبلهم وهم بنو إسرائيل كيفما كان لم يحتج إلى إشخاص المجتمع الإسرائيلي للتشبيه به وفي زمن نزول الآية وقبل ذلك أمم أشد قوة وأكثر جمعا منهم كالروم والفرس وكلدة وغيرهم وقد قال تعالى في عاد الأولى وثمود {إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح}: [الأعراف – 69] وقال {إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد}: [الأعراف – 74] وقد خاطب بذلك الكفار من هذه الأمة فقال {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}: [الأنعام – 165] وقال {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره}: [فاطر – 39].
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون التشبيه ببني إسرائيل ثم يؤدى حق هذا المجتمع الصالح بما يعقبه من قوله {وليمكنن لهم دينهم} إلى آخر الوعد؟ قلت نعم ولكن لا موجب حينئذ لاختصاص استخلاف بني إسرائيل لأن يشبه به وأن يكون المراد بالذين من قبلهم بني إسرائيل فقط كما تقدم.

المعنى الثالث: المبادرة
الابتداء، والمبادرة في أول أزمنة القبلية مع التأكيد.
نص عليه ابن عاشور [56]،ابن عرفة [57]، والبقاعي [58]، والزمخشري [59]، وأبو السعود [60]، وابن كثير [61]، وسيد قطب [62]، محمد سيد طنطاوي [63]، والطوسي [64]، والسعدي[65] وغيرهم.

أمثلة هذا القسم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (2/ 254).
وأدخل (مِن) لابتداء الغاية أي في زمن يبتدئ من قبل إتيان اليوم، ويفيد تأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة فهو مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في في الإنفاق لأن اليوم أشرف على المجيء فهو على شرف الوقوع، ففيه تأكيد الوعظ والإنذار، والمبادرة به في أول أزمنته القبلية قبلية إتيان يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود فهي الفرصة التي ليس بعدها – لو فوتوها على أنفسهم – بيع تربح فيه الأموال وتنمو لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه [66].
***********************
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) 4/ 47
وأدخل (مِن) لابتداء الغاية متعلق بآمنوا أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل طمس الوجوه أي من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها، يعني الأقفاء،، ويفيد تأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة فهو مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الإيمان لأن الطمس على شرف الوقوع؛ ففيه تأكيد الوعظ والإنذار، والمبادرة به في أول أزمنة القبلية قبلية،لأنه لو جاء لما أمكن تدارك ما فاتكم [67].
*****************
(قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) 14/31
وأدخل (مِن) لابتداء الغاية أي في زمن يبتدىء من قبل إتيان اليوم، ويفيد تأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة فهو مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في إقامة الصلاة و في الإنفاق لأن اليوم أشرف على المجيء فهو على شرف الوقوع فالمدة قصيرة، ففيه تأكيد الوعظ والإنذار، والمبادرة به في أول أزمنته القبلية قبلية إتيان يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود فهي الفرصة التي ليس بعدها – لو فوتوها على أنفسهم – بيع تربح فيه الأموال وتنمو لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه.
قال ابن عاشور: عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو (قبل) لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة[68].

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)
30/43
وأدخل (مِن) لابتداء الغاية أي في زمن يبتدىء من قبل إتيان اليوم، ويفيد تأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة فهو مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في إقامة الوجه لأن اليوم أشرف على المجيء فهو على شرف الوقوع فالمدة قصيرة، ففيه تأكيد الوعظ والإنذار، والمبادرة به في أول أزمنته القبلية قبلية إتيان يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من إقامة الوجه وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود فهي الفرصة التي ليس بعدها – لو فوتوها على أنفسهم – لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه.
قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيرات قال سيد طنطاوي: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أى: اثبت على هذا الدين القيم، من قبل أن يأتى يوم القيامة، الذى لا يقدر أحد على ردِّه أو دفع عذابه إلا الله – تعالى وحده.
وحملها البقاعي على التبعيض: البقاعي ولما كان حفظ الاستقامة عزيزاً، أعاد التخويف لحفظ أهلها، فقال ميسراً الأمر 9 بعدم استغراق الزمان بإثبات الجار، إشارة إلى الرضا باليسير من العمل ولو كان ساعة من نهار، بشرط الاتصال بالموت: {من قبل} 10
***********************
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)
39/ 54) كما ذكر من قبل.
ابن كثير ثم استحث [سبحانه] وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي: ارجعوا إلى الله واستسلموا له، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة.
سيد قطب: ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم. وليأت.. ليأت وليدخل فالباب مفتوح. والفيء والظل والندى والرخاء: كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب!
وهيا. هيا قبل فوات الأوان. هيا (من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون).. فما هنالك من نصير. هيا فالوقت غير مضمون. وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار. هيا.
قال ابن عاشور: وفي قوله: مِن قَبلِ أن يأتيكم العذاب} إيذان بوعيد قريب إن لم يُنيبوا ويسلموا كما يلمح إليه فعل {يأتيكم}
وحملها البقاعي على التبعيض: البقاعي ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها: {من قبل أن يأتيكم}
*******************
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) 39/55
قال سيد طنطاوي: ققوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} متعلق بالأمر بالاتباع، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف.
أى: سارعو إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله.
فالآية الكريمة تقرير وتأكيد لما قبلها: من الدعوة إلى المسارعة بالتوبة وبالعمل الصالح.قال عبد الكريم الخطيب: إشارة إلى المبادرة بالرّجوع إلى الله، والتخلّي الفوري عن مشاعر الإمهال والتسويف، من يوم إلى يوم، إذ لا يدرى المرء متى يحين حينه، ويأتيه أجله.. فقد يؤخّر المرء التوبة إلى غد، ثم لا يأتى الغد إلّا وهو فى عالم الموتى. وقد يؤخر التوبة من صبح يومه إلى مسائه، فلا يكون فى المساء بين الأحياء
وحملها البقاعي على التبعيض: البقاعي ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً على رفقه بإثبات الجار: {من قبل أن يأتيكم} أي على ما بكم من العجز عن الدفاع {العذاب}
***********************
(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (42/47
قال البقاعي: ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت: {من قبل أن يأتي يوم}.قال السعدي: يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.
**************
(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [63: 10]
قال الزمخشري:{مِن} في {مَّا رزقناكم} للتبعيض، والمراد: الإنفاق الواجب {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} من قبل أن يرى دلائل الموت، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال، ويضيق به الخناق، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول، فيتحسر على المنع، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه ابن الجوزي: قوله تعالى: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِي أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت.
قال البقاعي أي من عظمتنا وبلغ النهاية في ذلك بالرضا بفعل ما أمر به 16 مع التوبة 17 النصوح في زمن ما ولو قل بما أرشد إليه إثبات الجار، فقال مرغباً 18 في التأهب 19 للرحيل والمبادرة لمباغتة الأجل، محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: {من قبل} وفك المصدر ليفيد ” أن ” مزيد القرب فقال 20: {أن يأتي اطفيش – الهميان {مِّن قَبلِ أَن يَأَتِىَ أَحَدَكُمُ المَوْتَ} أي دلائله ويعاين مآسيه معه من الامهال ويفوت وقت العمل والقبول فيتحسر على المنع وبعض انامله على فقد ما كان متمكنا منه كما قال الغفور الرحيم قال الطباطبائي و قوله: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في ماله بالإنفاق في سبيل الله.
**************
(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [نوح: 1] (71/1)
قال ابن عاشور:وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قبل}. قال ابن عرفة: [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول أزمنة القبلية.
قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قبل} قال عبد الكريم الخطيب: وفى قوله تعالى: «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» إشارة إلى أن القوم كانوا على مشارف الهاوية التي تهوى بهم إلى الهلاك، وأن نوحا إنما بعث إليهم لينذرهم بهذا الخطر الذي يتهددهم، ويوشك أن يشتمل عليهم..
وفى قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» – بعد الأمر الذي أمر به من ربه، دون توان أو تردد- فى هذا ما يشير أيضا إلى أن الأمر يقتضى المبادرة بإنذار القوم، قبل أن تقع بهم الواقعة التي هى وشيكة الوقوع!
وحملها البقاعي على التعيض: البقاعي: ولما كان المقصود ” 17 إعلامهم بذلك 18 ” في بعض الأوقات لأن الإنسان لا بد له من أوقات شغل بنفسه من نوم وأكل وغيره، أتى بالجار تخفيفاً عليه ورفقاً به عليه السلام فقال: {من 19 قبل أن يأتيهم} أي على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة {عذاب أليم *}.
******************
(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) 20/134).
تنبيه: المراد (من) الثانية لا الأولى، فـ(من) الأولى: للاستيعاب والتأكيد أي في أي مدة من مدة القبل ولو في القبل القريب فمن لابتداء الغاية
الكلام في من قبل الثانية: فهم لو أخذوا بعذاب قبل مجيء التبليغ لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك سريعا مبادرين مغتنمين الفرصة من قبل أن نذل ونخزى وأدخل (مِن) لابتداء الغاية أي في زمن يبتدئ من قبل أن نذل ونخزى، ويفيد تأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة فهو مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في في الاتباع قبل الذل والخزي الذين هما على شرف الوقوع فالمدة قصيرة ونحن سنبادر، ولن نفوت [69].
******************
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)(9/50).
ابتداء الغاية فابتداء أخذ الحيطة والأمر مبتدئ من الوقت الذي هو قبل الوقعة في وقت تدارُكِه، مع التأكيد، تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم في التخلف، أي أخذنا أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو، من قبل ما وقع من المصيبة، أي قبل أن تكون هذه المصيبة بتخلفنا عن محمد وترك اتباعه إلى عدوّه واحترزنا بالقعود، ابتهاج منهم بمصادفة أعمالهم ما فيه سلامتهم فيزعمون أنّ يقظَتهم وحزمهم قد صادفا المحَز، إذ احتاطوا له قبل الوقوع في الضرّ، وإن قتلت المسلمون أو جرحوا أو أصيبوا بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من قبل من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون [70].

المعنى الرابع:
ابتداء الغاية من فترة القبل ببيان أنه سابق ابتدأ من فترة القبل، والتأكيد، والاتصال والسرعة الحقيقي أو المجازي وإليك تفصيل ذلك:
الحالة الأولى:
2) ابتداء الغاية أي أن هذا مبتدأ من فترة القبل في أوّل أزمنة القَبْلَية حقيقة أو مجازا، فهي تفيد مع الابتداء القرب في أول أزمنة القبلية مباشرة بلا فاصل، وهذا المعنى مأخوذ من الابتداء لأنها لابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية، كأن الشخص بادر من أول مجرورها وانطلق منه فعمل العمل، مع التأكيد، وللإشعار بأن هذا أمر معهود مألوف وليس ببدع.
فأما دلالة من على الابتداء من أول أزمنة القبلية فقد نص على هذا المعنى،ابن عرفة [71] والبقاعي [72]، والسامرائي [73]، وابن هشام في المغني [74]، والسيوطي [75] في معترك الأقران، وابن عاشور [76]، وابن جماعة [77]، وكذا أبو حيان [78] وأبو السعود والآلوسي واطفيش في بعض المواضع [79]
وأما الدلالة على أنه مألوف فقد نص عليه ابن عرفة [80]، وغيره كما ورد في النصوص المنقولة فيما يأتي.
وأما تصوير الشيء الذي قد يكون بعيدا بصورة القريب لأن مقتضى السياق يتطلب ذلك فقد نص عليه البقاعي في (من بعد}[81]، ونص عليه السامرائي في الفاء العاطفة[82].

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}(3/3).
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء إيتاء الكتاب كان من مدة القبل مع التأكيد والقرب الملاصق [83] مجازا،أي في القبل القريب أنزل التوراة والإنجيل.
• إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأوّل ما نزل، بل تقدمه كُتُب قبله.
• وللرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: {هُدًى لّلنَّاسِ} أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير
• ولكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن.
• وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إنّ الدينَ عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] فالهدى الذي سبقه غير تام.
قال في التقييد للبسيلي عند تفسير قوله تعالى:{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} فإن قلت: ما افاد (من قبل) وهو معلوم؟. قلت: للدلالة على أوّل أزمنة القَبْلَية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأوّل ما نزل، بل تقدمه كُتُب قبله، واستدام حكمها إلى أوّل أزمنة القَبْلِية، ويحتمل تعلقه بـ (هدى) أي: أن هداية التوراة، والإِنجيل كانت للناس من قبل، وهذا غير معلوم. إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وهناك توكيد عام يجتمع مع كل المعاني السابقة لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ فإن التسلية بالأقرب أعظم
قال ابن عرفة: قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ).قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية.
قال الآلوسي: {مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، وقيل: من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: {هُدًى لّلنَّاسِ} أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلى الله عليه وسلم واتباعه حيث يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير.
ابن عاشور: {مِنْ قَبْلُ} يتعلّق {بأنْزَلَ}، والأحسن أن يكون حالاً أولى من التوراة والإنجيل، و « هُدَى » حال ثانية. والمُضافُ إليه قبلُ محذوف مَنويٌّ مَعْنًى، كما اقتضاه بناء قبل على الضم، والتقدير من قبل هذا الزمان، وهو زمان نزول القرآن. وتقديم {مِنْ قبلُ} على {هدَى للناس} للاهتمام به.
وأما ذكر هذا القيد فلكي لا يتوهّم أنّ هُدى التوراةِ والإنجيلِ مستمرّ بعد نزول القرآن. وفيه إشارة إلى أنّها كالمقدّمات لِنزول القرآن، الذي هو تمام مراد الله من البشر {إنّ الدينَ عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] فالهدى الذي سبقه غير تام.
**************
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}(2/25).
• لابتداء الغاية والقرب والتأكيد إشارة إلى أن هذا الذي أكلوه مألوف مثله في الحسن والجمال واللذة، فثمرة الجنة متشابهة جدا في الحسن وكونها في غاية الجودة والحسن بحيث لا تتمايز كما هو حال الدنيا لأنها على أعلى صورتها لا تتفاوت بأعلى وأدنى ولا يتراخى زمان عودها ولا تتمايز صور المقطوف حتى يظن الظان أن المتخلف عين الأول، فكلما رزقوا منها من ثمرة قالوا هذا عين الذي رزقنا من في القبل القريب، ففي من الابتداء والتأكيد والسرعة.
قال السمين الحلبي: ” مِنْ قَبلُ ” متعلِّقٌ به. و ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ
قال أبو حيان: من متعلقة برزقا، وهي لابتداء الغاية
******************
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
8: 71)
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء الخيانة كان من القبل القريب مع التأكيد،أي في القبل القريب خانوا الله، إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنها ليست بأوّل خيانة، فقد خانوا قبل بدر باتخاذ الأنداد والشركاء، وبعد ذلك من الكفر بنعمه ثم برسوله وأمكن منهم ببدر، فإن أرادوا خيانة رسوله [ص] وهم أسرى في يديه، فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر، ومكنت منهم رسول الله وأولياءه.
قال الآلوسي:{فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل ادعى بعضهم أنه الأقرب.
قال رشيد رضا: {فقد خانوا الله من قبل} باتخاذ الأنداد والشركاء، وبعد ذلك من الكفر بنعمه ثم برسوله، وقال بعض المفسرين إن خيانتهم لله تعالى هي ما كان من نقضهم لميثاقه الذي أخذه على البشر بما ركب فيهم من العقل وما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية على الوجه.
******************
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(12/ 64).
لابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب المعنوي ففي الوقت القريب أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ و خنتم بضمانكم، فخيانتكم مألوفة معروفة، فما يؤمنني من مثل ذلك، وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى الله [84].
******************

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}.
{من قبل} قبل اتخاذهم لهذا المسجد متعلق بـ{حارب} لابتداء الغاية والتأكيد وبيان والقرب المجازي بتصويره بتصويره بصورة شيء حصل في القبل القريب، وللإشعار بأن هذا أمر معهود حربه لله ورسوله وهذا يدل على فظاعة فعلهم في جعلهم المسجد إرصادا له،، فهو قد حارب الله ورسوله من قبل هذا الاتخاذ واشتدت عداوته لله ورسوله وهم يساعدونه، والمراد المبالغة في الذم فحربه لله ورسوله معروف مألوف، والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ: أرصدوا ذلك المسجد، واتخذوه، وأعدوا لأبي عامر الراهب، وهو الذي حارب الله بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان
قال البقاعي: ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو
قال الآلوسي: {مِن قَبْلُ} متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم، قال السعدي: {لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ْ} أي: إعانة للمحاربين للّه ورسوله، الذين تقدم حرابهم واشتدت عداوتهم،
قال دروزة: وارتقابا لأناس حاربوا الله ورسوله من قبل إنشائه بالرغم من توكيد المنشئين له بالأيمان بأنهم إنما أرادوا الخير وأنهم حسنوا النية، فإن الله يشهد أنهم كاذبون [85].
******************
(وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [24: 59].
القول الأول: وهو الراجح: المراد الأحرار الكبار الذي بلغوا الحلم من قبلهم و أمروا بالاستئذان على كل حال، والمراد من تجدد منه البلوغ يجب أن يكون بمنزلة من تقدم بلوغه في وجوب الاستئذان، والمعنى أنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم خرجوا عن حدّ الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السنّ التي يحكم فيها عليهم بالبلوغ، وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كما الرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلاّ بإذن دفعاً لما عسى أن يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول الشافعي فأخبر أن عليهم إذا بلغوا الاستئذان فرضا كما كان على من قبلهم من البالغين الشافعي فأخبر أن عليهم إذا بلغوا الاستئذان فرضا كما كان على من قبلهم من البالغين
اختاره الطبري و الواحدي والطبرسي مقاتل الشافعي فأخبر أن عليهم إذا بلغوا الاستئذان فرضا كما كان على من قبلهم من البالغين الفراء الطبري السمرقندي الثعلبي مكي الماوردي الواحدي البغوي ابن عطية الطبرسي ابن جزي أبو حيان الأعقم الميرغني – الميرغني – إبراهيم القطان الطباطبائي سيد طنطاوي الأمثل وقدمه الزمخشري[86].
*****************
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (20/90).
لابتداء الغاية والتأكيد والتعقيب وبيان أن التذكيرات قد تتابعت عليهم، فليسوا معذورين فيه، ببيان عُتوِّهم واستعصائِهم على الرسول إثرَ بيانِ مكابرتهم لقضية العقولِ، أي وبالله لقد نصح لهم هارونُ ونبّههم على كُنه الأمرِ من قبل رجوعِ موسى فقد فقد رأوا أنه لا يملك لهم ضرا ولا نفعا وقد قال لهم هارون قبل ذلك ياقوم، فتذكيرهم مألوف قد تكرر فقد عصوا عن علم، و الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع. أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة، بأنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة[87].
*******************

{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)}(12/80).
ألم تعلموا أن أباكم… وتعلموا تفريطكم في يوسف، فقوله {وَمِن قَبْلُ} متعلق بتعلموا و(من): لابتداء الغاية والتأكيد والقبلية المعنوية وهو موثق كرر، فمن قبل الموثق، أخذ عليكم موثق وأكدتم غاية التأكيد ففرطتم و قصرتم تفريطاً عظيماً، في يوسف عليه السلام فأبوكم غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصُّوَاع[88].
.******************
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (16/118).
تفيد ابتداء الغاية وأن القصص كان من قبل فهو معروف لتأكيد أن المحرمات محصورة فيما ذكر في الآية السابقة، وفيها التأكيد وتصويره بأنه قريب.
وحرّمنا من قبل نزول هذه الآية يا محمد على اليهود خاصة في شريعتهم قبل أن ينسخها ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام عقوبة لهم، وذاك كلّ ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظُهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
والأغلال والحرج والتضييق، فقال: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ قال أبو السعود: {وَعَلَى الذين هَادُواْ}، خاصةً دون غيرِهم من الأولين والآخِرين، {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ}، أي: بقوله تعالى: {حَرَّمْنَا كُلَّ ذي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية، {مِن قَبْلُ}، متعلقٌ بقصصنا أو بحرمنا، وهو تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فُصّل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهودِ وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حُرّمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدهما حتى انتهى الأمرُ إلينا[89].
*****************
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) (19/9)
يستشهد به على قدرته، و(من) لابتداء الغاية فخلقك متقدم قد سبق خلق يحيى فهو مألوف مشاهد، فالذي أخرجك من عدم الى وجود فهو قادر على أن يرزق ولد وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر، وفيها التأكيد وتصوير الصورة بأنها قريبة، فليس خلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك، وعقم زوجتك بأعجب من خلقك، فإني قد خلقتك ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه.
قال الآلوسي: بمعنى الموجود أي ولم تك موجوداً بل كنت معدوماً، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان.
*****************
(أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)(19/67).
فيها الابتداء من فترة القبل فهو أمر معروف مقرر معهود وفيها التأكيد وتصوير الأمر أنه قريب والمعنى: أيقول ذاك ولا يتذكر حال النشأة الأولى وهي أنا أوجدناه بقدرتنا من العدم ولم يكن شيئاً مذكوراً حتى لا ينكر الأخرى فإن تلك أعجب وأغرب وأدلّ على قدرة الخالق؟ {من قبل}أي من قبل من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه وجدله وسؤاله هذا أي بما لنا من القدرة والعظمة، فالإعادة مثل الابتداء، فلم يناقض ولا يستدل بالابتداء على الإعادة
*****************
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)(28/48).
ابتداء الغاية وأنه ناشئ من قبل هذا، مع التأكيد، وبيان أنه في الوقت القريب، ففيه بيان تناقضهم ففي القبل القريب كفروا بما أوتي موسى وهم الآن يقولون لولا أوتي مثل ما أوتي موسى، فالآية ردٌّ عليهم وإظهارٌ لكونِ ما قالُوه تعنُّتاً محضاً لا طلباً لما يُرشدهم إلى الحقِّ أي ألم يكفُروا من قبلِ هذا القولِ من الكتابِ كما كفرُوا بهذا الحقِّ، {َمِن قَبْلُ} متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه السلام من قبل محمد صلى الله عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة، والأظهر أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل، فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت.
قال ابن عاشور: والوجه أن المشركين كانوا يجحدون رسالة الرسل قاطبة. وكذلك حكاية قولهم {ساحران تظاهرا} من قول مشركي مكة في موسى وهارون لما سمعوا قصتهما أو في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهو الأظهر وهو الذي يلتئم مع قوله بعده {وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} [القصص: 48 49].
*****************
(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا) (33/15)
ابتداء الغاية فالعهد الذي عاهدوا الله بالثبات في المواطن كان في القبل القريب المعنوي بتصويره بصورة القريب، وفيه التأكيد فهو عهد مستقر كان لا بد من الوفاء به، لكنهم نقضوا العهود فقد تخلفوا في أحد وأظهروا عذرا وندما فذكَّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقاً قُلَّباً لا يرعى عهداً ولا يستقر لهم.
هم بنو حارثة وبنو سَلِمة، هم الذين قال فريق منهم {إن بيوتنا عورة} كانوا يوم أُحُد جبُنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُولُّون الأدبار في غزوة بعدها، عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم، فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته، وثبتهم، وعصمهم من عواقب الفشل فطَرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكَّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقاً قُلَّباً لا يرعى عهداً ولا يستقر لهم[90].

*****************
(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [48: 16].
لابتداء الغاية فالتولي ناشئ ومبتدئ من قبل فهو مألوف معتاد فيه تَعيير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله، وتفيد التأكيد وتصوير التولي بأنه قريب.
كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، من قبل أن تُدعَوا إلى قتال أولي البأس الشديد، يريد في زمان الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في زمان الحديبية، حيث دعيتم فتخلفتم
قال ابن عاشور: تَعيير بالتوالي الذي مضى، وتحذير من ارتكاب مثله في مثل هذه الدعوة بأنه تَوَلَّ يوقع في الإثم لأنه تولَ عن دعوة إلى واجب وهو القتال للجهاد. فالتشبيه في قوله: {كما توليتم من قبل} تشبيه في مطلق التولّي لقصد التشويه وليس تشبيهاً فيما يترتب على ذلك التولي.
*****************
{رُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4/164).
{مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا أي من قبل من قبل إنزال هذه الآية، والمعنى: وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه الآية والسورة وهم المسرودة أسماؤهم فهم معروفون مألوفون عندك أو المبينة قصصهم في كل السور المكية، وأرسلنا رسلا لم نقصصهم عليك.
*********************
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (5/102)
لابتداء الغاية أنه في فترة القبل فهو أمر مألوف وقد شوهد خطره وفيها التأكيد وتصوير الأمر بصورة قريبة.{قد سألها قوم}: الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا أي سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعة للوبال، وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير سألها قوم من قبلكم سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم، {من قبلكم} متعلق بسألها، إما صفة لقوم لأن ظرف الزمان أفاد نحو: نحن في يوم طيب أو متعلق بسأل، فأجيبوا ببيان أحكامها[91].
*********************
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ 2}(2/ 108).
ابتداء السؤال ناشئ من قبل فهو سؤال قد سبقكم إليه المتعنتون فهو ذم للسؤال السابق، وتحذير من سؤال مثله، وفيها التأكيد وتصوير أنه قريب، والاستنكار لتشبه بعض المؤمنين بالأقوام السابقين بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف.
وجعلها أبو حيان والسمين وأبو السعود والآلوسي للتأكيد
قال أبو السعود: وقوله تعالى: {مِن قَبْلُ} متعلِّقٌ بسُئِل جيءَ به للتأكيد[92].
قال سيد قطب: فهو استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف، على نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة.
قال أبو حيان: {موسى من قبل}:يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف.
فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال السمين الحلبي: و ” من قبلُ ” متعلق بسُئل، و ” قبلُ ” مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.

*****************
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}(7/173).
لابتداء الغاية والتأكيد وبيان أن الشرك كان سابقا مألوفا فأشركنا والمعنى: أن آباءهم من قبلهم قد أشركوا و هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه من قبل زمانِنا فظننا الإشراك حقا، وقد سبقونا في الزمان فاقتدينا بهم،، فقلدناهم في ذلك الشرك فبين سبحانه أنه لا يجوز ولا يصح هذا التقليد.
الفخر الرازي: قال المفسرون: المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا، لأن آباءنا أشركوا، فقلدناهم في ذلك الشرك.
قال البقاعي: {أو يقولوا} أي لو لم نرسل إليهم الرسل {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي من قبل أن نوجد.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا} عطفٌ على تقولوا و (أو) لمنع الخلوّ دون الجمعِ، أي هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا
قال ابن عاشور: عُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً[93].
*****************
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (9/30).
لابتداء الغاية والتأكيد، أنهم اقتدوا بالذين كفروا وابتدأ كفرهم من قبل، أي الذين سبقوهم في الزمان فاقتدوا بهم،، فقلدوهم في ذلك الشرك وسابقوهم ونافسوهم في الكفر وهذا التعبير أشد وآكد في توبيخهم وقدحهم من التعبير بالمشابهة مع أنهم أهل كتاب لا بد أن يكونوا أبعد الناس عن الشرك وعن تقليد الكفار، يشابهون ويحاكون عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم ” بولس الرسول ” أولاً؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً..
منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص والحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى: {يضاهئون} الآية في هذا الباب [94].
*****************
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(11/ 17).
لابتداء الغاية في فترة القبل متقدم معروف، وفيها التأكيد، وأيضا من قبله أي من قبل هذا الشاهد مؤيداً له شاهدٌ آخرُ هو كتاب موسى وهو التوراة حال كونه إماماً يشهد به بالبشارة التي فيه يتلوه أيضا في التصديق لأن موسى عليه السلام بشر به في التوراة فالتوراة تتلو النبي صلى الله عليه وسلم في التصديق.
قال الزمخشري: {وَيَتْلُوهُ} ويتبع ذلك البرهان {شَاهِدٌ مّنْهُ} أي شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن {مِنْهُ} من الله، أو شاهد من للقرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن {كِتَابُ موسى} وهو التوراة، أي: ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى[95].
*****************
(وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) [46: 12]مثل الآية الكريمة السابقة
*****************
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)10/ 94).
ابتداء الغاية أي أن هذا مبتدأ من فترة القبل في أوّل أزمنة القَبْلَية مع التأكيد، وللإشعار بأن هذا أمر معهود مألوف وليس ببدع فهم موجودون ويتابعون قراءة الكتاب ويعرفون هذا تستطيع أن تسألهم وهو محقق عندهم ثابت، فهم يقرؤون الكتاب من قبلك ويعرفون صفاتك وصحة ما أنتم عليه فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه} فإن ذلك محققٌ عندهم ثابتٌ في كتبهم حسبما ألقَينا إليك والمرادُ إظهارُ نبوتِه عليه السلام بشهادة الأحبارِ حسبما هو المسطورُ في كتبهم لأنهم يجدونك عندهم مكتوبا ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة وأن القرآن مصدق لما فيها مع التأكيد
قال البقاعي: ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وهم عن 26 ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح 27 إلى سؤال غيري، تفسير الجلالين التوراة [من قبلك] فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، قال صلى الله عليه وسلم: لا أشك ولا أسأل أبو السعود: مِن قَبْلِكَ} فإن ذلك محققٌ عندهم ثابتٌ في كتبهم حسبما ألقَينا إليك والمرادُ إظهارُ نبوتِه عليه السلام بشهادة الأحبارِ حسبما هو المسطورُ في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلاً أو وصفُ أهلِ الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوتِه عليه السلام أو تهييجه عليه السلام وزيادةِ تثبيتِه على ما هو عليه من اليقين لا تجويزِ صدورِ الشك منه عليه السلام ولذلك قال عليه السلام: «لا أشُكُّ ولا أسأَلُ »[96].
وحمل محمد رشيد رضا الآية على الاستيعاب وتبعه المراغي فقال رشيد رضا: ” والمراد بالكتاب جنسه، أي فاسأل الذين يقرءون كتب الأنبياء كاليهود والنصارى، فإنهم يعلمون أن ما أنزلناه إليك من الشواهد حق لا يستطيعون إنكاره، وقال بعض المفسرين: إن المراد سؤال من آمن منهم، كعبد الله بن سلام من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، ولا حاجة إليه، والآية بل السورة نزلت في مكة، ولم يكن أحد من أهل الكتاب آمن.
ومما يؤكد كون السؤال فرضا قوله: {لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} فهذه الشهادة المؤكدة بالقسم من ربه، تجتث احتمال إرادة الشك والسؤال بالفعل من أصله، ويزيدها تأكيدا قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.

*****************
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الأنعام: 84] (6/84).
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء إيتاء الكتاب كان من مدة القبل مع التأكيد، للتّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب و أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وشرف الوالد. يتعدى إلى الولد ففيه بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الآباء وبحسب الأولاد بأن رزقه أولادا مثل إسحق، ويعقوب، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت[97].
****************
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)(21/51)
ابتداء النداء من قبل هؤلاء فهو أمر معهود وسنة متأصلة متكررة، مع التأكيد وتصوير المشهد أنه قبلهم مباشرة، وبناء {قبلُ} على الضمّ يدل على مضاف إليه مقدر، أي من قبل هؤلاء، أي قبل الأنبياء المذكورين. وفائدة ذكر هذه القبلية التنبيه على أن نصر الله أولياءه سنتُه المرادة له تعريضاً بالتهديد للمشركين المعاندين ليتذكروا أنه لم تشذ عن نصر الله رسلَه شاذّة ولا فاذّة[98].

******************
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}(21/51).
ابتداء إيتاء الرشد مبتدئ من قبل وفيه التأكيد وبيان أن إيتاء التوراة لم يكن بدعا بل قد آتينا إبراهيم رشده فهذا الإيتاء راسخ قديم معهود ليس ببدع (مِنْ قَبْلُ) أي موسى وهارون والمراد بالرشد: الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية
وذكر هذا انعطاف إلى ما قبل موسى وهارون ونزول التوراة كما يفيده قوله:
{من قبل} والمراد أن إيتاء التوراة لموسى وهارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده [99].

******************
(وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ) [40: 34]
ابتداء مجيء يوسف بالبينات في زمن القبل فدعوتهم مع البينات ليست بدعا بل أمر متقدم مألوف معروف وتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم.، وفيها التأكيد وتصوير المشهد كأنه قبل مباشرة {من قبل} أي قبل موسى [100].
******************

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}(12/6).
لابتداء الغاية والتأكيد مع التعقيب المعنوي، كما جعلهما نبيين من قبل الوقت كذلك يجعلك نبيا، وفيه إشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام بتسلسل النبوة في أسباطهم، وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به [101].

******************
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}(51/46)
ابتداء الإهلاك من قبل فهو أمر مألوف وسنة مطردة معروفة وفيها التأكيد وتصوير أن المشهد أنه قبله مباشرة، والمعنى: أهلكنا هذه الأمم، وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم فرعون، أي قبل هذه الأمم كلها
قال الشوكاني{وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدّم على زمن فرعون، وعاد وثمود قال الأمثل: والتعبير ب «من قبل » لعلّه إشارة إلى أنّ قوم فرعون وقوم لوط وعاداً وثمود كان قد بلغهم ما انتهى إليه قوم نوح من عاقبة وخيمة، إلاّ أنّهم لم يتنبهوا، فابتلوا بما ابتلي به من كان قبلهم من قوم نوح!
******************
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) [53: 52]
معناه وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود أي قبل الفريقين فصار في الكلام تهويلان يهزان القلب ويفعلان في النفس وصف هؤلاء بالقبلية وأولئك بالأولى، وفيه تسلية بأن إهلاك الظلمة سنة قديمة وبأن الرسل من قبله لقُوا من أممهم ما لقيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلهم {أظلم وأطغى}: لأنهم سبقوا إلى التكذيب دون اقتداء بأحد قبلهم، وأيضاً فإنهم كانوا في غاية من العتو، وكان عمر نوح قد طال في دعائهم، فكان الرجل يأتي إليه مع ابنه فيقول: أحذرك من هذا الرجل فإنه كذاب، ولقد حذرني منه أبي وأخبرني أن جدي حذره منه، فمشت على ذلك أخلافهم ألفاً إلا خمسين عاماً.قال الآلوسي: وصرح بالقبلية لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين.
قال ابن عاشور والمعنى: إنهم أظلم وأطغى من قومك الذين كذبوك فتكون تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الرسل من قبله لقُوا من أممهم أشد مما لقيه محمد صلى الله عليه وسلم وفيه إيماء إلى أن الله مبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها لأنه قدّر دخول بقيتها في الإسلام ثم أبنائها.
******************
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزما}(20/115)
لابتداء الغاية فابتداء العهد كان من قبل فهو معهود راسخ وفيه التأكيد، فعرق بني آدم راسخ على المخالفة، والحكمة في هذا تقرير ما سبق من تصريف الوعيدِ في القرآن وبيانِ أن أساسَ بني آدمَ على العصيان، وعِرْقُه راسخٌ في النسيان مع ما فيه من إنجاز الموعود، وفيه تصوير المشهد أنه في القبل القريب.
{ولقد عهدنا} عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [طه: 113] والمعنى: وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهي عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بني آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه.
رجح هذا الجمهور ومنهم الطبري والزمخشري وأبو السعود والبيضاوي.
قال سيد قطب: والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه. وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان، فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان. وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده، فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه. ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة. وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الأول ليجزى كل بما قدمت يداه.
******************
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}(12/77).
السرقة مبتدأة من قبل هذا مع التأكيد والتعقيب المجازي، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل و ليس الأمر بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان سارقاً فهو يتأسى به،،قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله ونحن نختلف عنهما في النسب، وهكذا أرادوا أن يفصلوا بينهم وبين بنيامين ويربطوه بأخيه يوسف ر [102].

******************
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)}(59/15).
تفيد أن ابتداء ذوقهم الفترة القريبة مع التأكيد وتفيد القبل القريب مع كونه مألوفا.
القشيري مَثَلُ بني قُرَيظة كمثل بني النضير؛ ذاق النضير وَبال أَمرِهم قبل قريظة بِسَنَةٍ؛ وذاق قريظة بعْدَهم وبال أمرهم
قال ابن كثير قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: [يعني] 25 كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر. وقال ابن عباس: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
قال البقاعي وهم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عند ما قصدهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر فوعظهم وحذرهم بأس 37 الله فقالوا: لا يغرنك 38 يا محمد أنك لقيت قوماً 39 أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم، وأما والله لو قاتلتنا 40 لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فأرادوها على كشف وجهها فأبت فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها، فلما قامت انكشفت سوأتها 41 فصاحت فغار لها شخص من الصحابة رضي الله عنهم، فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها فقتلوه، فانتقض عهدهم، فأنزل النبي صلى الله عليه وسلم بساحتهم جنود الله فأذلهم 42 الله ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا حلفاء 43 ابن أبيّ، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم في 44 أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء.
******************
(وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) [15: 27]
ابتداء الغاية أي أن هذا مبتدأ من فترة القبل في أوّل أزمنة القَبْلَية مجازا بتصويره بتصويره بصورة شيء كان قبل شيء مع التأكيد، لتعليم أن خلق الجانّ أسبق وللإشعار بأن هذا الخلق فعل الله سبحانه أمر معهود مألوف وليس ببدع فهو في قدرة الله تعالى فهو الأحق بأن يعبد سبحانه [103].
الحالة الثانية: ابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية مع التأكيد، تفيد مع الابتداء القرب في أول أزمنة القبلية بلا فاصل من قبل مباشرة.
أمثلة هذا القسم:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ـ ـ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}(2/89).
الابتداء والتأكيد والقرب، ابتداء استفتاحهم كانوا في القبلية المتصلة بهذا الزمن القريبة، مع التأكيد على هذا الأمر، فهي تفيد فظاعة فعلهم وهو الكفر بعد استفتاحهم على الذين كفروا بقدوم نبي قد أظل زمانه، فقد كانوا في القبل القريب يستفحتون قال الطبرسي: {من قبل} أي: من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن.
قال أبو حيان: {من قبل}: أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة. قال الفخر الرازي: (أحدها): أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون، أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي.
وحمله البقاعي على التبعيض وليس بصحيح قال البقاعي: أي والحال أنهم كانوا، ولما كان استفتاحهم في بعض الزمان أثبت الجار فقال: {من قبل} أي قبل مجيئه
*********************

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 3/143
{مِن قَبْلِ} متعلق بقوله {تَمَنَّوْنَ} فيها الابتداء أي الابتداء من فترة القبل و التأكيد والقرب، ففي القبل القريب كنتم تمنون الموت فلما حضر و لقيتموه وفعلتم ما فعلتم وفيها تشديد العتاب، وفيه بيان سبب تمنيه ومعرفة صعوباته.
كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر قبل أحد، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه، فانهزموا فعاتبهم الله على ذلك، ويدخل دخولا أوليا الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر. وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة، يعني: وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته
انظر الزمخشري وابن كثير وسيد طنطاوي.
*******************
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ}(30/49)
{من قبل} متعلق بينزل، تفيد في القبل القريب والتأكيد، فتفيد قرب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة وسرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ للمطر وبشهادةِ إذا الفجائية
قال أبو السعود ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ المتصلِ بالاستبشارِ وبشهادةِ إذا الفجائية {لَمُبْلِسِينَ} خبرُ كانُوا، واللامُ فارقةٌ، أي آيسينَ [يقول علي هاني الأرجح أن الإعادة لمن قبله مرة ثانية تركز على أنهم كانوا في حالة مغايرة تماما من طول انقطاع وانتظار المطر واليأس والقنوط فنقلهم إلى هذه الحالة ليبين نعمته انظر الزمخشري وابن كثير والسعدي وعدل هنا]
قال البقاعي ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم، وبين قرب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال: {من قبل أن ينزل} أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه {عليهم} ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله: {من قبله} أي الاستبشار سواء من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر {لمبلسين*} أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة [104].

*************************
(وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) [39: 8]
{من قبل} متعلق بـ(يدعو)أي من قبل أن يكشف ضره ويخوله النعمة، تفيد في القبل القريب كان يدعو والتأكيد، فتفيد سرعة نسيان الإنسان للنعمة، وكثرة وسرعةَ تقَلبِ قلب الإنسان.
والمعنى: ترك دعاءه الذي كان يدعو إلى الله من قبل أن يكشف ما كان به من ضر ه: {من قبل} يريد به: من قبل الضرر، ففي حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع،، ومر كأنه ما أصابه ضر، واستمر على شركه.
******************
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) 4/4 9
ابتداء الغاية والقرب والتأكيد، فكونكم كذلك كان في القبل القريب مع التأكيد أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإِسلام وعن الاعتداء عليه. وأمرهم بان يعاملوا الناس بظاهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده [105].
*******************
{لتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 3/186)
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء إيتاء الكتاب كان من مدة القبل الملاصقة لهم مع التأكيد وهم اليهودُ والنصارى أي من قبل إيتائِكم القرآنَ، عبّر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاقِ وهو أنهم أصحاب كتاب فيدعوهم هذا لمنافستكم، والإيذان بأن بعضَ ما يسمعونه منهم مستنِدٌ على زعمهم إلى الكتاب كما، والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد الإشعار بسبب الشقاق وهو أنهم كتابهم قبل كتابكم وتقويةِ المدارِ فإن قِدَمَ نزولِ كتابِهم مما يؤيد تمسّكَهم به
أبو السعود – مِن قَبْلِكُمْ} أي من قبل إيتائِكم القرآنَ وهم اليهودُ والنصارى، عبّر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاقِ والإيذان بأن بعضَ ما يسمعونه منهم مستنِدٌ على زعمهم إلى الكتاب كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران، الآية 183] الخ، والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد الإشعارِ وتقويةِ المدارِ فإن قِدَمَ نزولِ كتابِهم مما يؤيد تمسّكَهم به البغوي
قوله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}. يعني اليهود والنصارى. ابن الجوزي قال ابن عباس: هم اليهود، والنصارى البقاعي ولما كان إيتاؤهم له لم يستغرق الزمن الماضي أدخل الجار فقال: {من قبلكم} أي من اليهود والنصارى
يقول علي هاني: ويوضح الأمر أن القرآن الكريم مع أهل الكتاب يستعمل (من) لأنهم اتصلوا بهذه الأمة مباشرة لكنه إذا تكلم على قوم فرعون أو على قوم نوح بدون ذكر الأقوام الآخرين يحذف من نحو:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17]
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [40: 5].
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [54: 9] القمر.
*******************
{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
الابتداء والتأكيد والقرب، فإيتاء الكتاب ناشئ ومبتدئ من قبلكم من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: أنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك.

قال الطباطبائي: الإتيان في متعلق الحكم بالوصف أعني ما في قوله: {الذين أوتوا الكتاب} من غير أن يقال: من اليهود والنصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية واللسان لسان الامتنان، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: أنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة، ويشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله: {أوتوا الكتاب} بقوله: {من قبلكم} فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك.
وكيف كان لما كانت الآية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}: [البقرة: 212] وقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}: [الممتحنة: 10] وهوظاهر.
*******************
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)}(5/57)
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء إيتاء الكتاب كان من مدة القبل مع التأكيد فكونهم أهل كتاب يبين أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين، و لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم وتوبيخ لهم، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم، وهم استهزؤوا بالدين الحق، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد هذا المعنى.
قال أبو السعود: ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة؟ {مِنَ الذين أُوتُوا الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} بيان للمستهزئين، والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم.
اطفيش – التيسير: {مِنْ قَبْلِكُمْ} متعلق بأُوتوا لأَن تلك الكتب أَنزلت قبل القرآن كما قال صلى الله عليه وسلم؛ ” إِنا أَهل كتاب بيد أَنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا “، وهم اليهود والنصارى وهم كفار مشركون سيد طنطاوي والمراد بالذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى وسموا بذلك؛ لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل هو التوراة والإِنجيل، وفي وصفهم بذلك هنا، توبيخ لهم، حيث إنهم استهزؤوا بالدين الحق، مع أن كتابهم ينهاهم عن ذلك.
*******************
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) 57/16
لابتداء الغاية للدلالة على أن ابتداء إيتاء الكتاب كان من مدة القبل مع التأكيد، فكونهم قبلهم يجعلهم يأخذون الدروس، وأن يحذروا أن يكونوا كأهل الكتب المتقدمة و لا يتشبهوا بهم ولا يَسْلُكُوا سَبِيلَهم تحذيراً من أن يصيبهم مثل ما أصاب الذين أوتوا الكتاب من قبل لما تطاول عليهم الأمد غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين
وذكرعن بعنوان أهل كتاب يبين بيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم وتوبيخ لهم، لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن القسوة والفسق،لموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتو
قال الآلوسي: والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانت يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلي ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل:
اطفيش – التيسير {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} أهل التوراة والإِنجيل {مِن قَبْلُ} أى من قبلهم،ابن سعدي {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم.
*********************
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [28: 52]
الابتداء والتأكيد والقرب وتصويره بصورة القريب، فإيتاء الكتاب ناشئ ومبتدئ من قبلكم يشعر بالعلية، لأن الكتب السابقة فيها بشارة بالقرآن والقرآن مصدق للكتب السابقة، وهذا سبب ظاهر في إيمانهم فكتابنا مصدق لكتابهم موافق له وكتابهم فيه البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم، هم بهذا القرآن يؤمنون فيقرّون أنه حقّ من عند الله، ويكذّب جهلة الأميين، الذين لم يأتهم من الله كتاب، فالكتاب كله من عند الله، فهو متطابق، ومن أوتي أوله عرف الحق في آخره، فاطمأن له، وآمن به، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله.
******************
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [17: 107].
الرازي – ثم قال: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي إنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم خروا سجدا منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم
ابن كثير – {آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} أي: سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله؛ ولهذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدلوه ولا حرفوه {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} هذا القرآن، {يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ} جمع ذَقْن، وهو أسفل الوجه {سُجَّدًا أبو السعود – {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي العلماءَ الذين قرأوا الكتبَ السالفةَ من قبل تنزيلِه وعرَفوا حقيقةَ الوحي وأماراتِ النبوةِ وتمكّنوا من التمييز بين الحقِّ والباطلِ والمُحقِّ والمبطلِ ورأوا فيها نعتَك ونعتَ ما أنزل إليكالآلوسي: {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليكاطفيش – التيسير
{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} قبل القرآن قبل نزوله، وهم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسى، وكعب الأحبار، ممن عرف حقيقة الوحى، وأمارات النبوة، وتمكن من الفرق بين الحق والباطل، أو رأَى نعتك فى الكتب السابقة، ولم يغلبه هواه عليك، وكعب الأحبار رضى الله عنه أدرك النبى صلى الله عليه وسلم، وآمن به إلا أنه لم يره فهو من التابعين، لا من الصحابة، وهذا تعليل آمنوا به أو لا تؤمنوا به أو لا تؤمنوا، كأنه قيل لا أبالى بكم، لأنه قد آمن به مَن هو خير منكم، وهومن مقول القول، أو مستأنف من الله عز وجل،تسلية له صلى الله عليه وسلم، بأن لا يبالى بكفر السفهاء لإيمان العلماء المحققين، فهم عضد لك. اطفيش – الهميان: حبيب والمراد بالعلم علم التوراة والإِنجيل المشتمل على نبوتك ورسالتك إِلى الكافة ونعتك وتمييز الحق والباطل. {إِذَا يُتْلَى عَلَيِْهِمْ} أي إِذ يتلو القرآن عليهم.
*****************
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)}(12/100).

ابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية مع التأكيد، تفيد مع الابتداء القرب المجازي الرؤيا مع التأكيد والقبلية المجازية، فقد جعل ربى هذه الرؤيا التي رأيتها وقصصتها عليك أيام الصبا التي كانت من قبل هذا أي من قبل سجودكم حقاً فلم يجعلها أضغاث أحلام، وأراني تأويلها وتفسيرها حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت
***********************

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا) [48: 15]
من قبل: من قبل مرجعنا إليكم من الحديبية وقبل هذا الوقت وقبل تهيئهم للخروج إلى خيب قال سبحانه أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة
ابتداء الغاية في أول أزمنة القبلية مع التأكيد، تفيد مع الابتداء القرب في أول أزمنة القبلية بلا فاصل من قبل مباشرة، والحكمة من ذكر هذه الزيادة بيان أنه أمر مقرر ثابت لا محيد عنه، وقول الله سبحانه لا يخالف، لقطع أطماعهم في الإذن لهم باتباع الجيش الخارج إلى خيبر
البقاعي {من قبل} هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر ” خيبر ” المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية، وأمر بذلك فكان ما قال بعد اجتهاد بعض المخلفين في إخلافه فإنهم غيّرهم الطمع بعد سماعهم قول الله هذا، فطلبوا أن يخرجوا معه صلى الله عليه وسلم فمنعوا 76 فلم يحضرها غيرهم أحد،فارادوا تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها فمنعهم الله من ذلك

المعنى الخامس: في أي وقت من أوقات ما قبل هذا الأمر ولو في القبل القريب و غيره مع التأكيد.
وقال البقاعي [106]:عند قوله تعالى {كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا}: {من قبلك}: أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة.
أمثلة هذا القسم:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
في أي وقت من أوقات ما قبل الجماع ولو في الوقت القريب و غيره
فمن لابتداء الغاية الدالة على القرب فإن طلقتموهن طلاقا مبتدئا في أي مدة القبل السابق للمساس والدخول بهن ولو الوقت القريب فنصف ما فرضتم وفيها التأكيد، و والمراد بالمسيس الجماع، وبالفريضة المهر أي: وإن طلقتم يا معشر الرجال من قبل أن تدخلوا بهن وتباشروهن، ومن بعد أن قدرتم لهن صداقاً معلوماً، فالواجب عليكم في هذه الحالة أن تدفعوا لهن نصف ما قدرتم لهن من صداق، إلا أن تتنازل المرأة عن حقها فتتركه لمطلقها بسماحة نفس، ففائدة من بيان أن حكم الطلاق لمن طلق قبل مدة طويلة من الجماع كمن طلق قبل مدة قريبة، فلا تفاوت الحكم بين أن يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها، ومن تقوي المعنى المراد من ثم كما سيأتي.
*****************
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا) [الأحزاب: 49]
أي إذا عقدتم عقد النكاح ثم طلقتموهن في أي وقت في أي وقت من أوقات ما قبل المسيس أي الدخول بهن ولو في الوقت القريب، فمن لابتداء الغاية أصلها الدلالة على القرب، فما لكم عليهن من عدة وفيها معنى التأكيد، ففائدة من بيان أن حكم الطلاق لمن طلق قبل مدة طويلة من الجماع كمن طلق قبل مدة قريبة، ومعنى {نكحتم}: عقدتم عليهن فلا تفاوت الحكم بين أن يطلقها، وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها. قال البقاعي -: ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطىء، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطىء بالنكاح 30، أشار إليه بحرف التراخي فقال: {ثم طلقتموهن} أي بحكم التوزيع، وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال: زلة علم – وتلا هذه الآية.
ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقاً، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطىء لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة، أدخل الجار فقال: {من قبل أن تسموهن} أي تجامعوهن، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببها [107].
****************
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)6/ 158).
في أي وقت من أوقات ما قبل إتيان بعض الآيات، ولو في الوقت القريب،
فمن لابتداء الغاية الدالة على القرب، وفائدته بيان أن ما بعد إتيان بعض الآيات لا يقبل أما ما قبلها ولو بوقت يسير تقبل التوبة والإيمان، فإن لم تكن آمنت إيمانا مبتدئا في أي مدة القبل السابق لظهور الآيات العظام ولو الوقت القريب فلا ينفعه ومع التأكيد، فأي نفس لم تكن آمنت من قبل إتيان الآيات غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات لا ينفعها لأنه ينسد باب التوبة بظهور آيات القيامة، فهذه وقت عظيم لا تقبل فيه التوبة وأي نفس اغتنمت الفرصة فآمنت وأدركت نفسها من قبل قبل منها، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة. قال البقاعي: ويسر الأمر ببعض زمان القبل، ولم يكلف باستغراقه بالإيمان فقال: {من قبل} أي قبل مجيء الآية في زمن متصل بمجيئها [108].
****************
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}(7/155).
في أي وقت من أوقات ما قبل هذا الموقف وهو وقوفهم عند الجبل، ولو في الوقت القريب، فمن لابتداء الغاية والقرب مع التأكيد، يستعطف ربه ويتمنى عليه أن يا رب لو شئت أهلكت هؤلاء السبعين من قبل هذه هذا الموقف وإياي، ونحن بحضرة قومنا أي قبل خروجي بهم هذا الخروج للجبل وطلبهم الرؤية لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي لأنهم سيتهمونني، فالآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم– أي وإذا لم تفعل من قبل فأسألك برحمتك أن لا تفعل الآن [109].
****************
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (20 /114).
في أي وقت من أوقات ما قبل أن يقضى إليك نزول وحيه ولو في القبل القريب، أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاءه، فلا تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك جبريل، واصبر حتى يفرغ منه، فإذا فرغ منه فاقرأه، فإن الله قد ضمن لك جمعه في صدرك وقراءتك إياه وفيها التأكيد [110].
****************
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر 40: 67].
تفيد في أي وقت من أوقات القبل مع التأكيد وفي المضاف المحذوف قولان وإليك التفصيل:
القول الأول: من قبل الشيخوخة
الطبري والطوسي ومجاهد
القول الثاني: عبارة تتردد في الأدراج المذكورة كلها، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلاً، وآخرون قبل الأشد، وآخرون قبل الشيخوخة
قال ابن كثير أي: من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطا، ومنهم من يتوفى صغيرا، وشابا، وكهلا قبل الشيخوخة ابن عاشور مِن قَبْلُ} أن من قبل بعض هذه الأطوار، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلاً وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخاً وبُني {قبل} على الضم على نية معنى المضاف إليه، أي من قبل ما ذُكر
ابن عطية
القول الثالث:
من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا
************
(أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) [43: 21].
المراد بالكتاب الجنس أي هل آتيناهم في أي فترة من فترات القبل كتابا يؤيد ما يقولون ويدعونه من الشرك والأباطيل فهم مستمسكون به يستندون إليه في دعواهم، ويستندون إليه في عبادتهم، ويستمسكون بما فيه من حقائق، ويرتكنون إلى ما عندهم فيه من دليل!! فلذلك لا يؤمنون
الطبري وقوله: أمْ آتَيْناهُمْ كِتابا مِنْ قَبْلِهِ يقول تعالى ذكره ما آتينا هؤلاء المتخرّصين القائلين لو شاء الرحمن ما عبدنا الاَلهة كتابا بحقيقة ما يقولون من ذلك، من قبل هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد فهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ يقول: فهم بذلك الكتاب الذي جاءهم من عندي من قبل هذا القرآن، مستمسكون يعملون به، ويدينون بما فيه، ويحتجون به عليك.
الزمخشري أم آتيناهم كتاباً قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحي، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به.
ابن الجوزي -يأخذون بما فيه.
الفخر الرازي والمعنى أنهم (هل) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه، وأن يتمسكوا به، والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار، ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلا.
سيد قطب يستندون إليه في دعواهم، ويستندون إليه في عبادتهم، ويستمسكون بما فيه من حقائق، ويرتكنون إلى ما عندهم فيه من دليل!! ابن عاشور: و {مِن} مزيدة لتوكيد معنى (قبْل). والضمير المضاف إليه (قَبْل) ضمير القرآن ولم يتقدم له معاد في اللّفظ ولكنه ظاهر من دلالة قوله: {كتاباً}.

المعنى السادس [111]:
التوكيد الخاص الذي يفيد معنى الاشتراط، وهناك توكيد عام يجتمع مع كل المعاني السابقة، وهناك ونوع خاص يفيد معنى الاشتراط وأن ما بعدها لا يمكن أن يحصل إلا بحصول مجرورها أو أنه ما حصل إلا بحصول أمر معين قطعا، و(من) في الحقيقة الآيات التي مثلت للتأكيد تفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية والتأكيد وأن الأمر موقوف على تحقق شيء عندها يتحقق شيء آخر.
*******************
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (3)(58/3).
فيها ابتداء الغاية مبتدئا من قبل المساس فلا بد أن يكون التحرير في في أي مدة ما قبل المساس لا بعده، مع التأكيد وفيها معنى الشرط كأنه قيل بشرط أن يكون قبل المساس فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر تفيد ثلاثة أمور: ابتداء الغاية، والتأكيد، وأن الأمر موقوف على تحقق شيء فعندها يتحقق شيء آخر
الطبري: وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَمَاسّا يقول: فعليه تحرير رقبة، يعني عتق رقبة عبد أو أمة، من قبل أن يماسّ الرجل المظاهر امرأته التي ظاهر منها أو تماسه. البغوي قوله: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} والمراد بالتماس: المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر، سواء أراد التكفير بالإعتاق أو بالصيام أو بالإطعام الزمخشري ثم قال: {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} يعني: والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة. الفخر الرازي ويقتضي قوله: {من قبل أن يتماسا} أن يكون التكفير قبل الجماع، وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون التكفير بعد العود، وقبل الجماع، جب أن يكون العود غير الجماع،قال البيضاوي من قبل أن يتماسا أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه أو أن يجامعها، وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير ذلكم أي ذلكم الحكم بالكفارة توعظون به، لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه والله بما تعملون خبير لا تخفى عليه خافية أبو حيان {من قبل أن يتماسا}: لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر، فإن فعل عصى، ولا يسقط عنه التكفير. البقاعي
ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه، أدخل الجار فقال: {من قبل}
قال أبو السعود: – {من قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أيْ مِنْ قبلِ أنْ يستمتعَ كلٌ منَ المُظاهِرِ وَالمُظاهَرِ منْهَا بالآخرِ جماعاً وَلَمساً ونظراً إلى الفرجِ بشهوةٍ وإنْ وقعَ شيءٌ من ذلكَ قبلَ التكفيرِ يجبُ عليهِ أنْ يستغفرَ ولا يعودَ حتَّى يكفرَ وإنْ أعتقَ بعضَ الرقبةِ ثمَّ مسَّ عليهِ أنْ يستأنفَ عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تَعَالَى ابن عاشور
وبهذا يكون محمل قوله: {من قبل أن يتماسا} على أنه من قبل أن يمسّ زوجه مسّ استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [البقرة: 237].
ولذلك جعلت الكفارة عِتق رقبة لأنه يَفتدي بتلك الرقبة رقبةَ زوجه.
**************************
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا (58/4)
فيها ابتداء الغاية مبتدئا من قبل المساس فلا بد أن يكون الصيام في أي مدة ما قبل المساس لا بعده، مع التأكيد وفيها معنى الشرط كأنه قيل بشرط أن يكون قبل المساس فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر

القرطبي، لقوله تعالى: ” من قبل أن يتماسا ” وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين، وإلى أبعاضهما، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به، فلزمه استئنافه، كما لو قال: صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة، أو قال: صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها؛ لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا، والله أعلم. البيضاوي فمن لم يجد أي الرقبة والذي غاب ماله واجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف وإن أفطر لعذر ففيه خلاف وإن جامع المظاهر عنها ليلا لم ينقطع التتابع عندنا خلافا لأبي حنيفة السمين الحلبي ” مِنْ قبلِ ” متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي: فيلزَمُه تحريرُ أو صيام، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما. والضميرُ في ” يتماسَّا ” للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما.
ابن عاشور
وأعيد قيد {من قبل أن يتماسا} للدلالة على أنه لا يكون المسّ إلا بعد انقضاء الصيام، فلا يظن أن مجرد شروعه في الصيام كافٍ في العود إلى الاستمتاع.
***************
حذف (من):
الحالة الأولى:
ما أفاد معنيين معا:
المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء فيفيد أولا أن التركيز فيه على أن شيئا قبل شيء بدون نظر لابتداء ولا تأكيد ولا تنصيص على عموم أو استيعاب [112].
.قال الإسكافي في درة التنزيل (1/898) [113]: أما دخول “مِن ” وحذفها فهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.
المعنى الثاني:
إفادة عموم القبل أي العموم في جميع الأزمنة الماضية، فـ(قبل) فالمراد جميع المدة السابقة أي جميع الزمن المتقدم على زمانهم بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان و استغراق جميعه، الذي يوجد قبل المضاف، لكن بدون نظر لابتداء ولا قرب ولا استغراق من أول لحظاته ولا تأكيد، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد أو لأن السياق لا يتطلب التوكيد، فذكر (من) في (من قبلك) أبلغ من (قبل) بدون (من).
ذكر إفادة حذف (من) للاستيعاب من غير تأكيد ولا تعيين ابتداء وانتهاء: ابن جماعة [114] و الإسكافي [115]، وأبو جعفر بن الزبير [116]، والبقاعي [117] وصالح الشتري [118] وغيرهم.
وقبل ذكر الأمثلة نقرر أن القرآن الكريم أدق من ميزان الذهب في كل شيء ومن ذلك مقدار احتياج السياق للتأكيد وعدمه فأكد القرآن الكريم بـ(من) (من قبل) في السورة التي تحتاج إلى توكيد ولم يؤكد في السور التي لا تحتاج إلى توكيد وهذا يتطلب منا بعض التأمل لإدراك هذا: فذكر (من) جاء مع التكذيب في السور الآتية: الأنعام التي فيها نقاش طويل شديد مع المشركين، وكذلك سورة يونس التي مبناها كالأنعام في الرد على شبهات المشركين، وسورة سبأ التي فيها الرد على شبهات المشركين وإبطال شركهم بقوة وتهديدهم، وكذلك سورة فاطر، وسورة الزمر، وسورة الملك.
وجاء ترك (من) عند الكلام على إهلاك الأقوام السابقين: في سورة مريم، وطه، وق، وهذه السور لم تتكلم على الإهلاك إلا في آيات قليلة وليس مبناها على هذا، وهذا نستطيع أن ندركه بالتأمل [119]، و بين درجة التوكيد في كل من هذه المواضع أبو جعفر بن الزبير [120]، والإسكافي [121].
وعلينا أن نتنبه إلى أن (من) قد تحذف ـ مع ما سبق ـ لأمر لفظي كأن يتقدمها حذف من فتحذف.
أمثلة الحالة الأولى:
الآية الأولى:
{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(10 /91).
قبل تفيد معنيين:
المعنى الأول:
بيان أن عصيانه كان قبل الغرق ونزول العذاب بدون نظر لابتداء ولا تأكيد ولا تنصيص على عموم أو استيعاب.
المعنى الثاني:
إفادة عموم القبل مدة عمرك كلها في الفساد وقد أمهل فلم يتب فلا تنفعه التوبة، فـ(قبل) فالمراد جميع المدة السابقة بحيث تشمل القريب والبعيد، وتفيد تعميم الزمان واستغراق جميعه،، لكن بدون نظر لابتداء ولا قرب ولا استغراق التعميم من أول لحظاته ولا تأكيد،، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد لأن كونه مفسدا واضح فلا يحتاج للتأكيد ولا سيما وهو الآن في فترة النزاع فمن تحقيره وتعذيبه أن لا يؤكد له.
والمعنى: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك
قال البقاعي: وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام: {آلآن} أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه {وقد} أي والحال أنك قد {عصيت} أي بالكفر {قبل} أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر‍! {وكنت} أي كوناً جبلياً {من المفسدين*} أي العريقين في الفساد والإفساد
*******************
الآية الثانية:
(قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [11: 62]
تفيد أن الرجاء كان قبل دعوته أما بعد ما جاءهم بهذه الدعوة فلا يرجونه، وأن هذا الرجاء كان في جميع مدة القبل أما الآن فلا رجاء، ولم يؤكدوا لأن هذا الأمر وهو رجاؤنا كان واضحا جدا لك ولغيرك فلا يحتاج للتأكيد، ومعنى الآية: كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لنتفع بك وتكون مشاورا في الأمور ومسترشدا في التدابير فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك.
قال البقاعي: {مرجواً} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا: {قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد[122].
*******************
الآية الثالثة:
{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [51: 16]
حذف من يفيد أولا أنهم كانوا قبل دخولهم الجنة وقبل هذا النعيم محسنين محسنين بالطاعة والعمل الصالح فما نالوه من النعيم نالوه بإحسانهم، وتفيد أيضا الاستيعاب في جميع مدة القبل في الدنيا في دار العمل، بدون حاجة إلى التأكيد، فالسياق لا يحتاج لا تأكيد.
قال البقاعي {إنهم كانوا} أي كوناً هو كالجبلة. ولما كان الإنسان إما أن يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه… على الطاعة، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه، نزع الجارّ فقال: {قبل ذلك} أي في دار العمل،
قال ابن عاشور: وفائدة الظرف في قوله: {قبلَ ذلك} أن يؤتى بالإشارة إلى ما ذكر من الجنات والعيون وما آتاهم ربهم مما لا عين رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيحصل بسبب تلك الإشارة تعظيم شأن المشار إليه، ثم يفاد بقوله {قبل ذلك}، أي قبل التنعم به أنهم كانوا محسنين، أي عاملين الحسنات كما فسره قوله: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} الآية. فالمعنى: أنهم كانوا في الدنيا مطيعين لله تعالى واثقين بوعده ولم يروه.
******************
الآية الرابعة:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [19: 74]
تفيد فائدتين: أن الإهلاك للأمم المكذبة ولو كانت في غاية الإنعام حصلت قبلهم وحذف(من) يدل على الاستيعاب فهي سنة مطردة لكن من غير تأكيد، وعدم التأكيد، لأن السياق إلى السياق [123]، وأيضا ليدل على كون كثيرا من الأمم أهلكت وكانت أكثر أثاثا ورئيا لا يحتاج إلى دليل لوضوحه وكثرة شواهده ولأن السياق لا يحتاج لتأكيد، ففي سورة مريم ليس هناك توكيد للوعيد وزيادة في التشديد بحيث يحتاج لزيادة من لا سيما أن سورة مريم ذكر فيها الرحمة كثيرا بل هي أكثر سورة ذكر فيها اسم الرحمن.
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل:
ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ـ ـ ـ وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآي الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم “نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ” ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى “إنما نملى لهم ليزداوا إثما ” ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله “فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ” فليست في التغليظ كتلك الآي إذا حقق ما قبلها.
قال البقاعي: ولما كان المراد استغراق الزمان، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال: {قبلهم من قرن} أي شاهدوا ديارهم، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله: {هم} أي أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي أمتعة {ورئياً *} أي منظراً
أبو السعود {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا} أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفي، كأنه قيل: فلينتظِرْ هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك (فكم) مفعولُ أهلكنا و (من قرن) بيانٌ لإبهامها.
******************
الآية الخامسة:
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [19: 98]
مثل الآية السابقة وهي أيضا في سورة مريم

قال البقاعي: ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول {ينذر}: فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم، عطف عليه قوله: {وكم أهلكنا} 39 بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف عرياً عن الجار، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال: {قبلهم من قرن} كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم [124].
قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل:
ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ـ ـ ـ وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآي الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم “نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ” ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى “إنما نملى لهم ليزداوا إثما ” ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله “فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ” فليست في التغليظ كتلك الآي إذا حقق ما قبلها.
******************
الآية السادسة:
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ}.(36/ 31) سورة يس.
تفيد أن إهلاك القرون حصل قبلهم فلهم أن يعتبروا به وأنه استوعب جميع مدة القبل فهي سنة، ولم يؤكد لأن السياق في سورة يس ليس لتفصيل أحوال الأمم السابقة بل لاستعراض آيات الله وأحوال يوم القيامة والرد على شبه الكفار وانظر إلى السياق [125]، وأيضا لظهور الأمر كأنه يقول هذا أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تأكيد، وأدنى نظرة إلى القرون السابقة تظهر أن الأمم التي أهلكت لم يرجع منهم أحد، ولما كان السياق في سورة السجدة أشد مما ها هنا زاد من.
قال البقاعي -ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله: {ألم يروا} أي:يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار: {كم أهلكنا} على ما لنا من العظمة، ودل قوله: {قبلهم} – بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار – على أن المراد:جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد: انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال: {من القرون} أي:الكثيرة الشديدة الضخمة، والقرن[126]
وللسامرائي رأي آخر يوافق ما ذكرنا من جهة ويخالفه من جهة أخرى:
[36: 31]قال السامرائي في كتاب على طريق التفسير البياني: وأما قوله تعالى {قبلهم}{من قبلهم} فإن(من) تفيد ابتداء الغاية فتفيد الزمن الذي قبل المعنيّين بالضمير مباشرة فما قبله وأما قبلهم فيفيد الزمن القريب والبعيد كما هو معلوم فقوله {كم أهلكنا من قبلهم} فيه تهديد وتوعد أكبر من قوله تعالى {قبلهم} بدون من وذلك لأن إهلاك القريب أدعى إلى الموعظة والعبرة من إهلاك البعيد وهو أشد تأثيرا في النفوس فكلما كان الهالك أقرب زمنا من الشخص كان أدعى إلى الموعظة من ذوي الأزمان السحيقة ولذلك يستعمل من قبلهم في مواطن التهديد والتوعد الشديد ففي السجدة السياق أشد {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) ففي السجدة يمشون في مساكنهم وهذا أدل على التوعد وفي السجدة {إن في ذلك لآيات} وفهيا {أفلا يبصرون} {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى ــ} فالمقام في السجدة أدل على التهديد والوعيد من سورة يس فجاء مع من في سورة يس إضافة إلى ما ذكرناه وهو أنه قال في ختام الآية {أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إضافة إلى ما ذكرناه وهو أنه قال في ختام الآية {أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إلى الدنيا وإن تطاول عهدها بالفناء وابتعد زمانها وأن الأمم الهالكة جميعها لا تعود إلى الدنيا وليس ذلك مختصا بما زمنه قريب منهم فإنه لم ترجع أمة أبيدت وأهلكت منذ أول الدنيا إلى الآن ولن ترجع إليها في المستقبل وإنما سيجمعها ربها ويرجعها إليه وهذا أدعى إلى حذف من ليشمل جميع الأمم ابتداء من أول الدنيا.
******************
الآية السابعة: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [56: 45].
حذف من يفيد فائدتين أن قبل هذا العذاب الفظيع الذي وصلوا إليه، كان هناك ترف استعمل في الكفر والمعصية تسبب في هذا، وتفيد التعميم في جميع فترة الدنيا لكن بدون تأكيد لأن السياق لا يحتاج إلى تأكيد لأنه حكاية لجرائمهم [127]، من الله تعالى لعباده لا سيما المؤمنون فلا يحتاج إلى تأكيد.
قال البقاعي وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو بتهيئهم له جبلة وطبعاً فقال: {كانوا} أي في الدنيا. ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع، نزع الجار فقال: {قبل ذلك} أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه {مترفين *} أي في سعة من العيش منهمكين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين فيها لترامي طباعهم إليها فأعقبهم ما في جبلاتهم من الإخلاد إلى الترف عدم الاعتبار والاتعاظ في الدنيا والتكبر على الدعاة إلى الله، وفي الآخرة شدة الألم لرقة أجسامهم المهيأة للترف بتعودها بالراحة بإخلادها إليها وتعويلها عليها
قال ابن عاشور: والإِشارة في قوله: {قبل ذلك} إلى {سموم وحميم وظل من يحموم} [الواقعة: 42، 43] بتأويلها بالمذكور، أي كانوا قبل اليوم وهو ما كانوا عليه في الحياة الدنيا.
ولننظر في السياق: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50).
******************
الآية الثامنة:
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى} [20: 128].سورة طه
تفيد أمرين: أن هذا الإهلاك كان قبلهم فهم في مقدورهم أن يعتبروا وينظروا وأن الإهلاك استوعب مدة القبل فهي سنة مطردة، وسورة طه ليس السياق بمقتض للتأكيد ألا ترى ما قوله تعالى “أفلم يهد لهم ” وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله “لأولى النهى ” من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآي الثلاث، فسياق سورة طه لذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون ثم أحوال الآخرة وليس فيها تفصيل لأحوال الأمم السالفة [128] قال د صالح الشتري: فسورة السجدة تتميز بالشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد فانظر إلى قوله تعالى{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} وكان ختم السورة بقوله {وانتظر إنهم منتظرون} وقد وقعت الآية بين هذين الوعيدين والتهديدين فناسب ذكر من وأما آية طه فلم يرد فيها من التغليظ في الوعيد وتوالي التهديد ما في سورة السجدة وهذا في الحقيقة استقراء واستخلاص جيد من أبي جعفر بن الزبير وأيضا لما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم.
******************
الآية التاسعة:
{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ) [22: 42].الحج
لم تؤكد لأن الكلام على إهلاك الأقوام السابقين لم يأخذ كثيرا من السياق فلم يأخذ إلا آيات معدودة [129]، ولأن السياق في تفصيل الحج وأحوال الآخرة
الفخر الرازي: اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر الله سبعة منهم.
قال أبو حيان: {وإن يكذبوك} الآية فيها تسلية للرسول بتكذيب من سبق من الأمم المذكورة لأنبيائهم، ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة [130].
******************
الآية العاشرة:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} [38: 12] سورة ص.
يقول علي هاني: لم يؤكد هنا لأنه أكد في بداية السورة وأيضا زيادة في تحقيرهم المناسب لقوله تعالى قبل هذه الآية {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} انظر إلى الآيات الكريمات:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) قال البقاعي: ولما أوجب ذلك التشوف إلى بيان الأحزاب الماضية، وكانوا أحقر شيء بالنسبة إليه سبحانه مع شدتهم في أنفسهم، بين ذلك بالتاء الدالة على الرتبة الثانية المؤخرة، وهي رتبة التأنيث اللازم منه الضعف فقال: {كذبت} ولما كانت نيتهم التكذيب لا إلى آخر، عدّوا مستغرقين للزمان فنزع الجار وقيل: {قبلهم} أي مثل تكذيبهم. ولما كان لأول المكذبين من الكثرة والقوة والاجتماع على طول الأزمان ما لم يكن لمن بعدهم، كانوا مع تقدمهم في الزمان أحق بالتقديم في هذا السياق فقال: {قوم نوح} واستمروا في عزتهم وشقاقهم إلى أن رأوا الماء قد أخذهم، ولم يسمحوا بالإذعان ولا بالتضرع إلى نوح عليه السلام في أن يركبوا معه أو يدعو لهم فينجوا.
قال السامرائي مبينا سر التأكيد في أول سورة ص: ومثل هذا الفرق بين ق وص: قال سبحانه في ص {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} وقال تعالى في ق{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
ففي ص من قبلهم وفي ق قبلهم ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في ص أشد مما في ق فإنه قال في ق لم يزد على أن قال بعد هذه الآية {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة وأما في ص فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في ق فقد قال بعد هذه الآية {وعجبو ا أن جاءهم ــ ــ ـ بل لما يذوقوا عذاب} فقد ذكرأنهم قالوا هذا ساحر كذاب وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصوا بذلك وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم في حين لم يزد في ق على أن قال {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} واستبعدوا البعث بقولهم {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وعلاوة على ذلك فقد توعدهم بالعذاب بقوله {بل لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه ثم تهددهم مرة أخرى بقوله {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
فالفرق بين المقامين واضح فإن موقف الكفار من الرسول في ص أشد وكان تهديده وتوعده لهم أشد فقال في ص من قبلهم وقال في ق قبلهم فاتضح الفرق بين قوله {وكم أهلكنا قبلهم} {ومن قبلهم} وهناك أمر آخر حسن قولهم {قبلهم}
******************
الآية الحادية عشرة:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ 12 وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14سورة ق
يقول علي هاني: ليس في سورة ق إطالة في ذكر الأمم المهلكة فهي تركز على الآيات الكونية وأحوال يوم القيامة وليس فيها تأكيدات تستدعي ذكر من لذلك حذفت في الموضعين ولننظر إلى السياق [131]:
قال ملاك التأويل: وأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله ” أفلا يشكرون ” وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ” فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب
قال البقاعي: ولما وصل الأمر إلى حد لا خفاء معه، فصح أنهم يعلمون ذلك ولم يحملهم على التصريح بالتكذيب به إلا المبادرة إلى ذلك بغلبة الهوى من غير تأمل لعاقبته، فصار من باب لزوم الغلط، وكان السياق لإنكار البعث الذي جاء به منذر من القوم المنذرين، كان كأنه قيل: إن إنكار هؤلاء أعجب، فهل وقع هذا لأحد قط، فقال تعالى مسلياً لهذا النبي الكريم لأن المصيبة إذا عمت هانت، مبيناً لمجد القرآن ولمجد آياته تحقيقاً للإنذار وتحذيراً به لا للنصيحة: {كذبت} وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: {قبلهم}.
ابن عاشور استئناف ابتدائي ناشىء عن قوله: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم} [ق: 5] فعُقّب بأنهم ليسوا ببدع في الضلال فقد كذبت قبلهم أمم. وذكر منهم أشهرهم في العالم وأشهرهم بين العرب، فقوم نُوح أول قوم كذبوا رسولهم وفرعون كذب موسى وقوم لوط كذبوه وهؤلاء معروفون عند أهل الكتاب، وأما أصحاب الرسّ وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع فهم من العرب.
قال السامرائي: ومثل هذا الفرق بين ق وص
قال سبحانه في ص {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)} وقال تعالى في ق{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)}
ففي ص من قبلهم وفي ق قبلهم ومن النظر في السياق الذي وردت فيه كل من الآيتين يتضح أن التوعد والتهديد في ص أشد مما في ق فإنه قال في ق لم يزد على أن قال بعد هذه الآية {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} ثم انتقل إلى أمر آخر ثم إلى الحشر في الآخرة وأما في ص فإن السياق يختلف فقد ذكر من موجبات توعدهم ما لم يذكره في ق فقد قال بعد هذه الآية {وعجبو ا أن جاءهم ــ ــ ـ بل لما يذوقوا عذاب} فقد ذكر أنهم قالوا هذا ساحر كذاب وتعاهد الملأ على نصرة الآلهة وتواصوا بذلك وقالوا إن ما أتى به الرسول إنما هو اختلاق وكذب وعجبوا كيف ينزل عليه الذكر من بينهم في حين لم يزد في ق على أن قال {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب} واستبعدوا البعث بقولهم {أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} وعلاوة على ذلك فقد توعدهم بالعذاب بقوله {بل لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوه بعد وسيذوقونه ثم تهددهم مرة أخرى بقوله {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق
فالفرق بين المقامين واضح فإن موقف الكفار من الرسول في ص أشد وكان تهديده وتوعده لهم أشد فقال في ص من قبلهم وقال في ق قبلهم فاتضح الفرق بين قوله {وكم أهلكنا قبلهم} {ومن قبلهم} وهناك أمر آخر حسن قولهم {قبلهم}
******************
الآية الثانية عشرة: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) [50: 36] هذه الآية في سورة ق أيضا.
قال ملاك التأويل:
فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة “من ” في قوله تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ” وفي سورة السجدة: “ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ” وفي ص: “كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا… “.
وردت هذه الآي الثلاث بزيادة “من “فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها “من “كقوله تعالى في سورة مريم: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” وفي آخرها: ” وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ” وفي طه: “أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم “، وفي يس: “ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون “وفي سورة ق: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ” فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها “من ” فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن “من ” إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ماوأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من قوله ” أفلا يشكرون ” وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ” فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب ويجب والله أعلم. البقاعي -ولما كان المراد تعميم الإهلاك في جميع الأزمان لجميع الأمم، نزع الجار بياناً لإحاطة القدرة فقال: {قبلهم} وزاد في دلالة التعميم فأثبته في قوله: {من قرن} أي جيل هم في غاية القوة، وزاد في بيان القوة فقال: {هم}
******************
الآية الثالثة عشرة:
(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [55: 56]
عدم التأكيد واضح فهي في ذكر أوصاف الجنة وفي إخبار المؤمنين بهذه الأمر والتركيز فيها على أنه قبلهم مطلقا.
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ} يعني: لم يمسسهن إنس، {قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} يعني: لا إنساً، ولا جنياً.. قال الفراء: الطمث: هو الوطء بالتدمية، وهو الافتضاض. أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن {إنس قبلهم} أي قبل أزواجهن من أهل الجنة،، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم البقاعي ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: {قبلهم} أي المتكئين {ابن عاشور
وقوله: {إنس قبلهم} أي لم يطمثهن أحد قبل، وقوله: {ولا جان} تتميم واحتراس وهو إطناب دعا إليه أن الجنة دار ثواب لصالحي الإِنس والجن فلما ذكر {إنس} نشأ توهم أن يمَسهن جن فدفع ذلك التوهم بهذا الاحتراس.
******************
الآية الرابعة عشرة:
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [55: 74]
قبل أصحاب الجنتين، دل عليهم ذكر الجنتين.البقاعي وعم الزمان بحذف الجار فقال: {قبلهم} أي انتفي الطمث المذكور في جميع الزمان الكائن قبل طمث أصحاب هذه الجنان لهن، فلو وجد في لحظة من لحظات القبل لما صدق النفي {ولا جان *} فهن في غاية الاختصاص كل بما عنده
******************
الآية الخامسة عشرة: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) [69: 9].
يقول علي هاني: أن الذين قبله جاءوا بمثل ما جاء به من الخاطئة وتفيد التعميم مع عدم التأكيد لأمرين لأن السياق لا يتطلب التأكيد ولأمر لفظي لئلا تتكرر من.
، ومن قَبْلَه من الأمم السالفة التي كذبت الرسل كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط بالخطيئة
قال الفخر الرازي أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو، ومن لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين
قال البقاعي وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل ” بعد ” بزيادة.
قال ابن عاشور -وشمل قوله: {ومَن قبله} أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
قال سيد طنطاوي: والمراد بمن قبله: الأقوام الذين سبقوه في الكفر، كقوم نوح وإبراهيم – عليهما السلام -.
******************
الحالة الثانية:
تفيد معنين معا: المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء المعنى الثاني: أنه قبل مدة طويلة أي: إذا لم يكن الزمن قريبا بل بعيدا.
قال البقاعي (18/19) عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17]، {ولقد فتنا} أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال. ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكنة، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال: {قبلهم} أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة.
وقال البقاعي: {كذبت} ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض: {قبلهم}
أمثلة هذا القسم:

الآية الأولى:
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)
[19: 23].
تفيد فائدتين: أنها تمنت أن الموت حصل قبل هذا المخاض خافت من الناس أن يظنوا بها سوءاً واستحياء وهي تعرف أنه لن يحمل الناس أمرها فيه على السداد، ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية والفائدة الثانية: أن هذا الموت حصل قبل فترة طويلة مديدة. وحملها البقاعي على الاستغراق وما ذكرته أحسن [132].

الآية الثانية:
(قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [12: 37].
تفيد أن هذا قبل هذا بيان أن شيئا قبل شيء وأنه ينبئهم قبل وقت طويل من إتيان الطعام،، ولم يؤكد؛ لأن هذا الأمر كان واضحا جدا فلا يحتاج للتأكيد، لأنه واثق مما يقول يبين لهما بكل ثقة لا تقبل الشك فلا يحتاج أن يؤكد فأظهره في صورة الواضح، ولأن الأهم في الإنباء أن يكون في فترة القبل وقد تطول وقد تقصر [133].
*******************
الآية الثالثة:
{(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [12: 76].
الآية تركز أن هذا قبل هذا أن البدء بأوعية أخيه قبل البدء بوعائه، بدون تأكيد ولا تنصيص على عموم، لأنه لا يحتاج إلى تأكيد لأن هذا الذي فعله هو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، وتدل على أنه أخر تفتيش وعائه و تأنى في التفتيش في أوعيتهم ليوري عليهم؛ لذلك حذف الخافض، وليس المعنى أنه بدأ بأوعيتهم من قبل وعائه مباشرة وليس المراد الاستيعاب فحذف من.
ويزيد في هذا التعبير بثم والتعبير باستخرجها قال محمد الأمين الخضري في من أسرار حروف العطف ص 183 ” قال محمد الأمين الخضري: ومما دلت فيه ثم على التلطف والمبالغة في إحكام الحيلة قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام، حين احتال على استبقاء أخيه بتسريقه ودس الصواع في وعائه وإخراجه {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}فلم يمض من الوقت بين التنقيب في أوعية إخوته والوعاء الذي دس فيه الصواع ما يستوجب حرف المهلة لكنه التلطف والتمويه على المشاهدين بتأخير البحث في الوعاء المنشود ومحاولة الانصراف عنه لإظهار اليأس من وجود ما يبحثون عنه كل هذه المصانعة والحذر من أن يتسرب الشك إلى نفوس الإخوة لو بدءوا به وتعجلوا استخراجه هو الذي بسطه حرف المهلة وأبرزه في صورة زمن ممتد ألا ترى كيف عدل النظم الكريم من أن يقول أخرجها إلى استخرجها فأطالت هذه الزيادة في الحروف زمن البحث ومطته مبالغة في إعمال الحيلة هذا إلى جانب ما يصوره حرف المهلة من الخوف والترقب الذي كان يملأ نفوس إخوة يوسف وهم يتابعون البحث في أمتعتهم انتظارا لما يسفر عنه فيضغط الزمن على نفوسهم ويطول قصيره في أعينهم

قال البقاعي: ولما لم يكن – بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه – فاصل يعد فاصلاً، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال {قبل وعاء أخيه} أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعاداً عن التهمة
قال الماوردي: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاءِ أخيه} لتزول الريبة من قلوبهم لو بدئ بوعاء أخيه.
قال الطبري يقول تعالى ذكره: ففتّش يوسف أوعيتهم ورحالهم طالبا بذلك صُواع الملك، فبدأ في تفتيشه بأوعية إخوته من أبيه، فجعل يفتشها وعاء وعاء قبل وعاء أخيه من أبيه وأمه، فإنّه أخّر تفتيشه، ثم فتش آخرها وعاء أخيه، فاستخرج الصواع من وعاء أخيه.
*******************
الآية الرابعة: مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [13: 6]
قبل الأولى النظر فيها أن شيئا قبل شيء، وفيه إشارة أنهم يستعجلون بالسيئة قبل فترة طويلة قبل الحسنة والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها واختيارها وترجيحها قبلها كأَنه قيل، بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة وقدموا في اختيارهم العذاب، وتركوا الإِبقاءَ بدونه، وهو الإمهال فكأنها المختارة السابق اختيارها عندهم ليدل على غاية عتوهم، {قَبْلَ الْحَسَنَةِ}: متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له، أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار يطلبون منك ما يسوؤهم ان يعجل لهم وهو النقمة والعذاب والعقوبة، كما قالوا ” امطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم ” 1 قبل ان يسألوا الاحسان بالانظار لهم، وقد حكم الله تعالى ان يمهلهم التوبة وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات المنكلات التي تجعل الإنسان مثلا وتزجر عن مثل ما وقعت لأجله، وجعلناهم} الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته.
والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها والقبيلة اختياره كأَنه قبل قدموا في اختيارهم العذاب، وتركوا الإِبقاءَ بدونه، وهو الإمهال فإن وقبْليّة السيئة قبلية اعتبارية، أي مختارين السيئة دون الحسنة قبل الحسنة الحسنة ههنا الإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم.
قال الطبري: يقول تعالى ذكره: ويستعجلونك يا محمد مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، فيقولون: اللّهُمّ إنْ كانَ هذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ وهم يعلمون ما حلّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذّبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه
*******************
الآية الخامسة:
(قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [27: 46].
مثل الآية السابقة.
البقاعي: {لم تستعجلون} أي تطلبون العجلة بالإتيان {بالسيئة} أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر {قبل} الحالة {الحسنة} من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب له. واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء
ابن عاشور فالقبلية في قوله: {قبل الحسنة} مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة.

*******************
الآية السادسة:
{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)} (38/16).
تفيد أمرين أنهم يريدون العذاب قبل يوم الحساب وأنهم يستعجلونه استعجالا كثيرا فهم يريدونه قبل يوم القيامة بوقت طويل وهذا فيه غاية الاستعجال بخلاف ما لو قال من قبل يوم الحساب فهي تحتمل المبادرة والإسراع وأن القيامة على وشك الحصول نحو {من قبل أن يأتي يوم} وليس مرادا أو تحتمل القرب من يوم الحساب.
فالاستعجال طلب التعجيل، وهو الاتيان به قبل وقته الذي ينبغي أن يفعل فيه. وكان هؤلاء الجهال إذا خوفوا بالعقاب قالوا، على جهة الانكار لصحته متي هو؟ وهلا يأتينا به؟والقط في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة.
فإنما سألوا تعجيل حظهم من العذاب طلبوا حظهم من العذاب تهزءا بخبر الله وشكا فيه والقط النصيب وأصله القطع من قولك قطه يقطه قطا مثل قده يقده قدا، ومنه قولهم: ما رأيته قط أي قطع الدهر الذي مضى ” قبل يوم الحساب ” أي قبل اليوم الذي يحاسب فيه الخلق ويجازون فيه على أعمالهم على ما يقولونه.
الزمخشري القط: القسط من الشيء؛ لأنه قطعة منه، من قطه إذا قطعه. ويقال: لصحيفة الجائزة: قط، لأنها قطعة من القرطاس، وقد فسر بهما قوله تعالى: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته، كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ العذاب} [الحج: 47] البقاعي ولما كان المراد بهذا المبالغة في الاستهزاء بطلب العذاب في جميع الأزمان التي بينهم وبين القيامة، أسقطوا حرف الجر وقالوا: {قبل يوم الحساب *} فجعلوا جميع الزمان الذي بينهم وبينه ظرفاً لذلك، وجعلوا تعجيله من الإحسان إليهم دلالة على الإعراق في الاستهزاء،
ابن عاشور:
وعلى تسليم اختصاص القطّ بصكّ العطاء لا يكون ذلك مانعاً من قصدهم تعجيل العقاب بأن يكونوا سموا الحظ من العقاب قِطًّا على طريق التهكم، كما قال عمرو بن كلثوم إذ جعل القتال قِرى:
قريناكم فعجلنا قِراكم *** قُبيل الصبح مِرْدَاة طحونا
فيكونون قد أدمجوا تهكماً في تهكم إغراقاً في التهكم.
وتسميتهم {يَومِ الحسابِ} أيضاً من التهكم لأنهم لا يؤمنون بالحساب.
*******************
الآية السابعة:
(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [18: 109].
تفيد فائدتين: أن نفاد البحر حاصل قبل نفاد كلمات الله والمراد أن كلمات الله لا تنفد لكن البحر ينفد قبلها
والفائدة الثانية: أن البحر ينفد بسرعة سابقة جدا لكلمات الله وكلمات الله مستمرة ففيه بيان أن النفاد سابق في مدة مديدة ولا تنفد كلمات الله.
قال الزمخشري: المداد: اسم ما تمدّ به الدواة من الحبر وما يمدّ به السراج من السليط. ويقال: السماد مداد الأرض. والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها، والمراد بالبحر الجنس {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ} الكلمات {وَلَوْ جِئْنَا} بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً. والكلمات غير نافدة “.انتهى
أي لو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا لنفد ولم تنفد كلمات الله معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية،و تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي ألبتة بغير المتناهي والمتناهي ينفذ قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر، والمراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة، وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو {قَبْلَ} إمكان نفاد كلمات الله؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه (لو) كان المعنى لو كان البحر مداداً لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنف فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ د كلمات ربّي، وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها [134].
*******************
الآية الثامنة:
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) [20: 130]
تفيد فائدتين: الفائدة الأولى: أن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فشيء قبل شيء والفائدة الثانية: أن التسبيح لا بد أن يكون بوقت طويل قبل طلوع الشمس وقبل الغروب مستغرقا ما بينهما، والسياق لا يحتاج إلى التأكيد، بخلاف آناء الليل بعضه تيسيرا على الناس فقال {ومن آناء الليل}، وأما إذا حملنا قبل طلوع الشمس على صلاة الصبح وقبل غروبها على العصر فعدم إدخال من فلأن طلوع الشمس غير متصل بصلاة الفجر بل بينهما مدة وكذلك صلاة العصر [135].
وإذا نظرنا لهذه الآية الكريمة ـ كما قال الإمام البقاعي ـ رأينا أنه لم يدخل (من) في شيء من الظروف إلا آناء الليل، فـ(قبل طلوع الشمس) و(قبل غروبها) كأنه يقول استوعب الوقت وكذلك أطراف النهار، أما الليل فاعتنى به عناية خاصة وأدخلت الفاء على {فسبح} لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد »، أي الأبوين، وقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك}، ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه، ولكنه سبحانه خفف على هذه الأمة فقال ومن آناء ولم يقل آناء تخفيفا، ففي الآية اهتمام وفي الوقت نفسه فيها تخفيف،
قال البقاعي: وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة ـ ـ ـ ـ ـ ــ ــ لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث.
***************
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [50: 39]
إن حملنا التسبيح على الصلاة على ما عليه جمهور المفسرين [136] فالمراد قبل طلوع الشمس الفجر وبقبل الغروب العصر وهما غير ملاصقتين للوقتين وهذا سر حذف من، وإن قلنا المراد مطلق التسبيح فحذف إشارة لطول فترة التسبيح فالتسبيح يبدأ من وقت طويل قبل هذين وليس فقط في الوقت الملاصق.
قال البقاعي: فقال: {وسبح} أي أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص متلبساً {بحمد ربك} أي بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها تفضيلاً لك على جميع الخلق في جميع ما {قبل طلوع الشمس} بصلاة الصبح، وما يليق به من التسبيح غيرها.
أبو السعود {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} أيْ نَزِّهَهُ تعالَى عنِ العجزِ عَمَّا يمكُن وَعَنْ وقوعِ الخُلفِ في أخبارِهِ التي مِنْ جُمْلتها الإخبارُ بوقوعِ البعثِ وعنْ وصفهِ تعالَى بما يوجبُ التشبيَه حَامداً له تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليكَ من إصابةِ الحقِّ وغيرِهَا {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} هُمَا وقتُ الفجرِ والعصرِ وفضيلتُهما مشهورةٌ.
ابن عثيمين سبح تسبيحاً مقروناً بالحمد في هذين الوقتين: قبل طلوع الشمس، وقبل الغروب، قال أغلب المفسرين: المراد بذلك صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات الخمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة » والبردان هما الفجر وفيه برودة الليل، والعصر وفيه برودة النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها » فالصلاة التي قبل طلوع الشمس هي الفجر، والصلاة التي قبل غروبها هي العصر، وفيه دليل على أن المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب دخول الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وأفضلهاالعصر، لأن الله تعالى خصها بالذكر حين أمر بالمحافظة على الصلوات فقال: {حفظوا على الصلوت والصلاة الوسطى} وهي العصر، كما فسرها بذلك أعلم الخلق بكتاب الله وهو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
***************
الآية التاسعة:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17]
تفيد فائدتين أن هذا أمر قديم عريق فامتحان الناس قديم، فلما كان فرعون ليس قريبا ولم يستغرق الزمان حذفت من، وفيه مزيد تسلية وبيان خطأ الكفار
قال البقاعي {ولقد فتنا} أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر 22 الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال 23.
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زماناً إلى قريش، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أو أنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكنة، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال: {قبلهم} أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظةابن عاشور
وأشعر قولَه {قبلَهم} أن أهل مكة سيُفتنون كما فُتِن قوم فرعون، فكان هذا الظرف مؤذناً بجملة محذوفة على طريقة الإيجاز، والتقدير: إنا منتقمون ففاتنوهم فقد فتنا قبلهم قوم فرعون، ومؤذناً بأن المذكور كالدليل على توقع ذلك وإمكانه وهو إيجاز آخر.انتهى
قال العلماء عن هذه الآية الكريمة امتحنا واختبرناولقد اختبرنا وابتلينا يا محمد قبل مشركي قومك مثال هؤلاء قوم فرعون من القبطوالمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعثة موسى إليهم فكذبوا فأهلكوا، فهكذا أفعل بأعدائك يا محمد إن لم يؤمنواهذا كالمثال لقريش، ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام، فكذبوه، فأهلكهم الله.
ابن عاشور جعل الله قصة قوم فرعون مع موسى عليه السلام وبني إسرائيل مثلاً لحال المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وجعل ما حلّ بهم إنذاراً بما سيحلّ بالمشركين من القحط والبطشة مع تقريب حصول ذلك وإمكانه ويُسره وإن كانوا في حالة قوة فإن الله قادر عليهم، كما قال تعالى: {فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً} [الزخرف: 8] فذكرها هنا تأييد للنبيء ووَعدٌ له بالنصر وحسنِ العاقبة، وتهديدٌ للمشركين.
وهذا المثل وإن كان تشبيهاً لمجْمُوعِ الحالة بالحالة فهو قابل للتوزيع بأن يشبَّه أبو جهل بفرعون، ويشبه أتباعه بملإِ فرعون وقومِه أو يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام، ويشبه المسلمون ببني إسرائيل. وقبولُ المثل لتوزيع التشبيه من محاسنه
***************
الآية العاشرة:
. {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [40: 5].
هذا مثال مهم اجتمع فيه ذكر من وحذفها، فالأولى قبلهم لأنه ليس المراد أنه في قرب قريب ولم يرد الاستيعاب بل المراد هو بعيد فهي تفيد فائدتين أنه قديم فهي عادة قديمة جدا وهي شنشنة أهل الباطل وكونها قبلهم يمكن الاعتبار بها، ولما أراد الاستيعاب قال {من بعدهم}
وقال البقاعي: {كذبت} ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض: {قبلهم} ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال: {قوم نوح} أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء. ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال: {والأحزاب} أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله: {من بعدهم}.
قال أبو السعود: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم.
*************

الحادية عشرة:
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [54: 9] القمر.
مثل ما قيل في السابق
ابن عاشور وفائدة ذكر الظرف {قبلهم} تقرير تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} [فاطر: 4] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله: {من قبلك} نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون.
يقال فيه مثل ما قبله
البقاعي ولما كان ما كان من تصميمهم عليه وعزمهم على عدم الانفكاك عنه لكونه جبلة مستغرقاً لجميع ما بعدهم من الزمان، وكانوا قد سنوا سنة التكذيب فكان عليهم مع وزرهم وزر من أتى بعدهم، وكان ما قبلهم من الزمان يسيراً في جنب ما بعده عدماً، فلذلك ذكر الظرف من غير حرف جر لأنه مع أنه الحق أعظم في التسلية فقال: {قبلهم} أي في جميع ما سلف من الزمان ومضى بعضه بالفعل وبعضه بالقوة لقوة العزم: {قوم نوح
*******************
الآية الثانية عشرة:
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [7: 123].
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [20: 71]
{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (26/49)
تفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: أن إيمانهم وقع قبل الإذن وهذا أمر مستنكر عند فرعون والفائدة الثانية: أن هذا الإيمان تقدم جدا على الإذن، فهو شيء مستنكر سابق سبقا كبيرا على الإذن إشارة إلى أن هذا الإذن صعب الحصول وهذا قد وقع قبله بزمن والمراد أنه حصل شيء مستنكر جدا قد تجاوز حدوده وقع بدون إذن.
والضمير في به: لله تعالى، وفي (له): لموسى عليه السلام.
فعلتم هذا الفعل الشنيع وبّخهم بذلك وقرعهم قبل أن أذن لكم بالإيمان به أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع
أصدقتم موسى من غير إذني استغرب ذلك منهم، لأدبهم معه، وذلهم، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم، وجعل هذا من ذاك. ومعنى {قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم} قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به. يقال: أذِن له، إذ أباح له شيئاً.
قال أبو السعود: أي بغير أن آذنَ لكم كما في قوله تعالى: {لوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ} لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك هذه مكابرة أيضا، فإن الحق إذا اتضح لا يحتاج إلى الإذن في اعتقاده وتصويبه، ولا سيما في مقام أعد لقطع الحجج
قال ابن عاشور: وقوله: {قَبْلَ أنْ آذنَ لكُم} ترق في موجب التوبيخ، أي لم يكفكم أنكم آمنتم بغيري حتى فعلتم ذلك عن غير استئذان، وَفصْلها عما قبلها لأنها تعداد للتوبيخ. آمنتم برب موسى وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك؟
وأبو السعود: أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات ربّي} لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟. أبو حيان موهماً أن مسارعتهم للإيمان دليل على ميلهم إليه قبل.
***************
(قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [27: 38].
حذف (من) تفيد فائدتين: الفائدة الأول: أنه عليه السلام يريد العرش قبل إتيانهم مسلمين والفائدة الثانية: أنه يريد وجوده قبل وقت من وصلهم وليس قبل وصولهم مباشرة لذلك حذف من، ولم يحتج إلى تأكيد لأنه الآمر المطاع، وفعل ذلك ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوته، لأنها خلفته في دارها واحتاطت عليه، فوجدته قد تقدمها، وليريها القدرة التي هي من عند الله وليغرب عليها.
******************
{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39 (27/39).
أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك لذى جلسته للقضاء بين الناس، ولابد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت، قيل مجلس قضائك، والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر،. فاستطول سيدنا سليمان عليه السلام هذه الفترة واستبطأها، قال البقاعي: ولما علم أن غرضه الإسراع قال: {قبل أن تقوم من مقامك} أي مجلسك هذا.
******************
(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [27: 40].
، فأشهر الأقاويل: أنه آصف ابن برخيا بن سمعيا، وكان رجلا صدّيقا في بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم.
الزمخشري ومعنى قوله: {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [أي] أنك ترسل طرفك إلى شيء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك ابن عاشور – والظاهر أن قوله: {قبل أن تقوم من مقامك} وقوله: {قبل أن يرتد إليك طرفك} مثلان في السرعة والأسرعية.
الحالة الثالثة:
: تفيد معنين معا: المعنى الأول: بيان أن شيئا قبل شيء المعنى الثاني: في أي وقت من أوقات القبل.
ذكر جماعة من العلماء من معاني حذف من ترك الكلام محتملا للقريب والبعيد ولم أجد له شاهدا لكن وجدت شاهدا لما يشمل جميع المدة في أي زمان من أزمنة القبل وهو قوله تعالى {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة} كما سيأتي
قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية،
قال السامرائي [137]: في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب
وقال السامرائي [138] في كتاب على طريق التفسير البياني: وأما قوله تعالى {قبلهم}{من قبلهم} فإن من تفيد ابتداء الغاية فتفيد الزمن الذي قبل المعنيّين بالضمير مباشرة فما قبله وأما قبلهم فيفيد الزمن القريب والبعيد كما هو معلوم ــ ـ ثم قال عن سر حذف من في {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} وهناك أمر آخر حسن (قبلهم) في سورة يس وهو أنه قال في ختام الآية {أنهم إليهم لا يرجعون} وذلك ليدل على أن الأمم لا ترجع إلى الدنيا وليس ذلك مختصا بما بما زمنه قريب منهم فإنه لم ترجع أمة أبيدت وأهلكت منذ أول الدنيا إلى الآن ولن ترجع إليها في المستقبل وإنما سيجمعها ربها ويرجعها إليه، وهذا أدعى إلى حذف من ليشمل جميع الأمم ابتداء من أول الدنيا.

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) [17: 58].
قبل حذف من يفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: أن هذا الإهلاك واقع قبل يوم القيامة أي شيء قبل شيء وفيه مزيد تهديد أن هذا غير الإهلاك الذي سيكون يوم القيامة،
الفائدة الثانية: أن الإهلاك عام فيفيد الاستيعاب لزمان القبل: القريب والبعيد في أي وقت منه لكن الإهلاك سيقع في أوقات مختلفة على حسب اختلاف الأقوام فلذلك لم يحد الظرف بل تركه محتملا للقريب والبعيد فحذف (من) من غير تعين ابتداء وانتهاء.
قال ابن عاشور: والتقييد بكونه قبل {يوم القيامة} زيادة في الإنذار والوعيد، كقوله: {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 127].
و (من] مزيدة بعد (إنْ) النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهلُ مكة عدم شمولهم. البقاعي: ذاته إلا العدم، وذلك مستغرق لزمان القبل، حذف الجار فقال تعالى: {قبل يوم القيامة}.

*****************
المتشابهات:
الموضع الأول:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ} يوسف (12/109) لم يذكر في البحث السابق.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44} النحل (16/43).
{مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} الأنبياء (21/7).
(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)
في الآيات الكريمة عدة أقوال:
القول الأول: وهو الراجح
ذكر من يفيد التوكيد والتنصيص على العموم من أول لحظاته وكأنه ضبط طرفي الزمان.
نص عليه الإسكافي في درة التنزيل [139]، وابن عاشور [140] والفيروزآبادي في البصائر [141]، وابن عرفة [142]، والكرماني [143]، والنيسابوري الحسن بن محمد [144]، والرازي [145]، والسامرائي [146]
القول الثاني:
قال السامرائي في الأسئلة والأجوبة في البرنامج التلفزيوني:
ما دلالة ذكر وحذف (من) في قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً) وقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً)؟ قال تعالى في سورة يوسف (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {109}) وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل كما جاء في قوله تعالى (يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم. وكذلك قوله تعالى (والملائكة حافّين من حول العرش) أي ليس بينهم وبين العرش فراغ. أما في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب وكذلك في قوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ {48} ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ {49} الدخان) وهذا العذاب أخف من الأول (من فوق رؤوسهم).وهذا الذكر أو الحذف يعتمد على سياق الآيات فإذا كان السياق ممتد يأتي بـ (من) وإذا كان السياق لفترة محددة لا يأتي بها. في سورة النحل قال تعالى (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ {26}) كل الآيات فيها (من) لأن الحديث كله عن سلسلة الأنبياء (مستمرة) أما في سورة الأنبياء (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ {6}) فهي قائمة على التبليغ فناسب حذف (من).
وإليك الآيات {بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)}
فلم يذكر (من) لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لم يؤمنوا ثم قال {) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} فاتضح الفرق بين السياقين
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
القول الثالث: حذف من لسبب لفظي فقط
قال الكرماني:
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (من قبلك) بزيادة “من”، وقال في الأنبياء: (قبلك) بحذفه.
الجواب: قبل: اسم للزمان الذي تقدم أضيف إليه قبل، وأفاد دخول من استيعاب الظرفين، لأن قبل قد يقع على بعض ما تقدم، وما في هذه السورة للاستيعاب، وأما في الأنبياء فوافق ما قبله وهو قوله: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ)، لأنه هو بعينه.
زكريا الأنصاري: قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم…} [الأنبياء: 7].
قاله هنا: بحذف ” مِنْ ” تبعا لحذفها من قوله قبل {ما آمنت قبلهم من قرية} [الأنبياء: 6] وقاله بعدُ بذكرها، جريا على الأصل.
القول الرابع: قال ذكر من للتبعيض.
قال البقاعي: ولما أوضح إبطال ما تعنتوا به من قولهم ” لو أنزل عليه كنز ” أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم {أو جاء معه ملك} بذكر المرسلين، وأهل السبيل المستقيم، الداعين إلى الله 17 على بصيرة، فقال: {وما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة. ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله {أو جاء معه ملك} كالذي في النحل، لا لإنكار رسالة البشر، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال: {من قبلك} أي إلى المكلفين
وقال البقاعي – ولما أخبر تعالى أنه بعث الرسل، وكان عاقبة من كذبهم الهلاك، بدلالة آثارهم، وكانوا قد قدحوا في الرسالة بكون الرسول بشراً ثم بكونه ليس معه ملك يؤيده، رد ذلك بقوله – مخاطباً لأشرف خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه أفهمهم عنه مع أنه أجل من توكل وصبر، عائداً إلى مظهر الجلال بياناً لأنه يظهر من يشاء على من يشاء -: {وما أرسلنا} أي بما لنا من العظمة. ولما كان الإرسال بالفعل إنما كان في بعض الأزمنة، دل عليه بالجار فقال: {من قبلك} إلى الأمم من طوائف البشر {إلا رجالاً} لا ملائكة بل آدميين، هم في غاية الاقتدار على التوكل والصبر الذي هو محط الرجلة {نوحي إليهم} بواسطة الملائكة، وما أحسن تعقيب ذلك للصابرين، لأن الرسل أصبر الناس.
وقال البقاعي:
{وما أرسلنا}. ولما كان السياق لإنكار أن يكون النبي بشراً، وكان الدهر كله ما خلا قط جزء منه من رسالة 1، إما برسول قائم، وإما بتناقل أخباره، كان تعميم الزمان أنسب فقال من غير حرف جر: {قبلك} أي في جميع الزمان الذي تقدم زمانك في جميع طوائف البشر
ومثل الآيات السابقة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (25/20) الفرقان.
قال البقاعي: ولما كان المراد العموم، أعراه من الجار فقال: {قبلك} أي يا محمد أحداً {من المرسلين إلا} وحالهم {إنهم ليأكلون الطعام.
الراجح يقول علي هاني:هو القول الأول فحذف من يفيد العموم لكن من غير تأكيد ولاتنصيص على العموم ولا ابتداء لأن السياق يتطلب عدم التأكيد، وذكر من يفيد ابتداء الغاية والبدء من أول لحظات القبلية فما بعدها فهي تفيد الاستيعاب مع التأكيد كأنه يقول من قبل مباشرة فصاعدا، وذلك لأن السياق يتطلب التأكيد.
وإذا نظرنا للسياق في المواضع الثلاثة نرى أن سياق سورة يوسف والنحل يتطلب التوكيد بخلاف سياق سورة الأنبياء والفرقان، وانظر السياق في سورة يوسف يحتاج إلى التأكيد {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)} وكذلك يقال في سورة النحل{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
أما سورة الأنبياء فعدم ذكر من لسببين السبب الأول: أن قبلها موجود قبل بدون من مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وثانيا لأن السياق لا يحتاج للتأكيد لأن الكلام في عدم الاعتداد بهم واستبعاد إيمانهم {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ثم الالتفات إلى التأكيد لهم لشناعة ما صدر عنهم من الأقوال القبيحة {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}، وقد عبر أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل عن هذا، بأحسن مما ذكرت حيث قال:
قال أبو جعفر بن الزبير:
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان.
أما قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7) فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين: من اقتراحهم الآيات، وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد بين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) (الأنبياء: 6)، فلما تقدم هذا اتبع ببيان الطرف (الآخر) وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر، مختصين بتخصيصه سبحانه، ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، فقيل هنا: (قبلك) كما قيل في نظيرتها: (ما ءامنت قبلهم)، فلم تدخل هنا ((من)) كما لم تدخل في النظير (الآخر) لإحراز التناسب، والتئام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر، وكذلك الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، وإنما ورد جواباً لقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود ((من))، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلاً من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم.
قال السامرائي في معاني النحو:
فلم يذكر من في الأنبياء وذكرها في النحل وسر ذلك أن من تفيد الابتداء كما ذكرنا أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم بخلاف آية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى والذي يدل على ذلك سياق الآيتين جاء في النحل {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)وقال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36} فهذا يدل على أن شأن القرى مع رسلهم منذ القديم ثم قال تعالى {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)أي هاجروا من بعد الظلم فلم يكن فاصل بين الظلم والهجرة ولو قال تعالى (بعد ما ظلموا) لاحتمل ان ثم مدة ليس فيها ظلم لأنه بعد الظلم قد يحتمل الطول والقصر بخلاف قوله (من بعد ما ظلموا)
ثم قال (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) أي هذا هو الشأن منذ القدم ابتداء من قبلك إلى الأقدم ثم قال (أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون) وهو فعل مشابه لفعل الذين من قبلهم (قد مكر الذين من قبلهم) فهو خط واحد من الأول إلى الآخر
وأما سورة الأنبياء فليس فيها مثل هذا المعنى ولا القصد أن هذا شأنهم من القديم {وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم}.
قال د صالح الشتري: أكد أبو جعفر بين الزبير أن قوة السياق تتحكم في الآيات فآية يوسف تقدما {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقوله {سبحان الله وما أنا من المشركين} وقولة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه فناسب ذلك زيادة من المقتضية الاستغراق وكذلك قوله تعالى في سورة النحل {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} يؤكد ذلك المعنى فناسبه زيادة من لاستغراق ما تقدم من الزمان أما آية الأنبياء فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر {هل هذا إلا بشر مثلكم} واقتراحهم الآيات {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} فلما تقدم هذا أتبع ببيان الطرف الآخر وهو التعريف بأن الرسل إنما كانوا رجالا فقيل هنا قبلك كما قيل في نظيرتها {ما أمنت قبلهم} وذلك لإحراز التناسب والتحام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم وقد ذكر ابن عاشور ما يتوافق مع كلام أبي جعفر بن الزبير

*********************
الموضع الثاني:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ 43 وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44} (34/ 44) سورة سبأ.
{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} (43/ 23}الزخرف
يقول علي هاني: الآية الثانية آية الزخرف التي ذكر فيها من السياق فيه تأكيد أكثر وتنصيص على كل لحظة من لحظات القبل كما في {لمسجد أسس على التقوى من أول يومن} فمن أول لحظات القبلية فما بعدها إلى جميع القبلية الماضية لم يأتي نذير إلا قال مترفوها ويشهد للتأكيد الحصر بـ(ما) و(إلا) وهذا التأكيد مناسب لسياق التسلية فقد ضرب تعالى المثل لنبيه محمد عليه السلام وجعل له الأسوة، فيمن مضى من النذر والرسل، وذلك أن المترفين من قومهم وهم أهل التنعم والمال قد قابلوهم بمثل هذه المقالة.
وأما الآية الأولى آية سبأ التي فيها حذف (من) لأن المراد العموم في جميع الأزمنة الماضية بدون تأكيد، لأن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد،فهم يتكلمون في رد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عن هوى فليس لهم كتاب يقيسون به الكتب ويعرفون به الوحي فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون،فلم يكونوا أهل علم كما كان شأن كثير غيرهم من الأمم، ولم يأتهم رسول من عند الله قبل هذا الرسول.. فهم- والأمر كذلك- في فقر عقلي وروحي.ويدل على ذلك أنه في الآية التالية أكد بمن حيث قال سبحانه {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
وأيضا إذا نظرنا في سورة سبأ فكل موضع احتاج إلى تأكيد وهناك مجال لإنكاره يؤكده بخلاف هذا الأمر فقد ورد في سورة سبأ {و قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)} {) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)} بخلاف هذا الأمر الواضح جدا.
قال ابن عاشور: الواو للحال، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} [سبأ: 43] الآية، تحميقاً لجهالتهم وتعجيباً من حالهم في أمرين:
« أحدهما »: أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه، فيكون معنى الآية: فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدرُ بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب لقوله: {يدرسونها} أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.
« وثانيهما »: أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرَّطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدقِ الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر: فيكون المعنى: التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم، فليس معنى جملة {وما آتيناهم من كتب} الخ على العطف ولا على الإِخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإِخبار به، ولكن على الحال لإِفادة التعجيب والتحميق، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.
قال سيد قطب: وقد كشف القرآن أمرهم، وهو يقرر أنهم أميون لم يؤتوا من قبل كتابا يقيسون به الكتب ويعرفون به الوحي فيفتوا بأن ما جاءهم اليوم ليس كتابا وليس وحيا، وليس من عند الله. ولم يرسل إليهم من قبل رسول فهم يهرفون إذن بما لا علم لهم به ويدعون ما ليس يعلمون.
يقول علي هاني: ما ذكره ابن عاشور وسيد قطب ومن وافق هذا القول هو الأحسن في تفسير الآية،
وهناك رأي آخر رجحه كثيرون معناه
{وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفي،فاستعمل هنا في التهكم.
قال البقاعي في سبأ: وما أرسلنا} في جميع الزمان الذي {قبلك} أي من قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ليخرج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فإنهما كانا في بعض الزمان الماضي، أو أن المراد في الفترة بعد عيسى عليه السلام.
وقال البقاعي في الزخرف:.فقال تعالى: {من قبلك} أي في الأزمنة السالفة حتى القريبة منك جداً، فإن التسلية بالأقرب أعظم، وأثبت الجار لأن الإرسال بالفعل لم يعم جميع الأزمنة وأسقط هذه القبلية في «سبأ» لأن المراد فيها التعميم لأنه لم يتقدم لقريش ذكر حتى يخص من قبلهم.يقول علي هاني: هذه عادة البقاعي في ذكر من أنه يحملها إما على التبعيض وهو الغالب عنده أو القريب وفي كلامه نظر والصواب ما قدمناه ونقلناه عن جمهور العلماء.

**********************
الموضع الثالث:
{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}.
{قبل}أي في دار العمل في الدنيا ونحن بين أهلنا منغمسين بينهم خائفون من ربنا مشفقون من عذابه وعقابه قبل هذا الحال، حذف حرف الجر لإفادة الاستيعاب لكن من غير تأكيد، لأنه غير مناسب أن يؤكدوا لأن فيه زيادة تزكية للنفس ولأنه لمحض فعلهم، وأما ذكر من فهي لابتداء الغاية لبيان الاستيعاب والتأكيد فالدعاء الشامل للعبادة والتضرع لله تعالى كان في جميع فترة القبل فاستجاب لنا ونجانا سريعا هذا، وناسب التأكيد هنا لأنها بذكر العبادة وهي فخر المؤمن ولأن القصد مدح الله سبحانه بسرعة استجابة الدعاء والإثابة على العبادة فليس لمحض فعلهم.
قال السعدي:
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات وندعوه في سائر الأوقات.
قال البقاعي: مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار: {إنا كنا قبل} أي في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين *} أي عريقين {إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له. ولما كان الدعاء بمعنى فعل العبادة، وكانت تقع في بعض الزمان، أثبت الجار إشارة إلى ذلك مع إسقاطه قبل هذا في الدعاء بالقوة إشارة إلى أن التحلي بالفضائل يرضى منه باليسر، والتخلي عن الرذائل لا بد فيه من البراءة عن كل قليل وكثير فقيل: {من قبل} أي في الدنيا {ندعوه}.
يقول علي هاني:
كان عليه أن يقول: ذكر من للاستيعاب، وأيضا لما ذكروا فعلهم المحض لم يؤكدوا {قبل في أهلنا}، ولما ذكروا سرعة استجابة الله سبحانه لهم قالوا كنا في القبل القريب ندعوه فنقلنا مباشرة ففي من التأكيد والسرعة فهي لابتداء الغاية القريبة. ومثل الفرق في {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَ وَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) (إنا كنا من قبل ندعوه} لتدل على القرب أي: كنا في القبل القريب كنا ندعوه [147] كأن الزمان مر سريعا فإذا بنا في الجنة
مِنْ قَبْلُ: من قبل يومنا هذا من لقاء الله تعالى والمصير إليه ودخول الجنة، يعنون في الدنيا في دار التكليف.
وفي المراد بالدعاء هنا أقوال:
القول الأول: حقيقة الدعاء نتضرع إليه أ ي كنا من قبل على سبيل الدوام ندعوه ونتضرع إليه نطرق باب الله، دون أن نمل من الدعاء والتضرع والابتهال أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم ويغفر ما فرط منا فاستجاب الله لنا وأعطانا سؤلنا.
مقاتل والطوسي والهواري والسمرقندي والقرطبي وابن كثير والميرغني.
القول الثاني: المراد بالدعاء العبادة أي كنا من قبل نعبده مخلصين له الدين ونوحده وسمى العبادة دعاء لأن الدعاء هو مخ العبادة.
الطبري ومكي والسمعاني والثعلبي والبغوي والطبرسي وابن الجوزي والخازن والجلال والمنتخب وضعفه القرطبي
قال الطبري: نعبده مخلصين له الدين، لا نُشرك به شيئا بعض العلماء: أنهم كانوا على الدوام، إذ كانوا واثقين بأن ” الدعاء هو مخ العبادة
القول الثالث: الجمع بين القولين نعبده تعالى ونسأله الوقاية من العذاب.
الزمخشري والنسفي وأبو حيان والمظهري والبقاعي والآلوسي والمراغي والسعدي وسيد طنطاوي والصابوني وابن القيم.
الزمخشري: {نَدْعُوهُ} نعبده ونسأله الوقاية قال السعدي: وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القرباتوندعوه في سائر الأوقات
القول الرابع: إجازة الوجهين
البيضاوي وابن جزي وأبو السعود وابن عجيبة
البيضاوي: من قبل ذلك في الدنيا {ندعوه} نعبده أو نسأله الوقاية
الراجح عندي:الجمع بين القولين ويدخل دخولا أوليا الدعاء ولذلك سميت العبادة دعاء لأن أهم ما فيها ومقصودها الأعظم الدعاء: أي كنا نعبده و نتضرع إليه أ ي كنا من قبل على سبيل الدوام ندعوه ونتضرع إليه نطرق باب الله، دون أن نمل من الدعاء والتضرع والابتهال أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم ويغفر ما فرط منا فاستجاب الله لنا وأعطانا سؤلنا، وهذا الدعاء على سبيل الخضوع لله سبحانه وتخصيصه بالسؤال والافتقار فيستلزم العبادة له وحده والاستلام له وحده. ابن عاشور: وجملة {إنا كنا من قبل ندعوه} تعليل لمنة الله عليهم وثناء على الله بأنه استجاب لهم، أي كنا من قبل اليوم ندعوه، أي في الدنيا
قال الآلوسي: والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية
معنى البر
فيه تعريض بأن بعض أهلهم لم يكونوا على صفتهم ولذا صاروا محرومين {البر} الواسع الجود ا {الرحيم *} المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته، وَالْبَرُّ: الْمُحْسِنُ فِي رِفْقٍ.
وَالرَّحِيمُ: الشَّدِيدُ الرَّحْمَةِ وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. لأن لطفه وإحسانه عم العوالم كلها.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} أن يقينا عذاب السموم، ويوصلنا إلى النعيم، وهذا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة أي: لم نزل نتقرب إليه بأنواع القربات (1) وندعوه في سائر الأوقات المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والانعام {إنا كنا من قبل} أي: قبل أن نصل إلى هذا المقر، وذلك في الدنيا {ندعوه} أي: نعبده ونسأله، لأن الدعاء يطلق على معنيين: على العبادة، وعلى السؤال، فمن إطلاقه على العبادة قول الله تبارك وتعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين}. وأما الدعاء بمعنى السؤال ففي قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون}.
فقولهم: {إنا كنا من قبل ندعوه} يشمل دعاء العبادة كالصلاة، والصدقة، والصيام، والحج، وبر الوالدين وصلة الأرحام، كل هذا دعاء، وإن كان هو عبادة، فلو سألت الداعي لماذا تعبد الله، ولو سألت العابد لماذا تعبد الله؟ لقال: أرجو رحمته وأخاف عذابه، فتكون هذه العبادة بمعنى الدعاء، كذلك ندعوه دعاء مسألة، لا يسألون غير الله ولا يلجئون إلا إلى الله، لأنهم يعلمون أنهم مفتقرون إليه، وأنه هو القادر على كل شيء {إنه هو البر الرحيم} (البر) بمعنى الواسع الإحسان والرحمة، ومن ذلك البرية، للمكان الخالي من الأبنية، فالمعنى أنه جل وعلا واسع الإحسان والعطاء والجود قال الزمخشري: الرَّحِيمُ العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: أنه بالفتح، بمعنى: لأنه.
******************
اجتماع قبل ومن قبل يدرك سرها مما تقدم:
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) [الرعد: 6]
قبل الأولى النظر فيها أن شيئا قبل شيء وأما الثانية فالنظر فيها للتعميم
********************
{وإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)}لاحظ في موضعي التأكيد أدخل من وفي
********************
تم بحمد الله وتوفيقه ومنه وكرمه

 

[1] اصل معنى من في أصلها لابتداء الغاية فإن استوعبت الكل سموها بيانية أو زائدة وإن لم تستوعب قالوا للتبعيض وأحيانا للابتداء وحده.
[2] قال ابن عاشور عند تفسير: “(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا ابن عاشور و (مِن) في مثله للابتداء، وهو أصل معاني (مِن) وأما (مِن) في قوله: {من حليَّهم} فهي للتبعيض قال البقاعي عند تفسير {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال: {من} أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من {بعد ما جاءهم} وقال البقاعي عند تفسير{لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}. {لأكلوا} أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر ب «من» لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل {من فوقهم}. قال السمين الحلبي: ” مِنْ قَبلُ ” متعلِّقٌ به. و ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ قال في درج الدر: و {مِنْ قَبْلِكُمْ} لابتداء الغاية، قال الخراط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ والثانية لابتداء الغاية، قال النسفي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} من لابتداء الغاية قال في شرح التصريح قبل المفعول معه مباشرة / قال حقي: مِنْ قَبْلِكَ اى كائنة من زمان قبل زمانك فمن لابتداء الغاية في الزمان على مذهب الكوفية مثل نمت من أول الليل وصمت من أول الشهر الى آخره قال صديق حسن خان: لتبيننه للناس.(من بعد ميثاقه) ” ومن ” لابتداء الغاية فإن ابتداء النقض بعد الميثاق.
[3] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، الناشر: دار الفكر – دمشق بتحقيق مازن المبارك، الطبعة: السادسة، ص(429).
[4] هذه الحالة مترتبة على الحالة السابقة وليست هي نفسها، لأن الابتداء يفيد الابتداء من أول اللحظات ثم قد يعم وقد لا يعم، فمثلا {ثم اتخذتم العجل من بعده} تفيد أنهم من أول أوقات ترك سيدنا موسى لهم اتخذوا العجل، وأما نحو {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} تفيد الابتداء من أول الأوقات إلى آخرها أي تفيد مع الابتداء الاستيعاب.
[5] قال في مغني اللبيب (ص199): وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة
[6] واستعمال من في الابتداء له حالتان: حالة قد تعم وحالة لا تعم، فمثلا {ثم اتخذتم العجل من بعده} تفيد أنهم من أول أوقات ترك سيدنا موسى لهم اتخذوا العجل، وأما نحو {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} تفيد الابتداء من أول الأوقات إلى آخرها أي تفيد مع الابتداء الاستيعاب وحالة أخرى لا تعم.
[7]قال الإسكافي في درة التنزيل في تفسير سورة يوسف (2/800) الناشر: جامعة أم القرى دراسة وتحقيق وتعليق: د/ محمد مصطفي آيدين: للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها، والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا. قال الإسكافي أيضا (1/1024): والظروف إذا حدّت حقّقت، تقول سرت اليومَ، فإن قلت من أوله إلى آخره كان الحد تحقيقا لأنه قد يطلق لفظ اليوم وإن ذهبت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من أوله، وإن بقيت ساعة أو ساعتان من آخره، فإذا وقع الحدّ زال هذا الوهم.
[8] قال أبو جعفر بن الزبير (2/268) في ملاك التأويل، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي، وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي: ” فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان “.، وقال أبو جعفر بن الزبير(2/343): الآية السابعة من سورة طه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (طه: 128)، وفي سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (السجدة: 26)، فلحقت همزة الاستفهام الواردة هنا تقريراً وتوبيخاً حرف العطف متقدمة قبله كما يجب واختلف حرف العطف، فللسائل أن يسأل: لم اختصت الأولى بالفاء من حروف العطف والثانية بالواو؟ وعن زيادة (من) في سورة السجدة؟ وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18). وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.
[9] قال محمود بن حمزة الكرماني في البرهان في توجيه متشابه القرآن (ص 150): قَوْله {وَمَا أرسلنَا من قبلك} وَفِي الْأَنْبِيَاء {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِغَيْر {من} لِأَن {قبل} اسْم للزمان السَّابِق على مَا أضيف إِلَيْهِ و {من} تفِيد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَمَا فِي هَذِه السُّورَة للاستيعاب وَقد يَقع {قبل} على بعض مَا تقدم كَمَا فِي الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة} ثمَّ وَقع عقيبها {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِحَذْف {من} لِأَنَّهُ بِعَيْنِه {قَوْله} {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض}.
[10] قال ابن عرفة (2/411) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى المحقق: جلال الأسيوطي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك..وقال ابن عرفة عند تفسير {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} (1/218): زيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: نزول هذه الآية قال ابن عرفة (3/324): {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (5} قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ… (53)}تدل على أول الأزمنة القبلية، فأفادت الآية أنهم ماتوا على الكفر، لأن ابتداء الغاية بحسب مآلهم، وحالهم حينئذ أمر الآخرة، فأفادت من أن ابتداء أمر الآخرة حينئذ في حقهم الكفر، وهو انتهاء أمر الدنيا، فهم ماتوا كفارا في شك، قال ابن عرفة (4/158): فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية،. قال ابن عرفة (1/218): زيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: نزول هذه الآية.قال ابن عرفة (1/143) عند تفسير: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟ قلت: لإفادة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء.
[11]قال السامرائي:محاضرات مفرغة موجودة في الموسوعة الشاملة أعده للشاملة (1/776): أبو عبد المعز 221- ما دلالة ذكر وحذف (من) في قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً) وقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً)؟ قال تعالى في سورة يوسف (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {109}) وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل كما جاء في قوله تعالى (يُصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) أي ليس هناك فاصل بين الرأس والصبّ حتى لا تضيع أية حرارة لأن العاقبة لهذا الصبّ أن يُصهر به ما في بطونهم. وكذلك قوله تعالى (والملائكة حافّين من حول العرش) أي ليس بينهم وبين العرش فراغ.
[12] قال ابن عاشور عند قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (13/67) الناشر: الدار التونسية للنشر – تونس سنة النشر: 1984 هـ: {من قبلك} يتعلق بـ{أرسلنا} فـ{من} لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة، أي من أول أزمنة الإرسال “، قال ابن عاشور عند تفسير{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفي بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)} “وتخصيص {من بعد نوح} إيجاز، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم”. وقال الطبري: وقد أهلكنا أيها القوم من قبلكم من بعد نوح إلى زمانكم قرونا كثيرة كانوا من جحود آيات الله والكفر به، وتكذيب رسله، على مثل الذي أنتم عليه، ولستم بأكرم على الله تعالى منهم.
[13] قال محمد الأمين الخضري في كتابه من أسرار حروف الجر، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى ص 364، عند تفسير{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}: قال الرضي من في {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}: “بمعنى في” قال محمد الأمين الخضري: ولنا أن نسأل إذا كانت من بمعنى في فما سر العدول عن الحرف الأصلي؟ ولم لم يقل في أول يوم؟ إنني أرى أراها في الآية على أصلها من الابتداء فمن في {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} هي من الابتدائية ولها دلالات في أن هذا المسجد كان منذ اللبنة الأولى التي وضعت لتأسيسه مصحوبا بالتقوى مبالغة في صدق النوايا وإخلاص العمل لوجه أبان التفكير فيه ومن بداية العمل في بنائه فأنت حين تقول ذهبت إلى الحقل من أول اليوم عنيت أن ذهابك كان جد مبكر بحيث بدأ ببداية أول اليوم دون أن تنصرم منه لحظة من لحظاته وإذا قلت ذهبت إلى الحقل أول اليوم أفدت التبكير نعم لكنك لم تستوعب لحظات اليوم من بداية ما يقال له أول وعليه فإن (من) في الآية دالة على استيعاب وقت الأولية كله مبالغة في أن جزءا ولو ليسيرا من الوقت لم تكن التقوى مفارقة له وفي ذلك أبلغ الحسم للمرجفين الذين أرادوا الإساءة إلى هذا المسجد وحاولوا الإضرار به وضرب وحدة المؤمنين ببناء مسجد آخر ألا ترى إلى سياق الآية وما يحوطه من الحسم البالغ والتأكيدات المتتالية على سوء النوايا من المنافقين {والذين اتخذوا مسجدا ــ ـ أحق أن تقوم فيه}” اهـ. فالمراد الاستيعاب والتأكيد ليشمل جميع الوقت من أوله إلى آخره القبل مباشرة فما فوق فيدل على أن مبدأ القبل والبعد طرفه المضاف الذي يلي قبل وبعد فهي تفيد أنه من أول الشيء إلى آخره ونحو ذلك إفادة كل المسافة.
[14] قال الفيروزآبادي في بصائر ذوي التمييز (1/259) الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية المحقق: محمد علي النجار: قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} وفي الأَنبياءِ {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} بغير (مِن) لأَن (قبل) اسم للزَّمان السّابق على ما أُضيف إِليه، و (مِن) يفيد استيعاب الطَّرفين أريد الاستيعاب.
[15] النيسابوري- الحسن بن محمد (4/132) الناشر: دار الكتب العلميه – بيروت الطبعة: الأولى المحقق: الشيخ زكريا عميرات: قال: {وما أرسلنا من قبلك} وفي ” الأنبياء ” {قبلك} [الأنبياء: 7] بغير ” من ” لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و ” من ” تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة
[16] قال أبو حيان (9/ 515) الناشر: دار الفكر – بيروت الطبعة: 1420 هـ المحقق: صدقي محمد جميل: “وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما. قالوا: فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً “.
قال السمين الحلبي في الدر المصون (10/6) الناشر: دار القلم، دمشق، تحقيق الدكتور أحمد محمد الخراط: “قوله: {مِن وَرَآءِ}: ” مِنْ ” لابتداءِ الغايةِ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يمنعُ أنَّ ” مِنْ ” تكونُ لابتداءِ الغاية وانتهائِها. قال: ” لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ مَبْدَأً للفعلِ ومنتهىً له ” وهذا أثبتَه بعضُ الناس، وزعم أنَّها تَدُلُّ على ابتداءِ الفعلِ وانتهائِه في جهةٍ واحدةٍ نحو: ” أَخَذْتُ الدرهمَ من الكيس ” يقول علي هاني: تكون للابتداء والانتهاء بالمعنى الذي في الآية {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} لكن الانتهاء ليس من لفظ من بل من السياق.
[17] منها ما جاء في الكشاف وتفسير البيضاوي والبحر المحيط عند تفسير {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} قال الزمخشري(1/225) أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة: الثالثة:” {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال عليّ رضي الله عنه: أوّلهم آدم، يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم “.
قال البيضاوي(1/123) ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار إحياء التراث العربي الطبعة: الأولى تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي: ” {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس”، قال أبو حيان (2/179) أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، الطبعة: 1420 هـ، بتحقيق صدقي محمد جميل: {على الذين من قبلكم}: “ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا “.
[18] قال أبو جعفر بن الزبير أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، أبو جعفر (المتوفي: 708هـ) ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان وضع حواشيه: عبد الغني محمد علي الفاسي (2/268): الآية الثالثة من سورة يوسف، عليه السلام، قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109)، وفي سورة النحل (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43)، وفي سورة الأنبياء: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، وفي سورة الفرقان: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، للسائل أن يسأل عن اختصاص هاتين الآيتين الأخيرتين بسقوط ((من)) منهما وثبوتها في الآيتين الأوليين. والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)، وقوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف: 108)، وقوة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة ((من)) المقتضية الاستغراق، وكذلك قوله في سورة النحل: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) (النحل: 41) يؤكد ذلك المعنى، فناسبه زيادة ((من)) لاستغراق ما تقدم من الزمان، أما قوله تعالى في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7) فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (الأنبياء: 3)، واقتراحهم الآيات في قوله: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (الأنبياء: 5)، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين: من اقتراحهم الآيات، وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد بين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) (الأنبياء: 6)، فلما تقدم هذا اتبع ببيان الطرف (الآخر) وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر، مختصين بتخصيصه سبحانه، ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) (الأنبياء: 7)، فقيل هنا: (قبلك) كما قيل في نظيرتها: (ما ءامنت قبلهم)، فلم تدخل هنا ((من)) كما لم تدخل في النظير (الآخر) لإحراز التناسب، والتئام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر، وكذلك الوارد في سورة الفرقان في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 20)، وإنما ورد جواباً لقولهم: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) (الفرقان: 7)، ولا داعي في هذا للقسم إذ هو جواب لقولهم، فلا داعي لورود ((من))، فورد هذا كله على أبدع نظام وأعلى تناسب، وإذا اعتبر الناظر استوضح أن كلاً من هذه الآي لا يمكن إتيانه في موضوع غيره والله أعلم. وقال أبو جعفر بن الزبير: فصل (1/141): ومما تعلق بهذه الآية من المغفل [أي الذي أغفله الإسكافي فلم يذكره] زيادة “من ” في قوله تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ” وفي سورة السجدة: “ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ” وفي ص: “كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا… “.وردت هذه الآي الثلاث بزيادة “من “فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها “من “كقوله تعالى في سورة مريم: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” وفي آخرها: ” وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ” وفي طه: “أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم “، وفي يس: “ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون “وفي سورة ق: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ” فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها “من ” فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟ والجواب والله أعلم: أن “من ” إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف ثم نقول: أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: “الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور “، وقد كانوا يعترفون بأنه تعالى الخالق “ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ” ثم تتابع ما بعد على هذا إلى قوله “وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ” على بيان الأمر ووضوحه ثم قال “فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ” فحصل التسجيل ببقائهم على الإعراض وإنفاذ الوعيد عليهم ولا أشد من هذا ونحو بل مثله في الشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد قوله تعالى في سورة السجدة “ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها ” فاكتنف الآية ما تضمنته الآيتان من الوعيد والتهديد فناسب ذلك ما اقتضته زيادة “من ” من مناسبة التأكيد فقيل “ومن قبلهم ” وأما آية ص فحسبك ما تضمنته من أولها إلى قوله “وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ” ثم قال تعالى مخبرا عن حالهم في تكذيبهم واستبعادهم “عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ” ولعظيم تمردهم ووعيدهم المحكي عنهم في هذه الآي ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر في قوله تعالى “اصبر على ما يقولون ” ثم أعقب تعالى بقصة داود عليه السلام أعلاما لنبيه بأن ذلك مراده منهم بما قدر لهم في الأزل فقد سخر الجبال والطير لداود وألان له الحديد فلو شاء لهدى هؤلاء فلعظيم ما ورد في هذه الآي من مرتكبات كفار قريش وغيرهم لذلك ما ورد التأكيد بزيادة “من ” في قوله بعد ذكر شقاقهم و اغترارهم “كم أهلكنا من قبلهم من قرن ” فهذا وجه زيادة “من ” في هذه الآي أما الآي الأخرى خمستها فلم يرد فيها ولا فيما اتصل بها ما ورد في هذه من التغليظ في الوعيد ومتوالي التهديد وإن كانت قل ما ترد إلا لذلك ولكن اشتداد التهديد إنما هو بحسب ما يقارن أو يكنف أو يتقدم أو ينجر معها من التغليظ في الوعيد فبحسب ذلك يقوى الرجاء أو يضعف وإذا تأملت قوله تعالى في الآية الأولى من سورة مريم “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” لم تجدها في نفسها أو فيما انتظم معها متقدما أو متأخرا توازن في التهديد واحدة من تلك الآي الثلاث ألا ترى فيما نوظر بين المعنيين بهذه الآية والمهلكين قبلهم من القرون السالفة وأن ذلك إنما هو فيما غرهم من سعة الحال وكثرة المال حسبما أشار إليه قوله تعالى عن المهلكين قبل هؤلاء أنهم كانوا أحسن أثاثا ورئيا فهذه الآية كقولهم “نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ” ولو استبصروا لاهتدوا من قوله تعالى “إنما نملى لهم ليزداوا إثما ” ومع ما أعقبت هذه الآية من المنتظم معها من قوله “فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا ” فليست في التغليظ كتلك الآي إذا حقق ما قبلها وكذلك الآية الثانية وهى قوله “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد… “الآية في نفسها وفيما انتظمت به وأما آية طه فأوضح في إيحاء الرجاء في نفسها وما نتظمت به ألا ترى ما قوله تعالى “أفلم يهد لهم ” وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله “لأولى النهى ” من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآي الثلاث وأما آية يس وآية ق فأوضح فيما ذكرنا وتأمل مفهومها وما انتظم معهما وإنما حاصلهما بما اتصل بهما تحريك للاعتبار وتذكير بالالاء والنعم وتأمل قوله في المنتظم بآية يس والمعقبة به من
قوله ” أفلا يشكرون ” وعلى ما يترتب الشكر إذ لا يمكن إلا مرتبا على حصول الإيمان والتصديق وقوله عقب آية ق ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ” فقد وضح ما بين الضربين وورود كل منهما على ما يناسب ويجب والله أعلم.
[19] قال الدكتور صالح الشثري في المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية ص 328: “أكد أبو جعفر بين الزبير أن قوة السياق تتحكم في الآيات فآية يوسف تقدما {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} وقوله {سبحان الله وما أنا من المشركين} وقولة السياق في هذه الآي يدل على معنى القسم ويعطيه فناسب ذلك زيادة من المقتضية الاستغراق وكذلك قوله تعالى في سورة النحل {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة} يؤكد ذلك المعنى فناسبه زيادة من لاستغراق ما تقدم من الزمان أما آية الأنبياء فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر {هل هذا إلا بشر مثلكم} واقتراحهم الآيات {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} فلما تقدم هذا أتبع ببيان الطرف الآخر وهو التعريف بأن الرسل إنما كانوا رجالا فقيل هنا قبلك كما قيل في نظيرتها {ما أمنت قبلهم} وذلك لإحراز التناسب والتحام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم
[20] قال في مغني اللبيب (ص199): وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.
[21] قال ابن عاشور (17/202) محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)، الدار التونسية للنشر – تونس 1984 هـ: وَ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ عَلَى (بَعْدَ) هُنَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ عَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ مِنْ عَدَمِ انْحِصَارِ زِيَادَةِ (مِنْ) فِي خُصُوصِ جَرِّ النَّكِرَةِ بَعْدَ نَفْيٍ وَشِبْهِهِ، أَوْ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ صُورِيٌّ يُسَاوِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ بِ (مِنْ) فِي قَوْله تَعَالَى:{لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} قال ابن عاشور: (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ.. قال ابن عاشور (21/29): {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50].”وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَة (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها. وقال ابن عاشور عند قوله تعالى {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} (7/137):”وَ (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ”..وقال ابن عاشور عند تفسير {ما تعبدون من بعدي}(1/732) واقترن ظرف {بعدي} بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك: جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.وقال ابن عاشور عند {ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا}: وأكد ظرف (بعدُ) بإدخال من الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أبداً}.وقال ابن عاشور (1/327): يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ آبَاءَهُم الْأَوَّلين لَا بُد أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى أَبٍ أَوَّلٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ وَجْهُ التَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ حَرْفِ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكُمْ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَبْلِكُمْ، لِأَنَّ (مِنْ) فِي الْأَصْلِ لِلِابْتِدَاءِ فَهِيَ تُشِيرُ إِلَى أَوَّلِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْقَبْلِيَّةِ فَذِكْرُهَا هُنَا اسْتِرْوَاحٌ لِأَصْلِ مَعْنَاهَا مَعَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ الْغَالِبِ عَلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ مَعَ قَبْلُ وَبعد.
[22] قال النيسابوري(4/277) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري، دار الكتب العلميه – بيروت، الأولى – 1416 هـ: “ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال:{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وفي العنكبوت: مِنْ بَعْدِ مَوْتِها [الآية: 63] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب «من» للاستيعاب”.
[23] الطبرسي (1/132) امين الاسلام أبي على الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البيان، المجمع العالمي لأهل البيت: (من بعد ميثاقه): من مزيدة. وقيل: معناه ابتداء الغاية.
[24] قال ابن عرفة (3/326) محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي، أبو عبد الله (المتوفى: 803هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، بتحقيق: جلال الأسيوطي: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}.قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ) إن قلت: ما أفاد، وهو خص بالقسم الثاني دون الأول، فالجواب: أنه إشارة إلى ما قرره المتكلمون: من أن ما أراد الله تعالى كونه فلا بد من وقوعه باتفاق بين الجميع، ولذلك لم تحتج إلى تأكيد الأول بقوله (مِنْ بَعْدِهِ)، ولم يرد وقوعه، فنحن نقول: لَا يقع أصلا وفريق من المعتزلة يقولون بصحة وقوعه، لأن العبد عندهم يخلق أفعاله، والله.
[25] قال البيضاوي (2/161) سورة الأنعام {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك}(42)أي قبلك، ومن زائدة.
[26] قال الشهاب (4/78) شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري الحنفي (المتوفى: 1069هـ)، حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي، الْمُسَمَّاة: عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي، دار النشر: دار صادر – بيروت: “وأمّا دخول من زائدة على الظروف في الإثبات فذهب إلى جوازه كثير من النحاة وارتضوه كما في شرح التسهيل وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس”.
[27] قال الآلوسي (10/285) شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني عند تفسير{من بعد قوة أنكاثا}: “وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بـ(نقضت) على أنه ظرف له لا حال و من زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه”.
[28] قال الجلال السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي تفسير الجلالين دار الحديث – القاهرة الطبعة: الأولى (1/168) في سورة الأنعام آية 42{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَم مِنْ} زَائِدَة {قَبْلك}.
[29] قال الآلوسي (10/285)عند تفسير{من بعد قوة أنكاثا}: وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بـ(نقضت) على أنه ظرف له لا حال و من زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
[30] أبو حيان {من قبل أن تنزل التوراة} قال أبو البقاء: مِن متعلقة بحرم، يعني في قوله: إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه، ويبعد ذلك، إذْ هو من الاخبار بالواضح، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة، ويظهر أنه متعلق بقوله: كان حلاً لبني إسرائيل، أي من قبل أن تنزل التوراة، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن: في جواز أن، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو: ما حبس إلا زيد عندك، وما أوى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً.
وخالف ابن عاشور في التعلق فقال: وقوله: {من قبل أن تنزل التوراة} تصريح بمحلّ الحجَّة من الردّ إذ المقصود تنبيههم على ما تناسوه فنُزلوا منزلة الجاهل بكون يعقوب كان قبل موسى، وقال العصام: يتعلّق قوله: {من قبل أن تنزل التوراة} بقوله: {حِلاًّ} لئلاّ يلزم خلوّه عن الفائدة، وهو غير مُجد لأنّه لمّا تأخّر عن الاستثناء من قوله {حلاّ} وتبيّن من الاستثناء أنّ الكلام على زمن يعقوب، صار ذكر القيد لغواً لولا تنزيلهم منزلة الجاهل، وقصد إعلان التّسجيل بخطئهم والتعريض بغباوتهم.وحملها البقاعي على التبعيض قال البقاعي عند تفسير قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (3 /93):{من قبل} وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً ” وفيه بعد
[31] قال الآلوسي في سورة يس: والظاهر أن قريشاً كانوا ملزمين بملة إبراهيم. وإسماعيل عليهما السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 4 2] فإنه عام للرسول وللعالم الذي ينذر كذا قيل. واستشكل مع ما هنا، وأجيب بأن المراد هنا ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك {إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} منها أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول، وفي تلك الآية على الأعم قال الآلوسي: هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عز وجل وكذا في قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 4 2] ليوافق قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله} [النحل: 6 3] وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وإن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولاً أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل. سيد قطب -(لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك، لعلهم يهتدون)..والعرب الذين أرسل إليهم محمد [صلى الله عليه وسلم] لم يرسل إليهم أحد قبله؛ ولا يعرف التاريخ رسولا بين إسماعيل – عليه السلام – جد العرب الأول وبين محمد [صلى الله عليه وسلم] وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق، لينذرهم به.
[32] قال محمد الأمين الخضري في كتاب من أسرار حروف العطف: ص 201 عند اعتراض أبي حيان على الزمخشري عندما قرر أن معنى ثم في {ثم قست قلوبكم} هو الاستبعاد فقال أبو حيان الاستبعاد لا يستفاد من ثم وإنما يستفاد من مجيء الجمل ووقوعها بعد ما تقدم مما لا يقتضي وقوعها ـ ـ” وسبب أهمية ما أثاره أبو حيان في نظري أن أسقاط دلالة الحرف على معناه المجازي ونسبته إلى إشارات السياق، لا يختص بحرف المهلة وحده بل إنه يسري إلى غيره من الحروف حين تخرج عن دلالاتها الوضعية كحروف الاستفهام وحروف الجر بل إن ذلك ينسحب على أفعال الأمر والنهي حين نفارق حقائقها فإن قوله تعالى {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم} يدل فيه الأمر (اعملوا) على حقيقته من الطلب وهذا الفعل نفسه وقع في قوله تعالى {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} دالا على التهديد والوعيد وفي قوله عليه السالم ر لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} دل الفعل عينه على التشريف والتكريم وبذلك صرح ابن حجر فالفعل اعملوا تكرر في الأمثلة اثلاثة فدل على الطلب حقيقة في الأول وعلى التهديد مجازا في الثاني وعلي كمال الرضا في الثالث والناطق بذلك هو السياق والقرائن فهل نقول إن هذه الدلالات ليست للأفعال وإنما هي مدلول الكلام الذي وقعت فيه، ثم إن النحاة الذين جعلوا الهمزة للاستفهام وهو معناها الحقيقي أثبتوا لها معاني مجازية وهذا المعاني من نشر السياق كذلك لأن الهمزة لم تتغير من حيث هي وإنما الذي تغير هو سياقها ومع ذلك نقول: إنها دلت على التوبيخ أو التقرير أو الإنكار غير ذلك من معانيها العديدة فهل يقال كذلك إن هذه المعاني وليدة مضمون الكلام فإليه تنسب والهمزة دالة على طلب الفهم على ما هي موضوعة له إن هذا لم يقل به أحد من النحاة ــ ـ فما الذي تغير في هذه الألف وهي موضوعة للاستفهام لتكون بمعنى التعجب والتقرير؟ أليس السياق هو الذي نشر عليها هذه المعاني؟ فهل يمكن القول بأن الهمزة فيه للاستفهام والتعجب أو التقرير دل عليه مفهوم الكلام؟ الفصل في هذه القضية هي أن يقال: هل يمكن للتعجب أو التقرير المصاحبين للهمزة أو الاستبعاد المصاحب لحرف المهلة أن يؤدى بغير الهمزة وثم؟ فإن أمكن ذلك ـ وهو ليس بممكن ـ كان مدلول الكلام لا مدلول الحرف وإن لم يمكن كان قطعا من دلالات الحرف ـ ـ نصل بذلك إلى القول بأن الاستبعاد معنى مجازي من معاني ثم، وإذا كان النحاة قبل أبي حيان لم يذكروه من معانيها فلأنهم معنيون بإثبات المعاني الوضعية أما المعاني المجازية فهي صناعة أهل البيان، ولأهل البيان كلام دقيق في دلالة الكلمة على معان تتتولد من دلالاتها الأصلية بمعونة القرائن قال السكاكي في أدوات الاستفهام بعد أن أوضح حقائقها ” واعلم أن هذه الكلمات كثيرا ما يتولد منها أمثال ما سبق من المعاني بمعونة قرائن الأحوال فيقال: ما هذا؟ ومن هذا؟ لمجرد الاستخفاف والتحقيق وما لي؟ للتعجب ” ـ الخ انظر محمد الأمين الخضري ص205
[33] قال الفخر الرازي (20/210) الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعة: الثالثة: فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم} والمعنى: أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولا إلا من البشر، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضا طعن قديم فلا يلتفت إليه. قال الفخر الرازي (12/484): عند تفسير قوله تعالى {(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ}: اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم.وقال الإمام الرازي عند تفسير (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْم} (20/230) َ ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وهذا يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات.
[34] قال أبو السعود دار إحياء التراث العربي – بيروت (7/18) عند تفسير قوله تعالى ر وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي مِن قبلِ نزولِه {مُسْلِمِينَ} بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتبِ المتقدمةِ وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ. وقال أبو السعود عند تفسير {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (3/127) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ من قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين، وإرشادٌ له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأَذِيَّة، وعِدَةٌ ضِمْنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر. وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ (رسلٌ) للتفخيم والتكثير، و(من) إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوفٍ وقع صفةً (لرسلٌ) أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك.
[35] قال الآلوسي (7/110): {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب الخ؛ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة ، قال الآلوسي عند تفسير (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ)(قال الآلوسي: والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمر مطرد قد فعل برسل جليلة كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم.
[36] قال السامرائي في معاني النحو (2/172) دار الفكر، الطبعة الثانية: فلم يذكر من في الأنبياء وذكرها في النحل وسر ذلك أن من تفيد الابتداء كما ذكرنا أي أن الأمر كذلك ابتداء من قبلك إلى القديم بخلاف آية الأنبياء فهي ليست لهذا المعنى والذي يدل على ذلك سياق الآيتين جاء في النحل {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)وقال {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36} فهذا يدل على أن شأن القرى مع رسلهم منذ القديم.
[37] ابن عاشور(26/183)عند تفسير {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}:. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ اجْتِلَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ نُوِيَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى لَفْظِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ بُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى اطِّرَادِهَا وَثَبَاتِهَا.وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21].وَلما وصف تِلْكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا رَاسِخَةٌ فِيمَا مَضَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِهَا بِالتَّحَقُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْمِيمًا لِلْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ النَّصْرِ فِي مُخْتَلَفِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَإِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ، وقال ابن عاشور (7/201) عند تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا}: {من قبلك} وصف كاشف لِ {رُسل} جيء به لتقرير معنى التأسّي بأنّ ذلك سنّة الرسل.قال ابن عاشور عند تفسير {{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} قال ابن عاشور: وعبّر عن عبادة الآباء بالمضارع للدّلالة على استمرارهم على تلك العبادة، أي إلاّ كما اعتاد آباؤُهم عبادتهم. والقرينة على المضي قوله: {من قبلُ}، فكأنّه قيل: إلاّ كما كان يعبد آباؤهم. والمضاف إليه {قَبْلُ} محذوف تقديره: من قبلهم، تنصيصاً على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم
[38] قال ابن عطية (4/83) أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، دار الكتب العلمية – بيروت، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد: ” عند تفسير قوله تعالى (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) ثم آنس تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بما جرى على سائر الأنبياء من استهزاء قومهم بهم وحلول العذاب بالمستهزئين.ومثله قال الزمخشري (3/118):” سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء عليهم السلام أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء عليهم السلام ما فعلوا.”
[39] قال الطباطبائي (11/307) محمد بن حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تحقيق إياد باقر سلمان، دار إحياء التراث العربي: و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: {و لقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية.
[40] قال أبو حيان (4/490) عند تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}:” سلاه ثانياً بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم، وأن الرسل صبروا فتأسَّ بهم في الصبر “.
[41] قال الطبري (11/354) عند تفسير (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ):” يقول تعالى ذكره متوعدا لهؤلاء العادلين به الأصنام، ومحذّرهم أن يسلك بهم إن هم تمادوا في ضلالهم سبيل من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا، ومخبرا نبيه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل: وَلَقَدْ أرْسَلْنا يا محمد إلى أُمَمٍ يعني: إلى جماعات وقرون.
[42] قال الزمخشري (2/413) عند تفسير قوله تعالى {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها، فضروا بها ومرنوا عليها وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاؤا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء.
[43] قال سيد قطب: إن الله – سبحانه – لا يكل الناس إلى فلتات عابرة، ولا إلى جزاف لا ضابط له.. إنما هي سنته يمضي بها قدره.. وما أصاب المشركين في يوم بدر، هو ما يصيب المشركين في كل وقت؛ وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم:
[44] حملها البقاعي على القرب حيث قال البقاعي: “ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلكم} اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم {سنن}”. وفيه نظر.
[45] وحملها البقاعي على القرب: البقاعي ولما كانت تسلية الإنسان بمن قاربه في الزمان أشد أثبث الجار فقال 25 {من قبلك}
[46] قال ابن عاشور: (مِنْ) مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ قَبْلِهِمْ ابْتِدَائِيَّةٌ لِتَأْكِيدِ الْقَبْلِيَّةِ.
[47] حملها البقاعي على القرب والتبعيض: البقاعي: ولما كان القرب في الزمن في مثل هذا مما يسلي، وكان كل من الاستهزاء والإرسال 12 لم يستغرق الزمن 13، أدخل الجار فقال: {من قبلك}.
[48] حملها ابن عرفة على القرب: قال ابن عرفة: قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ… (42)}قلت: (مِنْ) لابتداء الغاية فيقتضى أول أزمنة القبلية وقد يضرب الماضي من زمن الحال فكيف صح الجمع منهما؟ فقال: المراد أول أزمنة هذا المكر المقرب وهو الزمن القريب من وقتك.
[49] انظر الطبري والطباطبائي وابن عاشور والبقاعي.
[50] قال أبو السعود: فهم كانوا يعرفون أن الرسل من قبل قد أنذروا آباءهم بالبعث والنشور. مما يدل على أن العرب لم تكن أذهانهم خالية من العقيدة، ولا غفلا من معانيها. إنما كانوا يرون أن الوعود لم تتحقق منذ بعيد؛ فيبنون على هذا استهتارهم بالوعد الجديد قائلين: إنها أساطير الأولين يرويها محمد
[51] قال الراغب: الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده قال المصباح: الشهوة اشتياق النفس إلى الشيء وشيء شهي لذيذ الحاصل في الشهوة: نزوع النفس إلى ما تريده ومطالبتها بفعل ما فيه اللذة وتوقانها واشتياقها إلىه قال البقاعي: يشتهون: ” يميلون إليه ميلا عظيما”.
[52] قال الأمثل – ثمّ يضيف تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل)ففي لحظة مؤلمة، فصل بينهم وبين كلّ ثرواتهم وأموالهم، وقصورهم ومقاماتهم، وأمانيهم، فكيف سيكون حالهم؟ هؤلاء الذين كانوا يعشقون الدرهم والدينار، والذين كانت قلوبهم لا تطاوعهم في التخلّي عن أبسط الإمكانات المادية.. كيف سيكون حالهم في تلك اللحظة التي يجب عليهم فيها أن يودّعوا كلّ ذلك وداعاً أخيراً، ثمّ يغمضون عيونهم ويسيرون باتّجاه مستقبل مظلم موحش. جملة (حيل بينهم وبين ما يشتهون)، فُسّرت بتفسيرين:
الأوّل: هو ما عرضناه سابقاً. الثاني: أنّه حيل بينهم وبين رغبتهم في الإيمان وجبران ما فاتهم.. غير أنّ التّفسير الأوّل ينسجم أكثر مع جملة (ما يشتهون). فضلا عن أنّ جملة (أنّى لهم التناوش من مكان بعيد) قد تعرّضت إلى قضيّة عدم تمكّنهم من الإيمان عند الموت وعذاب الإستئصال كما ذكرنا، فلا يبدو أنّ هناك داعياً للتكرار. من الجدير بالذكر أيضاً أنّ كثيراً من مفسّري هذه الآية اعتبروا هذه الآيات ممّا يخصّ الحديث في عقوبات الآخرة وندامة المسيئين في المحشر، ولكن الآية الأخيرة وبالأخصّ جملة (كما فعل بأشياعهم من قبل) لا تنسجم مع هذا المعنى، بل إنّ المقصود هو لحظة الموت ومشاهدة عذاب الفناء، قال الطباطبائي والمعنى: ووقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين وبين ما يشتهون من ملاذ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الأمم الدارجة من قبلهم إنهم كانوا في شك مريب من الحق أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.
[53] وحملها البقاعي على القرب فقال: البقاعي ونبه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان بإدخال من في قوله: {من قبله} ولو حذفها لاستغرق الإهلاك على ذلك الوصف جميع ما تقدمه من الزمان {من القرون} أي الذين هم في الصلابة كالقرون.
[54]حملها البقاعي على القرب فقال: لما كان التأسِّي بالقريب في الزمان أعظم، أثبت الجار في قوله: {من قبلهم}.
[55] حملها البقاعي على القرب: قال البقاعي:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(30/9) لما كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له، أثبت الجار فقال: {من قبلهم}.
[56] قال ابن عاشور (13/234): عند قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم: 31] وإدخال حرف الجر على اسم الزمان وهو (قبل) لتأكيد القبلية ليفهم معنى المبادرة، ابن عاشور:وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قبل}. ابن عاشور:وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قبل}. ابن عاشور وفي قوله: مِن قَبلِ أن يأتيكم العذاب} إيذان بوعيد قريب إن لم يُنيبوا ويسلموا كما يلمح إليه فعل {يأتيكم}
[57] قال ابن عرفة (4/293): [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول أزمنة القبلية.
[58] البقاعي (17/347)” ولما كان الخوف من الفوت موجباً للمبادرة، قال مشيراً بالجار إلى أنه يعتد بأدنى خير يكون في أدنى زمن يتصل بالموت: {من قبل أن يأتي يوم}”.
[59] الزمخشري (4/544):{مّن قَبْلِ أَن يأتي أَحَدَكُمُ الموت} من قبل أن يرى دلائل الموت، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال، ويضيق به الخناق، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول، فيتحسر على المنع، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه
[60] أبو السعود (1/247): كلمةُ (مِن) متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم من قبل أنْ يأتيَ يومٌ لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه
أبو السعود (2/185): {من قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين
[61] ابن كثير (6/321): يقول تعالى آمرًا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته، والمبادرة إلى الخيراتابن كثير وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي: في الخفية، والعلانية وهي: الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهما، وقال ابن كثير (7/110): ثم استحث [سبحانه] وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي: ارجعوا إلى الله واستسلموا له، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة.
[62] سيد قطب (1/285) سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي، في ظلال القرآن، دار الشروق – بيروت- القاهرة، الطبعة السابعة عشر: “وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة).. فهي الفرصة التي ليس بعدها – لو فوتوها على أنفسهم – بيع تربح فيه الأموال وتنمو ابن عاشور:وقوله: {من قبل أن يأتي يوم} حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائِت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل”.
[63] سيد طنطاوي (12/239): فقوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} متعلق بالأمر بالاتباع، وإرشاد إلى وجوب الامتثال بدون تأخير أو تسويف، أي: سارعوا إلى اتباع إرشادات وتشريعات وآداب هذا القرآن، من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وبدون مقدمات، بحيث لا تشعرون بإتيانه إلا عند نزوله.
[64] الطوسي (6/267) أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، دار الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، الطبعة الأولى:” من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولاخلال ” المعنى بادروا بافعال الخير من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأفعال الخير ” قبل ان ” يأتيكم يوم القيامة الذي لابيع فيه ولاشراء
[65] السعدي (1/761) عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م، بتحقيق عبد الرحمن بن معلا:” يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه “.
[66] قال أبو حيان: من قبل، متعلق: بأنفقوا، أيضاً، واختلف في مدلول: مِنْ: فالأولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق: برزقناكم. قال أبو السعود: كلمةُ (مِن) متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم من قبل أنْ يأتيَ يومٌ لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه اطفيش – الهميان ومن قبل متعلق بأنفقوا، ومن للابتداء ولو جعلنا الأولى للابتداء وعلقناها به أيضا لاختلافهم زمانا ومكاناً، وإذا اخلتف الظرفان جاز تعلقهما بعامل واحد، ولو بلا تبع، نحو جلست فى الدار فى اليوم، قال سيد قطب:وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة).. فهي الفرصة التي ليس بعدها – لو فوتوها على أنفسهم – بيع تربح فيه الأموال وتنمو
قال ابن عاشور:وقوله: {من قبل أن يأتي يوم} حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتاً تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه، واليوم هو يوم القيامة، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائِت، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل… قال السامرائي:. (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) (من) الابتدائية وهي تشمل كل الفراغ بين الابتداء والنهاية كما في قوله تعالى (رواسي من فوقها) و (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ {9} يس) لو لم ترد (من) في آية سورة المنافقون كان ممكن أن يكون الزمن بعيد أما وجود (من) فيفيد أن كل لحظة يمكن أن تكون لحظة الموت وهذا يستدعي إعادة نظر في حياة الإنسان.
[67] قال أبو حيان ومن قبل: متعلق بآمنوا،}قال أبو السعود: {من قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين.قال ابن عاشور:وقوله: {من قبل أن نطمس وجوهاً} تهديد أو وعيد، ومعنى: {من قبل أن نطمس} أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم
حملها البقاعي على التبعيض ـ وهو غير صحيح ـ قال البقاعي ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال – مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم -: {من قبل أن نطمس}
[68] قال الطوسي ” من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولاخلال ” المعنى بادروا بافعال الخير من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأفعال الخير ” قبل ان ” يأتيكم يوم القيامة الذي لابيع فيه ولاشراء قال السمين الحلبي قوله: ” مِنْ قبل ” متعلِّقٌ ب ” يُقيموا ” و ” يُنْفِقوا “، أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم. قال ابن كثير وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي: في الخفية، والعلانية وهي: الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم.قال البقاعي فقال مشيراً بالجار إلى قصر 42 مدة 43 أعمالهم: {من قبل أن يأتي يوم} أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونهاأبو السعود والظاهرُ أن من متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورة البقرة من حيث إن كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً، وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاق في سبيل الله عز وجل.قال ابن عاشور:وقوله: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} الخ متعلق بفعل {يقيموا الصلوات وينفقوا}، أي ليفعلوا ذينك الأمرين قبل حلول اليوم الذي تتعذر فيه المعاوضات والإنفاق.قال أبو زهرة: {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} ليتدارك التقصير بتعويض يقدمه أو فدية يغتدي بها نفسه، ولا مخالة وصداقة ينقذ بها الصديق صديقه، والرفيق رفيقه، وقد قال تعالى في هذا المعنى: {واتفقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)} [البقرة]. سيد طنطاوي وقوله – سبحانه – {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} مؤكد لمضمون ما قبله من الأمر بإقامة الصلاة وبالإِنفاق فى وجوه الخير بدون تردد أو إبطاء
[69] قال البيضاوي من قبل أن نذل} بالقتل والسبي في الدنيا. {ونخزى} بدخول النار يوم القيامة، قال أبو حيان والذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة. البقاعي ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا 24: {من قبل أن نذل أبو السعود {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} بالعذاب في الدنيا {ونخزى} بدخول النار اليوم ولكنا لم نُهلكهم قبل إتيانِها فانقطعت معذِرتُهم فعند ذلك قالوا: بلى، قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء.قال ابن عاشور: والذل: الهوان. والخزي: الافتضاح، أي الذل بالعذاب. والخزي في حشرهم مع الجناة كما قال إبراهيم عليه السلام {ولا تخزني يوم يبعثون}
[70] قال الميزان: و قوله: “يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل” كناية عن الاحتراز عن الشر قبل وقوعه كأن أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه و قبضوا و تسلطوا عليه فلم يدعوه يفسد و يضيع.
فمعنى الآية إن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت و ظفرت في وجهك هذا ساءهم ذلك، و إن قتلت أو جرحت أو أصبت بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من قبل و تولوا و هم فرحون.
و قد أجاب الله سبحانه عن ذلك بجوابين اثنين في آيتين: قوله: “قل لن يصيبنا” إلخ و قوله: “قل هل تربصون” إلخ.
قال أبو السعود {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إصابةِ المصيبة في وقت تدارُكِه، يشيرون بذلك إلى أن المعاملةَ المذكورةَ إنما تروّج عند الكفرةِ بوقوعها حالَ قوةِ الإسلامِ لا بعد إصابةِ المصيبة
قال الصابوني: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي وإِن تصبك مصيبة من نكبة وشدة، أو هزيمة ومكروه يفرحوا به ويقولوا: قد احتطنا لأنفسنا وأخذنا بالحذر والتيقظ فلم نخرج للقتال من قبل أن يحل بنا البلاء
قال ابن عاشور: وَقَوْلُهُمْ: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ ابْتِهَاجٌ مِنْهُمْ بِمُصَادَفَةِ أَعْمَالِهِمْ مَا فِيهِ سَلَامَتُهُمْ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ يَقَظَتَهُمْ وَحَزْمَهُمْ قَدْ صَادَفَا الْمَحَزَّ، إِذِ احْتَاطُوا لَهُ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الضُّرِّ.
وَالْأَخْذُ حَقِيقَتُهُ التَّنَاوُلُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِعْدَادِ وَالتَّلَافِي.
وَالْأَمْرُ الْحَالُ الْمُهِمُّ صَاحِبَهُ، أَيْ: قَدِ اسْتَعْدَدْنَا لِمَا يُهِمُّنَا فَلَمْ نَقَعْ فِي الْمُصِيبَةِ.
قال الطباطبائي: و قوله: {يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل} كناية عن الاحتراز عن الشر قبل وقوعه كأن أمرهم كان خارجا من أيديهم فأخذوه وقبضوا وتسلطوا عليه فلم يدعوه يفسد ويضيع.
فمعنى الآية إن هؤلاء المنافقين هواهم عليك: إن غنمت وظفرت في وجهك هذا ساءهم ذلك، وإن قتلت أو جرحت أو أصبت بأي مصيبة أخرى قالوا قد احترزنا عن الشر من قبل وتولوا وهم فرحون
قال الرازي: قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا الَّذِي نَحْنُ مَشْهُورُونَ بِهِ، وَهُوَ الْحَذَرُ وَالتَّيَقُّظُ وَالْعَمَلُ بِالْحَزْمِ، مِنْ قَبْلُ أَيْ قَبْلَ مَا وَقَعَ وَتَوَلَّوْا عَنْ/ مَقَامِ التَّحَدُّثِ بِذَلِكَ، وَالِاجْتِمَاعِ لَهُ إِلَى أَهَالِيهِمْ،
قال الواحدي: أي: قد عملنا بالحزم حين تخلفنا، فسلمنا مما وقعوا فيها،
قال الآلوسي: قد أخذنا أمرنا} أي تلا فينا ما يهمنا من الأمير يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمو الكفر والنفاق قولا وفعلا {من قبل} أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة
قال سيد طنطاوي: أى: قد تلافينا ما يهمنا من الأمر بالحزم والتيقظ، من قبل وقوع المصيبة التي حلت بالمسلمين، ولم نلق بأيدينا إلى التهلكة كما فعل هؤلاء المسلمون.
[71] قال ابن عرفة:قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ… 2)} (2/436) قلت: (مِنْ) لابتداء الغاية فيقتضى أول أزمنة القبلية وقد يضرب الماضي من زمن الحال فكيف صح الجمع منهما؟ فقال: المراد أول أزمنة هذا المكر المقرب وهو الزمن القريب من وقتك، وقال ابن عرفة (1/346):، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية، وقال ابن عرفة (1/346): قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ)، قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية،.قال ابن عرفة ص (1/85) عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}(2/27). الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل(من بعد): لتدل على مبادرتهم بالنقض في أول (أزمنته البعيدة).قال ابن عرفة: قوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ}(2/51)لأن «ثُمَّ» للتراخي و «مِن» في «مِن بَعْدِهِ» (تقتضي) ابتداء الغاية فهي لأول أزمنة البعدية. قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}(2/133)فإن قلت: لم قال: «من بعد» فأتى بـ «من» المقتضية لأول الأزمنة البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له و مقتفين (لآثاره)؟الجواب: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال: إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب من موته يقوى فيه وجه الاتباع.
قال ابن عرفة (1/113) عند تفسير قوله تعالى: {(88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}{3/89).أي بادروا في أول أزمنة البعدية.قال ابن عرفة (2/254) عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}(7/148): دليل على مبادرتهم بذلك في أول أزمنة البعدية. قال ابن عرفة عند تفسير قوله تعالى (4/97): {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (53/26).لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية..قال ابن عرفة (1/124){ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ…}}: “الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية”. [يعني أن القرب يطلق على القرب القريب جدا وما ليس كذلك و (التشكيك) يُقَال (فِي علم الْمنطق) لفظ يدل على أَمر عَام مُشْتَرك بَين أَفْرَاد لَا على السوَاء بل على التَّفَاوُت كَلَفْظِ الْأَبْيَض . بقال ابن عرفة (4/158):، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية.
[72] قال البقاعي (ج3/206) عند تفسير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}(2/214): ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال: {من قبلكم}، و قال البقاعي (14/389) عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} ولما كان التأسِّي بالقريب في الزمان أعظم، أثبت الجار في قوله: {من قبلهم}.. قال البقاعي:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(30/9) لما كان حال من قرب من زمان الإنسان أوعظ له، أثبت الجار فقال: {من قبلهم}. قال البقاعي (5/94) عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وعصيتم}: وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون}.قال البقاعي (6/139) عند تفسير: {لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ}. أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين: المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً، ولذلك، أثبت الجار فقال: {من بعد} أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من {مواضعه} أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء: مال عنه. قال البقاعي(5/97) عند تفسير: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال: {من بعد الغم}.
[73] قال السامرائي في معاني النحو (2/168)، دار الفكر، الطبعة الثانية: في الفرق بين آية البقرة {ثم اتخذتم العجل من بعده}وآل عمران {فمن تولى بعد ذلك}: والفرق واضح وذلك أن آية البقرة في بني إسرائيل وتعداد نعمه عليهم وعصيانهم مع ظهور الآيات البينات فقد قال تعالى {وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}فهم بعد أن فرق بهم البحر وأغرق آل فرعون اتخذوا العجل بلا مدة فاصلة فجاء بمن فقال من بعده ولم يقل بعده ثم عفا عنهم من بعد ذلك ثم إنهم قالوا لموسى إنهم لن يؤمنوا بعد كل ذلك حتى يروا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فأماتتهم ثم بعثهم من بعد الموت ثم رفع فوقهم الطور ثم تولوا من بعد ذلك فجأة فما أقسى قلوبهم وما أضلهم وهذا دليل على تقلب قلوبهم وتمكن الضلال من نفوسهم يعصون من بعد الآيات فجأة وليس الأمر كذلك في آية أل عمران لأن الكلام مع النبيين وليس المقام مقام تبكيت ولا أنهم يتولون مباشرة من بعد الميثاق وإنما هو مقام ترهيب وتوعد لمن تولى بعد الميثاق والفرق واضح بين المقامين.قال السامرائي في معاني النحو (2/172): قوله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل {إن كنتم في ريب من البعث ـ ـ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفي وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} الحج “فأنت ترى أن الآية الثانية رد على من هو في ريب من البعث وإيضاح بالغ الله له وكيف أنه خلقه من التراب بشرا فطوره إلى أن يرد إلى أرذل العمر فيجهل من بعد العلم إلى غير ذلك من مظاهر قدرة الله فذكر (من) هنا بخلاف آية النحل لسر لطيف وهو أن قوله (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) معناه أن الجهل يبدأ من بعد العلم بلا مهلة فهناك حالة علم تبدأ منها حالة الجهل التام أما قوله (بعد علم) فيحتمل أن مرت عليه مدة طويلة من غياب بعض المعلومات ونسيانها إلى الجهل فمعنى (من بعد علم) أنه قادر على أن يغير بأقرب وقت من حال إلى حال وهو المناسب لمقام تبيان القدرة لمنكري البعث،ومن قال بالزيادة للتوكيد لأن المقام مقام توكيد فقوله ليس بمطرح لكن الاولى عدم إخراجها عن معناها ما أمكن”.
[74] قال في مغني اللبيب ص(199): وَمن الدَّاخِلَة على عَن زَائِدَة عِنْد ابْن مَالك ولابتداء الْغَايَة عِنْد غَيره قَالُوا فَإِذا قيل قعدت عَن يَمِينه فَالْمَعْنى فِي جَانب يَمِينه وَذَلِكَ مُحْتَمل للملاصقة ولخلافها فَإِن جِئْت ب من تعين كَون الْقعُود ملاصقا لأوّل النَّاحِيَة.
[75] قال السيوطي في معترك الأقران (3/308) عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)، دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى: (وقد مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهم):قد قدمنا صفةَ مكرهم، ولذلك أجابهم بقوله: (فلِلَّهِ المَكرُ جميعاً)، لأن مكرهم من غير قدرة، وقدْرَتُه تعالى على الفعل، وهو عالم بهم، لا يخفاه شيء من أمرهم فإن قلت: ” من ” لابتداء الغاية فيقتضي أول أزمنة القبلية، وقد يقرب الماضي من زمن الحال، فكيف صح الجمع بينهما؟ والجواب المراد أوَّل أزمنة هذا المكر القريب، وهو الزمنُ القريب مِن وقتك.
[76] قال ابن عاشور (7/85) عند تفسير {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}: {من بعد الصلاة} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة. والإتيانُ ب (مِن) الابتدائية لتقريب البَعديّة، أي قرب انتهاء الصلاة” يقول علي هاني: ومعظم ما يقال في من بعد يقال في من قبل.
[77] قال ابن جماعة (1/292) أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي، بدر الدين، في كشف المعاني في المتشابه من المثاني، دار الوفاء ـ المنصورة: مسألة: قوله تعالى: (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) وفى الجاثية والبقرة: (بَعْدَ) بحذف (مِنْ)؟ جوابه: أن الأرض يكون إحياؤها تارة عقيب شروع موتها، وتارة بعد تراخي موتها مدة.فآية العنكبوت: تشير إلى الحالة الأولى لأن (مِنْ) لابتداء الغاية، فناسب ذلك ما تقدم من عموم رزق الله تعالى خلقه. وآية البقرة والجاثية: في سياق تعداد قدرة الله تعالى، فناسب ذلك ذكر إحياء الأرض بعد طول زمان موتها.
[78] قال أبو حيان (1/436) عند قوله تعالى {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ}،”وأتى بلفظ: (من)، إشعاراً بابتداء الغاية، وأنه يعقب: ما جاءته، يبدل”. قال أبو حيان (4/242) عند تفسير: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2/213).أتى بلفظ: (من)، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة. قال أبو حيان (5/87) عند تفسير{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وتذكير هود بذلك يدلّ على قرب زمانهم من زمان نوح لقوله {من بعد قوم نوح}.قال أبو حيان (1/480) عند تفسير:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} ومن في: من بعده: لابتداء الغاية، وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبئ يوشع. وقال أبو حيان(1/206) عند تفسير {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} (2 27):ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية، ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثر ما استوثق الله منهم نقضوه،وقيل: من زائدة وهو بعيد. قال أبو حيان عند تفسير {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك}: وأتى بمن في قوله: {من بعد ذلك} إشعاراً بأن القسوة كان ابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بد من تجوّز في أحدهما، والتجوز في ثم أولى. قال أبو حيان (2/367) عند تفسير: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(2/213).أتى بلفظ: (من)، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة.
[79] ففي قوله تعالى {{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} قال أبو السعود (7/64): ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيانِ اتصالِ اليأسِ بالتنزيلِ المتصلِ بالاستبشارِ وبشهادةِ إذا الفجائية {لَمُبْلِسِينَ} خبرُ كانُوا، واللامُ فارقةٌ، أي آيسينَ قال الآلوسي (15/386): {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} الودق {مِن قَبْلِهِ} أي التنزيل {لَمُبْلِسِينَ} أي آيسين، والتكرير للتأكيد، وأفاد كما، قال ابن عطية (4/342) الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان فجاء {مِن قَبْلِهِ} للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال، وقال الزمخشري: أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته. وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط، وقال قطرب: ضمير {قَبْلِهِ} للمطر فلا تأكيد. وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلاً عن القرآن اطفيش – التيسير (8/46) محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش الجزائري، تفسير اطفيش: {وإن كانُوا} ان مخففة من الثقيلة مهملة، وقيل تعمل فيقدر لها ضمير الشأن، او ضمير يليق بالمقام مثل وانهم {من قَبل ان ينزل} الودق {عليْهِم من قَبْله} من قبل تنزيله، أعاده للتاكيد رفقا للمجاز على ما شهر ان المجاز لا يؤكد تاكيدا لفظيا، وان ورد فقليل، ولو لم يؤكد لجاز ان يتوهم ان المراد بقبل ان ينزل من قبل، ان تحصل به الثمار، ورفعا للقبلية المنفصلة لما قال من قبله، دل على الاتصال المتبادر من القبلية، فاكد لشدة الاتصال، وقيل: اكد ليدل عل بعد عهدهم بالمطر، فيفهم منه استحكام اياسهم قال البقاعي ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم، وبين قرب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال: {من قبل أن ينزل} أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه {عليهم} ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله: {من قبله} أي الاستبشار سواء من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر.
[80] قال ابن عرفة: قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ).قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية.
[81] قال البقاعي عند قوله تعالى {{ولقد صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ} قال البقاعي: وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال: {من بعد ما أراكم ما تحبون}.
[82] قال السامارئي: في معاني النحو أنقله لأهميته القصوى قال: “وقد يكون التعقيب مجازيا كما في قوله تعالى: {والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى} ومعنى التعقيب المجازي أن المقام يقتضي من المتكلم تقصير المدة فيأتي بالفاء وقد يقتضيه العكس فيأتي بـ(ثم) فيقال مثلا في مقام: (الدنيا طويلة) وفي مقام يقال: (الدنيا قصيرة) ألا ترى أنك قد تقول مهددا خصمك: (الأيام طويلة وأنا لك بالمرصاد) وفي مقام تقول: (الدنيا قصيرة وسنلتقي عند أحكم الحاكمين) ثم ألا ترى أنك قد تكون في مقام تريد فيه أن تبين طول الدنيا وتقلبها، فتقول: (إن هذه الدنيا طويلة تغر الحليم وتغير النفوس وكثيرا ما تتغير الطباع بتبدل الدهر وطول الزمان وتغير الحدثان)وتقول: (إن الصبر قد ينفد في هذا العمر الطويل، والنفس لا تحتمل مثل هذه المشقة والمرارة طوال العمر)وقد تكون في مقام تريد فيه النهي عن الانصراف إلى الدنيا، فتقصرها في عين الرائي فتقول: (إنها سريعة الفناء والزوال، وكثيرا ما شاهدنا أناسا ذوي سطوة وجاه زالوا في أسرع من لحظة العين، فاللبيب من شمر للآخرة وسعى لها سعيها ولا يغتر بهذا الدنيا الخداعة) فإذا كان المقام مقام تطويل جئت بـ(ثم) وإذا كان المقام مقام تقصير، جئت بالفاء فتقول مثلا: (ألا ترى إلى فلان كيف نشأ من أبوين فقيرين، ثم كبر، ثم ساد ثم انتزع الملك من بني فلان، وحكم ما شاء الله له أن يحكم، وبقي أولئك يتربصون به ويستعدون ويجمعون عليه الأنصار، ثم انقضوا عليه فأهلكوه)، فإذا أردت أن تقصر ذلك قلت: (ألا ترى إلى فلان كيف ساد وملك، فإذا هو بعد مدة كأن لم يكن فأصبح أثرا بعد عين وغيبا بعد شهود) ولكل مقام مقال.
[83] من الملاحظ أن القرآن إذا ذكر قوم نوح وحدهم أو قوم فرعون مثلا يذكر {قبلهم} بدون من لبعد هذين القومين بخلاف أهل الكتاب فهم قبل هذه الأمة مباشرة بالنسبة لغيرهم من الأمم، فأهل الكتاب اتصلوا بهذه الأمة مباشرة لكنه إذا تكلم على قوم فرعون أو على قوم نوح بدون ذكر الأقوام الآخرين يحذف من نحو:
{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [44: 17] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [40: 5].(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [54: 9] القمر.
[84] قال البغوي {من قبل}، أي: كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم؟الزمخشري {هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ} يريد أنكم قلتم في يوسف {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [يوسف: 12 63] كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قالالقرطبي قوله تعالى: ” قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ” أي قد فرطتم في يوسف فكيف آمنكم على أخيه!
قال السمين الحلبي قوله تعالى: {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ}: منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ محذوف أو على الحال منه، أي: ائتماناً كائتِماني لكم على أخيه، شبَّه ائتِمانَه لهم على هذا بائتمانِه على ذلك. و ” من قبلُ ” متعلق ب ” أمِنْتُكم “.
قال البقاعي ولما كان لم يطلع لهم في يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة 7 قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال: {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ أبو السعود {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى اللهأبو زهرة {قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين 64} الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، وهو وقوع الأمن، أي ليس أمني عليه منكم، إلا كأمني على يوسف منكم، وقد كانت نتيجة الأمن في الماضي أن جئتم تبكون، وتقولون أكله الذئب، فلستم أنتم الذين تحفظون أخاكم
قال سيد طنطاوي: أى: قال يعقوب لأولاده بعد أن طلبوا منه بإلحاح إرسال أخيهم معهم، وبعد أن تعهدوا بحفظه: أتريدون أن أأتمنكم على ابنى ” بنيامين ” كما ائتمنتكم على شقيقه يوسف من قبل هذا الوقت، فكانت النتيجة التي تعرفونها جمعاً، وهى فراق يوسف لى فراقاً لا يعلم مداه إلا الله – تعالى -؟!! لا، إننى لا أثق بوعودكم بعد الذي حدث منكم معى في شأن يوسف. فالاستفهام في قوله {هَلْ آمَنُكُمْ…} للإِنكار والنفى
[85] ابن عاشور والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ، فقوله: {من قبلُ} إشارة إلى ذلك، أي من قبل
الطبري -مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حَزّبَ الأحزاب، يعني حَزّبَ الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ الله، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك. الطبرسي. (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: أرصدوا ذلك المسجد، واتخذوه، وأعدوا لأبي عامر الراهب، وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل البيضاوي. و{من قبل} متعلق ب {حارب} أو ب {اتخذوا} أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف الخازن إرصاداً يعني انتظاراً وإعداداً لمن حارب الله ورسوله {من قبل} يعني من قبل بناء هذا المسجد أبو حيان -والظاهر أنّ من قبل متعلقاً بحارب، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها، أي: من قبل اتخاذ هذا المسجد.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتصل قوله تعالى: من قبل؟ (قلت): باتخذوا أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى.
وليس بظاهر، أي جارٍ بهما قبل اتخاذِ هذا المسجد {مِن قَبْلُ} متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ
[86] وأما القول الثاني:فقد اختاره: أبو السعود و الآلوسي واطفيش والشوكاني والجصاص. ذكروا من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً}قال أبو السعود مِن قَبْلِهِمْ} في حيِّز النَّصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدر مؤكِّد للفعل السَّابقِ والموصول عبارةٌ عمَّن قيل لهم: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} الآية، ووصفهم بكونِهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرِهم قبل ذكرِهم لا باعتبار بلوغِهم قبل بلوغِهم كما قيل لما أنَّ المقصودَ بالتشبيه بيانُ كيفيَّةِ استئذان هؤلاءِ وزيادةُ إيضاحِه ولا يتسنَّى ذلك إلا بتشبيهِه باستئذانِ المعهودين عند السَّامعِ ولا ريبَ في أنَّ بلوغهم قبلَ بلوغِ هؤلاءِ مما لا يخطُر ببال أحدٍ وإنْ كان الأمرُ كذلك في الواقع وإنَّما المعهودُ المعروفُ ذكرهم قبلَ ذكرِهم أي فليستأذنُوا استئذاناً كائناً مثل استئذانِ المذكورينَ قبلهم بأنْ يستأذنُوا في جميع الأوقاتِ قال الشوكاني، والكاف نعت مصدر محذوف: أي استئذاناً كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} [النور: 27] الآية. والمعنى: أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء، ثم كرّر ما تقدّم للتأكيد، قال الآلوسي {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 72] وجوز أن تكون القبلية باعتبار الوصف لا باعتبار الذكر في «النظم الجليل » بقرينة ذكر البلوغ وحكم الطفولية أي الذين بلغوا من قبلهم. وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر.
/ وتعقب بأن المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع، ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم، فالمعنى فليستأذنوا استئذاناً كائناً مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف، الذين ذكروا من قبلهم في قوله: {يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ} الآية [النور: 27] البقاعي من قبلهم} على ما بين في أول الآيات القائلة {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوااطفيش- التيسير – قَبْلهم} ذكروا قبلهم فى السورة من البلغ فى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا} الجصاص كما استأذن الذين من قبلهم وهم المذكورون في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا
[87] قال الطباطبائي: تأكيد لتوبيخهم وزيادة تقرير لجرمهم، والمعنى: أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم وعدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر والعقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به وإن ربهم الرحمن عز اسمه وإن من الواجب عليهم أن يتبعوه ويطيعوا أمره.
ابن عاشور الجملة في موضع الحال من ضمير {أفلا يرون} [طه: 89] على كلا الاحتمالين، أي كيف لا يستدلّون على عدم استحقاق العجل الإلهيّة، بأنه لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً فيقلعون عن عبادة العجل، وتلك دلالة عقلية، في حال أنّ هارون قد وعظهم ونبههم إلى ذلك إذ ذكّرهم بأنه فتنة فتنهم بها السامريّ، وأن ربّهم هو الرحمان لا ما لا يملك لهم نفعاً فضلاً عن الرحمة، وأمرهم بأن يتبعوا أمره، وتلك دلالة سمعيّة.
وتأكيد الخبر بحرف التحقيق ولام القسم لتحقيق إبطال ما في كتاب اليهود من أن هارون هو الذي صنَع لهم العِجل، وأنه لم ينكر عليهم عبادته. وغاية الأمر أنه كان يستهزىء بهم في نفسه، وذلك إفك عظيم في كتابهم.
والمضاف إليه (قبلُ) محذوف دل عليه المقام، أي من قبلِ أن يرجعَ إليهم موسى وينكر عليهم.
وافتتاح خطابه ب {يا قوم تمهيد لمقام النصيحة. قال أبو السعود {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ} جملةٌ قسميةٌ مؤكدة لما قبلها من الإنكار والتشنيع ببيان عُتوِّهم واستعصائِهم على الرسول إثرَ بيانِ مكابرتهم لقضية العقولِ، أي وبالله لقد نصح لهم هارونُ ونبّههم على كُنه الأمرِ من قبل رجوعِ موسى عليه الصلاة والسلام إليهم وخطابِه إياهم بما ذكر من المقالات، قال الزمخشري: {مِن قَبْلُ} من قبل أن يقول لهم السامري ما قال، كأنهم أوّل ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة افتتنوا به واستحسنوه، فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون عليه السلام بقوله: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن}
[88] قال الطبري: وقوله: ألَمْ تَعْلَمُوا أنّ أباكُمْ قَدْ أخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقا مِنَ اللّهِ يقول: ألم تعلموا أيها القوم أن أباكم يعقوب قد أخذ عليكم عهود الله ومواثيقه لنأتينه به جميعا، إلاّ أن يُحاط بكم، ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف يقول: أو لم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف. قال البغوي قيل: هو نصب بإيقاع العلم عليه، يعني: ألم تعلموا من قبل تفريطكم في يوسف قال الطبرسي -. (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) أي: قصرتم في أمره، وكنتم قد عاهدتم أباكم أن تردوه إليه سالما، فنقضتم العهد قال ابن الجوزي قال الفراء: {ما} في موضع رفع، كأنه قال: ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف، وإن شئت جعلتها نصبا، المعنى: ألم تعلموا هذا، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف قال الفخر الرازي -الأول: أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام، ولم تحفظوا عهد أبيكم.قال البقاعي {ومن قبل} أي قبل هذا {ما فرطتم} أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً قال الشوكاني و{من قبل} متعلقة ب{تعلموا} أي: وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل قال ابن سعدي فاجتمع عليكم الأمران، تفريطكم في يوسف السابق، وعدم إتيانكم بأخيه باللاحق، فليس لي وجه أواجه به أبي قال ابن عاشور وجملة {ومن قبل ما فرطتم} جملة معترضة. و {ما} مصدرية، أي تفريطكم في يوسف عليه السلام كان من قبل المَوثق، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من أخذ بنيامين في سرقة الصُّوَاع. قال سيد طنطاوي -والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم… وتعلموا تفريطكم في يوسف، فقوله {وَمِن قَبْلُ} متعلق بتعلموا. أى: تعلموا تفريطكم في يوسف من قبل. على أن ما مصدرية.
[89] قال الآلوسي والظاهر أن {مِن قَبْلُ} متعلق بقصصنا وجوز تعليقه بحرمنا والمضاف إليه المقدر ما مر أيضاً.
ويحتمل أن يقدر {مِن قَبْلُ} تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا اطفيش – التيسير متعلق بقصصنا، والمراد من قبل نزول هذه الآية، أو بحرّمنا فالمراد: من قبل تحريم ما حرم على هذه الأمة، لكن ما حرم عليها ليس ما حرم على اليهود في سورة الأنعام، بتعليقه بقصصنا أولى اطفيش – الهميان ومن قبل “، متعلق ب ” قصصنا ” والقبلية باعتبار النزول وباعتبار ترتيب السور على ما قالوا إِن ترتيبها بالوحي، ويجوز تعليق ” من قبل “، ب ” حرمنا ”
قال الطباطبائي: و الآية في مقام دفع الدخل، وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا، كأن قائلا يقول: فإذا كانت محرمات الأكل منحصرة في الأربع المذكورة: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وكان ما وراءها حلالا فما هذه الأشياء المحرمة على بني إسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك، وما ظلمناهم في تحريمه، ولكنهم كانوا يظلمون أنفسهم فنحرم عليهم بعض الأشياء، أي: إنه كان محللا لهم مأذونا فيه، لكنهم ظلموا أنفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة
[90] قال البقاعي: ولما كان العهد ربما طال زمنه فنسي، فكان ذلك عذراً لصاحبه، بين قرب زمنه بعد بيان عظمة المعاهد اللازم منه ذكره، فقال مثبتاً الجار: {من قبل} أي قبل هذه الحالة وهذه الغزوة حين أعجبتهم المواعيد الصادقة بالفتوحات التي سموها الآن عندما جد الجد مما هي مشروطة به من الجهاد غروراً {لا يولّون}
قال ابن عاشور: وزيادة {من قبل} للإشارة إلى أن ذلك العهد قديم مستقر وهو عهد يوم أحد. وجملة {لا يولون الأدبار} بيان لجملة {عاهدوا}. الطبرسي ثم ذكرهم الله سبحانه عهدهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالثبات في المواطن، فقال: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) أي: من قبل الخندق. (لا يولون الأدبار) أي: بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحلفوا له أنهم ينصرونه، ويدفعون عنه الفخر الرازي بيانا لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذرا وندما، وذكروا أن القتال لا يزال لهم قدما ثم هددهم بقوله: {وكان عهد الله مسئولا}.
[91] قال الآلوسي: واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل: هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة. وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقاً كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول الصفا ذهباً، وقال الجبائي: كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا: ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء قال رشيد رضا: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102)} أي قد سأل هذه المسألة – أي هذا النوع – منها أو هذه المسائل – أي أمثالها – قوم من قبلكم ثم أصبحوا بعد إبدائها لهم كافرين بها، فإن الذين أكثروا السؤال عن الأحكام التشريعية من الأمم قبلكم لم يعلموا بما بين لهم منها، بل فسقوا عن أمر بهم، وتركوا شرعهم لاستثقالهم العمل به، وأدى ذلك إلى استنكاره واستقباحه، أو إلى جحود كونه من عند الله تعالى، وكل ذلك من الكفر به. والذين سألوا الآيات كقول صالح لم يؤمنوا بعد إعطائهم إياها بل كفروا واستحقوا الهلاك في الدنيا قبل الآخرة – والأخبار الغيبية كالآيات أو منها – وقد اقتصر ابن جرير في هذه الآية على تفسير المسائل التي سألوها وكفروا بها بالآيات التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام، وذكر ابن كثير المعنيين اللذين قررناهما آنفا واستشهد للأول بمسألة السؤال عن الحج. ولا بد من الجمع بينهما لتكون هذه الآية تتمة لما قبلها، وبيانا لسبب ذلك النهي الجامع للمعنيين كما تقدم. ويؤيد الأول ما ورد في حديث السؤال عن الحج من كون فرضه كل عام يفضي إلى الكفر، وإنما يظهر ذلك بالوجه الذي قررناه وبيناه، ولم نر أحدا سبقنا إليه. ابن سعدي وهذه المسائل التي نهيتم عنها {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: جنسها وشبهها، سؤال تعنت لا استرشاد. فلما بينت لهم وجاءتهم {أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم “.
قال ابن عاشور: فتتعلّق ب {كافرين}، أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدّقوا رسلهم فيما أجابوا به الطباطبائي والآية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص أخرى من قوم موسى وغيرهم.
سيد طنطاوي واختلف في تعيين القوم: فعن ابن عباس هم قوم عيسى: سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها وقيل: هم قوم صالح – عليه السلام – سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم بنو إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم.
والذي نراه أن لفظ {قوم} يشمل هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الآلوسي كما يشمل غيرهم ممن سألوا عن أشياء لا خير من السؤال عنها فلما أجيبوا عما سألوا عنه لم يعملوا بما أخبروا به بل كفروا به وهجروه وأنكروه.
ونكر – سبحانه – لفظ {قوم} لأنه ليس الغرض تعيين ذواتهم، بل الغرض النهي عن التشبه بهم مهما كانت أجناسهم أو أزمانهم.
المنتخب 102- قد سأل عن أمثال هذه الأمور الشاقة جماعة ممن سبقوكم، ثم بعد أن كلفوا بها على ألْسِنَةَ أنبيائهم ثقل عليهم تنفيذها، فأعرضوا عنها، وكانوا لها منكرين، لأن الله يريد اليسر ولا يريد العسر، ويكلف الناس ما يطيقون.
[92] قال سيد قطب: فهو استنكار لتشبه بعض المؤمنين بقوم موسى في تعنتهم وطلبهم للبراهين والخوارق وإعناتهم لرسولهم أمرهم بأمر أو أبلغهم بتكليف، على نحو ما حكى السياق عنهم في مواضع كثيرة.
قال أبو حيان: {موسى من قبل}:يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف.
فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، لأنه قد علم أن سؤال بني إسرائيل موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، متقدّم على سؤال هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال السمين الحلبي: و ” من قبلُ ” متعلق بسُئل، و ” قبلُ ” مبنيةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم. وهذا توكيدٌ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم.
[93] قال ابن عاشور: ومعنى: {وكنا ذرية من بعدهم} كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل،و {من بعدهم} نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم، قال البقاعي: أي من قبل أن نوجد {وكنا ذرية من بعدهم} فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه 4، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا.
قال أبو السعود: أي هم اخترعوا الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا {وَكُنَّا} نحن {ذُريةً من بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل.
[94] الطوسي -وقال ابن عباس ” الذين كفروا ” اراد به عبدة الاوثان، وقال الفراء: يشابهونهم في عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى. وقال قوم في قولهم: الملائكة بنات الله. وقال الزجاج: شابهوهم في تقليدهم اسلافهم في هذا القول. الواحدي
يتشبهون بقول المشركين حين قالوا الملائكة بنات الله وقد أخبر الله عنهم بقولهشبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، عن الحسنابن كثير -أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاءرشيد رضا {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} أي يشابهون ويحاكون فيه قول الذين كفروا من قبلهم، فقالوا هذا القول أو مثله. قيل: إن المراد بهم مشركو العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله. وقيل: إن المراد سلفهم الذين قالوا هذا القول قبلهم. وهذا مبني على أن الكلام في اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر نزول القرآن، إذ لم يصل إلينا أن أحدا من سلف أولئك اليهود في بلاد العرب أو غيرها قالوا عزير ابن الله، وإن كان غير بعيد في نفسه، ولو كانت الآية نصاً فيه لجزمنا به؛ لأن عدم وصول نقل إلينا فيه لا يقتضي عدم وقوعه.
والراجح المختار أن المراد بكل من اليهود والنصارى في الآية الجنس، وهو يصدق بوقوع ذلك من بعضهم في أي عصر كان، والمختار في مضاهأتهم للذين كفروا من قبلهم يصدق في كل من وقع ذلك منهم والله أعلم بهم.
وقد علمنا من تاريخ قدماء الوثنيين في الشرق والغرب أن عقيدة الابن لله والحلول والتثليث كانت معروفة عند البراهمة في الهند والبوذيين فيها وفي الصين واليابان وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، وقد بينا هذا في تفسير آية 4: 196 التي تقدمت الإشارة إليها آنفا، وهذا البيان لهذه الحقيقة من معجزات القرآن، فإنه لم يكن يعرفها أحد من العرب ولا ممن حولهم؛ بل لم تظهر إلا في هذا الزمان، كما يقال مثل هذا فيما بينه من حقيقة أمر كتبهم، وسيأتي بيانه قريبا في فصل خاص. سيد قطب
{يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}..
ولقد كان المفسرون يقولون عن هذه الآية: إن المقصود بها أن قولتهم ببنوة أحد لله، تماثل قول المشركين العرب ببنوة الملائكة لله.. وهذا صحيح.. ولكن دلالة هذا النص القرآني أبعد مدى. ولم يتضح هذا المدى البعيد إلا حديثاً بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر القديمة والإغريق. مما اتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب – وبخاصة النصارى – وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم ” بولس الرسول ” أولاً؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً..
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية. وأزوريس يمثل (الأب) وحوريس يمثل (الابن) في هذا الثالوث.
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة ” الكلمة هي الإله الثاني ” ويدعى أيضاً ” ابن الله البكر “.
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله: ” برهما ” في حالة الخلق والتكوين. و ” فشنو ” في حالة الحفظ والقوامة. و ” سيفا ” في حالة الإهلاك والإبادة.. وفي هذه العقيدة، أن ” فشنو ” هو (الابن) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في (برهما)!
وكان الأشوريون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا هو ابن الله البكر!
وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم. وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات.
إشارة إلى التثليث.. وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل!
ومراجعة عقائد الوثنيين القدامى – التي لم تكن معروفة وقت نزول القرآن – مع هذا النص القرآني: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} – كما أنها تثبت أن أهل الكتاب لا يدينون دين الحق، ولا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح – تبين كذلك جانباً من جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، بالدلالة على مصدره، أنه من لدن عليم خبير..
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك، بقوله تعالى: (قاتلهم اللّه! أنى يؤفكون ?). أبو زهرة – وهم يشابهونهم في أنهم أشركوا في العبادة غير الله، كما أشرك أولئك الأوثان، وإني أقول إن المشابهة ليست بعيدة الأركان بل ثابتة القرب واضحة، ويدخل معهم أيضا عبدة الأوثان من غير العرب أيضا، وهم البرهمية، فهم قالوا إن للإله ابنا، فالبراهمة قالوا إن كرشنة ابن لبراهما، وقال البوذيون: إن بوذا ابن للإله، كما قال النصارى، ويظهر أن موجة من ادعاء البنوة كانت سائدة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أخذت منها وثنية النصارى في القرن الرابع مع الأفلاطونية الحديثة عقيدتها الباطلة، ولعل الأفلاطونية الحديثة ذاتها قد أخذت من الهنود، فقد ثبت أن كبيرها ذهب إلى الهند، وعاد بعقيدته
الطباطبائي
و تقدم هناك أن تسرب العقائد الوثنية في دين النصارى ومثلهم اليهود من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم في هذه الآية: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل}.
و قد اعتنى جمع من محققي هذا العصر بتطبيق ما تضمنته كتب القوم أعني العهدين: العتيق والجديد على ما حصل من مذاهب البوذيين والبرهمائيين فوجدوا معارف العهدين منطبقة على ذلك حذو النعل بالنعل حتى كثيرا من القصص والحكايات الموجودة في الأناجيل فلم يبق ذلك ريبا لأي باحث في أصالة قوله تعالى: {يضاهئون} الآية في هذا الباب.
[95] قال ابن جزي: {ومن قبله كتاب موسى} أي: ومن قبل ذلك الكتاب الشاهد كتاب موسى وهو أيضا دليل آخر متقدم الخازن {ومن قبله} يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم {كتاب موسى} يعني التوراة {إماماً ورحمة} يعني أنه كان إماماً لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال ابن كثير ثم قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} أي: ومن قبل [هذا] 27 القرآن كتاب موسى، وهو التوراة، {إِمَامًا وَرَحْمَةً}.قال أبو السعود: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} على فاعله مع كونه مقدَّماً عليه في النزول فكأنه قيل: أفمن كان على بينةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى، وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفاً لازماً له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ، والتنكيرُ في (بينةٍ) و (شاهدٌ) للتفخيم {إِمَاماً} أي مؤتماً به في الدين ومقتدىً، وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يخفى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ.
[96] قال الفخر الرازي المسألة الثالثة: اختلفوا في أن المسئول منه في قوله: {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب} من هم؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم، ومنهم من قال: الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤوا آية من التوراة والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض.
الزمخشري – {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب} والمعنى: أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أم يأكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه [الصلاة و] السلام، ويبالغ في ذلك، فقال: فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب، يعني: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه، ثم البقاعي {الذين يقرءون} أي متتابعين 51 لذلك {الكتاب} أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا 52 إليك على حد عظيم. ومن آمن منهم أو كان منصفاً جديرا 53 بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال: {من قبلك} وهم عن 54 ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح 55 إلى سؤال غيري، أبو السعود {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} فإن ذلك محققٌ عندهم ثابتٌ في كتبهم حسبما ألقَينا إليك والمرادُ إظهارُ نبوتِه عليه السلام بشهادة الأحبارِ حسبما هو المسطورُ في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلاً أو وصفُ أهلِ الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوتِه عليه السلام أو تهييجه عليه السلام وزيادةِ تثبيتِه على ما هو عليه من اليقين لا تجويزِ صدورِ الشك منه عليه السلام ولذلك قال عليه السلام: «لا أشُكُّ ولا أسأَلُ » وقيل: المرادُ بالموصول مؤمنو أهلِ الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وتميمٍ الداري وكعبٍ وأضرابِهم وقيل: الخطابُ للنبي عليه السلام والمرادُ أمتُه أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامعُ في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبيِّنا سيد قطب.. لقد كان آخر الحديث عن بني إسرائيل، وهم من أهل الكتاب، وهم يعرفون قصة نوح مع قومه وقصة موسى مع فرعون، يقرأونها في كتابهم. فهنا يتوجه الخطاب إلى الرسول – [ص] – إن كان في شك مما أنزل إليه، من هذا القصص أو غيره، فليسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله. فلديهم عنه علم، مما يقرأون:
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. الخازن – الكتاب من قبلك} يعني علماء أهل الكتاب يخبرونك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم وقد توجه هاهنا سؤال واعتراض وهو أن يقال هل شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل عليه أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك وإذا كان شاكاً في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه
[97] قال الفخر الرازي: وأما قوله: {ونوحا هدينا من قبل} فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب، وذلك لأنه رزقه أولادا مثل إسحق، ويعقوب. وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح. وإدريس، وشيث. فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء.
قال البيضاوي {ونوحا هدينا من قبل} من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد. يتعدى إلى الولد.
قال ابن عاشور: وجملة: {ونوحاً هدينا من قبل} عطف على الاعتراض، أي وهدينا نوحاً من قبلهم. وهذا استطراد بذكر بعض من أنعم الله عليهم بالهدى، وإشارة إلى أنّ الهدى هو الأصل، ومن أعظم الهدى التّوحيد كما علمت. وانتصب {نوحاً} على أنّه مفعول مقدّم على {هدينا} للاهتمام، و {من قبل} حال من {نوحا}. وفائدة ذكر هذا الحال التّنبيه على أنّ الهداية متأصّلة في أصول إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وبُني {قبل} على الضمّ، على ما هو المعروف في (قبلُ) وأخواتِ غيرٍ من حذف ما يضاف إليه قبلُ وينوى معناه دون لفظه. وتقدمت ترجمة نوح عند قوله تعالى: {إنّ الله اصطفى آدم ونوحاً} في سورة آل عمران (33
[98] قال الطبري يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد نوحا إذ نادى ربه من قبلك، ومن قبل إبراهيم ولوط، وسألنا أن نهلك قومه الذين كذّبوا الله فيما توعدهم به من وعيده، وكذّبوا نوحا فيما أتاهم به من الحقّ من عند ربه وَقالَ رَبّ لا تَذَرْ عَلى الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا فاستجبنا له دعاءه، ونجّيناه وأهله البغوي:{من قبل} يعني: من قبل إبراهيم ولوط الزمخشري{مِن قَبْلُ} من قبل هؤلاء المذكورين.
قال ابن عطية {من قبل} بالإضافة إلى إبراهيم ولوط ابن الجوزي {مِن قَبْلُ} أي: من قبل إبراهيم ولوط. فأما الكرب العظيم الخازن من قبل} أي من قبل إبراهيم ولوط {أبو حيان ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الإنسي كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد من نسله من سام وحام ويافث
قال السمين الحلبي وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: مِنْ قبلِ هؤلاءِ المذكورين.
قال أبو السعود: أي اذكر نبأَه الواقعَ وقت دعائه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المذكورين {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي من جملته قولُه: إني مغلوبٌ فانتصر {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو الطوفانُ سيد قطب وهي إشارة كذلك لا تفصيل فيها. لإثبات استجابة الله لنوح – عليه السلام – حين ناداه (من قبل)وهو سابق لإبراهيم ولوط. ولقد انجاه الله وأهله كذلك. إلا امرأته، وأهلك قومه بالطوفان وهو.
[99] قال ابن عاشور: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) وَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ أَي من قَبْلُ أَنْ نُوتِيَ مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا. وَوَجْهُ ذكر هَذِه الْقبلية التَّنْبِيه على أَنه مَا وَقَعَ إِيتَاءُ الذِّكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَّا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمَا لَمْ تَزَلْ مَعْرُوفَةً مَدْرُوسَةً.
قال أبو السعود: {مِن قَبْلُ} أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ، وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ، وقيل: من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام
الآلوسي {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية؛ وقيل الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيراً، واختار بعضهم التعميم.
أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والأول مروي عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في «الكشف »: وهو الوجه الأوفق لفظاً ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام.قال اطفيش – التيسير: واختير منهما، قول ابن عباس لقرب ذكر موسى وهارون، ولمجيئهما بعد إبراهيم، ولأنهما يتأسيان بإبراهيم ويتسليان به، ولكثرة آيات موسى وتكانفها، كآيات نبينا صلى الله عليه وسلم، فيسليه به، ثم بإبراهيم، وهكذا ألا ترى الى قوله: {ونوحاً إذ نادى من قبل} [الأنبياء: 76] أي قبل هؤلاء، وقل قبل إبراهيم ولوط وهود وصالح. سيد قطب وبعد الإشارة السريعة إلى موسى وهارون وكتابهما يرتد السياق إلى حلقة كاملة من قصة إبراهيم، وهو جد العرب الأكبر وباني الكعبة التي يحشدون فيها الأصنام، ويعكفون عليها بالعبادة، وهو الذي حطم الأصنام من قبل. والسياق يعرضه هنا وهو يستنكر الشرك ويحطم الأصنام.
والحلقة المعروفة هنا هي حلقة الرسالة. وهي مقسمة إلى مشاهد متتابعة، بينها فجوات صغيرة. وهي تبدأ بالإشارة إلى ما سبق هداية إبراهيم إلى الرشد. ويعني به الهداية إلى التوحيد. فهذا هو الرشد الأكبر الذي تنصرف إليه لفظة(الرشد)في هذا المقام.
[100] سيد قطب: وأخيراً يذكرهم بموقفهم من يوسف، ومن ذريته كان موسى – عليهما السلام – وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات، فلا يكرروا الموقف من موسى، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف، فكانوا منه في شك وارتياب. ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولاً، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف ويكذب هذا المقال:
ابن عاشور توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم. سيد طنطاوي –
أى: ولقد جاء يوسف – عليه السلام – إلى آبائكم من قبل مجئ موسى إليكم، وكان مجيئه إلى آبائكم مصحوبا بالمعجزات والبينات، والآيات الواضحات الدالة على صدقه.
[101] قال الآلوسي: {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق} أي إتماماً كائناً كاتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والاسمان الكريمان عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للاشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم اللام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة. وإما باتخاذه خليلاً. وإما بانجائه من نار عدوه. وإما من ذبح ولده. وإما بأكثر من واحد من هذه، وعلى إسحق إما بالنبوة. أو باخراج يعقوب من صلبه. أو بانجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد.
قال رشيد رضا -ثم عطف عليه {ويتم نعمته عليك} بالنبوة والرسالة والملك والرياسة {وعلى آل يعقوب} وهم أبواه وإخوته وذريتهم [وأصل الآل أهل بدليل تصغيره على أهيل، وهو خاص في الاستعمال بمن لهم شرف وخطر في الناس كآل النبي صلى الله عليه وسلم وآل الملك ويقال لغيرهم أهل] بإخراجهم من البدو، وتبوئهم المقام الكريم بمصر، ثم بتسلسل النبوة في أسباطهم إلى أجل معلوم {كما أتمها على أبويك من قبل} أي من قبل هذا العهد أو من قبلك {إبراهيم وإسحاق}
قال ابن عاشور: والتّشبيه في قوله: كما أتمها على أبويك من قبل} تذكير له بنعم سابقة، وليس ممّا دلت عليه الرؤيا. ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوءة فالتّشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق.
وجعل إبراهيم وإسحاق عليهما السّلام أبوين له لأنّ لهما ولادة عليه، فهما أبواه الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى الله عليه وسلم « أنا ابنُ عبد المطّلب ».
[102] السمعاني قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أرادوا بأخيه من قبل: يوسف -عليه السلام- ابن عطية أحدهما: أنهم حققوا السرقة في جانب بنيامين ويوسف عليهما السلام، بحسب ظاهر الحكم، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف كان قد سرق. فهذا من الإخوة إنحاء على ابني راحيل: يوسف وبنيامين. القرطبي قوله تعالى: ” قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ” المعنى: أي اقتدى بأخيه، ولو اقتدى بنا ما سرق، وإنما قالوا ذلك ليبرؤوا من فعله، لأنه ليس من أمهم، وأنه إن سرق فقد جذبه عرق أخيه السارق؛ لأن الاشتراك في الأنساب يشاكل في الأخلاق الخازن قوله تعالى: {قالوا} يعني إخوة يوسف {إن يسرق} يعني بنيامين الصواع {فقد سرق أخ له من قبل} يعني يوسف ظاهر الآية يقتضي أن إخوة يوسف قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان سارقاً أيضاً وكان غرضهم من هذا الكلام أنّ لسنا على طريقته ولا على سيرته بل هذا وأخوه كان على هذه الطريقة وهذه السيرة لأنهما من أم أخرى غير أمنا. أبو حيان وقولهم: إنْ يسرق فقد سرق أخ له من قبل، لا يدل على الجزم بأنه سرق، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي: إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله، فقد سرق أخ له من قبل. ابن كثير -وقال 8 إخوة يوسف لما رأوا الصّواع قد أخرج من متاع بنيامين: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يتنصلون إلى العزيز من التشبه 9 به، ويذكرون أن هذا فعل كما فَعَل أخ له من قبل، يعنون به يوسف، عليه السلام. ابن سعدي:يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه ابن عاشور وإنما قالوا: قد سرق أخ له من قبل} بهتاناً ونفياً للمعرة عن أنفسهم. وليس ليوسف عليه السلام سرقة من قبل، ولم يكن إخوة يوسف عليه السلام يومئذٍ أنبياء. وشتان بين السرقة وبين الكذب إذا لم تترتب عليه مضرة.
وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف عليه السلام في مجلس حكمه. الأمثل وأخيراً اقتنع إخوة يوسف بأنّ أخاهم (بنيامين) قد ارتكب فعلا شنيعاً وقبيحاً وإنّه قد شوّه سمعتهم وخذلهم عند عزيز مصر، فأرادوا أن يبرّأوا أنفسهم ويعيدوا ماء وجههم قالوا: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) أي إنّه لو قام بالسرقة فهذا ليس بأمر عجيب منه فإنّ أخاه يوسف وهو أخوه لأبويه قد ارتكب مثل هذا العمل القبيح، ونحن نختلف عنهما في النسب، وهكذا أرادوا أن يفصلوا بينهم وبين بنيامين ويربطوه بأخيه يوسف.
[103] قال السمين الحلبي و {مِن قَبْلُ} و {مِن نَّارِ} متعلقان ب ” خَلَقْنا “؛ لأن الأولى لابتداءِ الغاية والثانيةَ للتبعيض، وفيه دليلٌ على أن ” مِنْ ” لابتداء الغايةِ في الزمانِ، وتأويلُ البصريين له ولنظائِره بعيدٌ. البقاعي {خلقناه} وعبر عن تقليل زمان سبق خلقه وتقريبه بإثبات الجار فقال: {من قبل} أي قبل خلق الإنسان
ابن عاشور -وفائدة قوله: {من قبل} أي من قبل خلق الإنسان تعليم أن خلق الجانّ أسبق لأنّه مخلوق من عنصر الحرارة والحرارة أسبق من الرطوبة. قتل ابن عطية: قال القاضي أبو محمد: والمراد بهذه الحلقة إبليس أبو الجن، وفي الحديث: «أن الله تعالى خلق آدم من جميع أنواع التراب الطيب والخبيث والأسود والأحمر » 36 وفي سورة البقرة إيعاب هذا وقوله {من قبل} لأن إبليس خلق قبل آدم بمدة، وخلق آدم آخر الخلق. سيد قطب: وفي هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال – وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند نقره، المتخذ من الطين الرطب الآسن – والنار الموسومة بأنها شعواء سامة.. نار السموم.. وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من روح الله، أما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم. أبو زهرة هذا خلق الإنسان أو أصل مادة تكوينه، أما الجن فقد قال تعالى: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27)} والجان الجن الذي منه إبليس اللعين، والسموم الرياح الشديدة الحرارة التي تنفذ في المسام، وذكر أنه كان من قبل خلق آدم بدليل أن إبليس أمر بالسجود لآدم.
[104] قال الآلوسي: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} الودق {مِن قَبْلِهِ} أي التنزيل {لَمُبْلِسِينَ} أي آيسين، والتكرير للتأكيد، وأفاد كما قال ابن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يحتمل الفسحة في الزمان فجاء {مِن قَبْلِهِ} للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال، وقال الزمخشري: أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته. وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط، وقال قطرب: ضمير {قَبْلِهِ} للمطر فلا تأكيد. وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلاً عن القرآن ابن عطية وقوله تعالى: {من قبله} تأكيد أفاد سرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار وذلك أن قوله {من قبل أن ينزل عليهم} يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل بكثير كالأيام ونحوه فجاء قوله {من قبله} بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيدابن جزي {من قبله} كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار. اطفيش – التيسير {وإن كانُوا} ان مخففة من الثقيلة مهملة، وقيل تعمل فيقدر لها ضمير الشأن، او ضمير يليق بالمقام مثل وانهم {من قَبل ان ينزل} الودق {عليْهِم من قَبْله} من قبل تنزيله، أعاده للتاكيد رفقا للمجاز على ما شهر ان المجاز لا يؤكد تاكيدا لفظيا، وان ورد فقليل، ولو لم يؤكد لجاز ان يتوهم ان المراد بقبل ان ينزل من قبل، ان تحصل به الثمار، ورفعا للقبلية المنفصلة لما قال من قبله، دل على الاتصال المتبادر من القبلية، فاكد لشدة الاتصال، وقيل: اكد ليدل عل بعد عهدهم بالمطر، فيفهم منه استحكام اياسهم ابن عاشور وقوله {مِنْ قَبْلِه} تكرير لقوله {من قبلِ أن ينزّل عليهم} [الروم: 49] لتوكيد معنى قبلية نزول المطر وتقريره في نفوس السامعين. قال ابن عطية: أفاد التأكيد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار اهـ. يعني أن إعادة قوله {مِنْ قَبْله} زيادة تنبيه على الحالة التي كانت من قبل نزول المطر. وقال في « الكشاف »: « فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم » اه. يعني أن فائدة إعادة {من قبله} أن مدة ما قبل نزول المطر مدة طويلة فأشير إلى قوتها بالتوكيد. الأمثل ويبدو أن تكرار كلمة «من قبل » في الآية للتأكيد، إذ تبيّن الآية أن الوجوه كانت عابسة متجهمة من قبل المطر بلحظات، أجل… لحظات قبل المطر، وهم قلقون ولكن حين ينزل عليهم الغيث… تشرق فجأة الوجوه وتبتسم الشفاه، فكم هو موجود ضعيف هذا الإنسان! وكم هو رحيم هذا الربّ. ومثل هذا التعبير وارد في كلماتنا العرفية حيث نقول مثلا: إن فلاناً كان بالأمس، نعم بالأمس صديقاً لنا، واليوم هو من أعدائنا… والهدف من هذا التكرار هو التأكيد على تغيير حالات الإنسان.الطوسي من قبله لمبلسين ” اي قانطين يائسبن – في قول قتادة – وقوله ” من قبله ” في الموضعين فيه قولان: احدهما – انه للتوكيد. والآخر من قبل الارسال، والاول من قبل الانزال.الواحدي من قبل أن ينزل عليهم} المطر {من قبله} كرر من قبل للتأكيد {لمبلسين} آيسين الزمخشري {مِن قَبْلِهِ} من باب التكرير والتوكيد، كقوله تعالى: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا} [الحشر: 17]. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك.
[105] الزمخشري {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ} أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم، وإن صرتم أعلاماً فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة، ولا تقولوا إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلماً إلى استباحة دمه وماله وقد حرمهما الله أبو السعود مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أيضاً في بدء إسلامِكم لا يظهرُ منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم، سيد قطب -وهكذا يلمس المنهج القرآني القلوب لتحيا وتتحرج وتتذكر نعمة الله.. وعلى هذه الحساسية والتقوى، يقيم الشرائع والأحكام؛ بعد بيانها وإيضاحها وهكذا يتناول هذا الدرس تلك الجوانب من قواعد المعاملات الدولية بمثل هذا الوضوح، ومثل هذه النظافة. منذ أربعة عشر قرنا..ابن عاشور: وزاد في التوبيخ قوله: {كذلك كنتم من قبل} أي كنتم كفّاراً فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أنّ أحداً أبى أن يصدّقكم في إسلامكم أكان يُرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحْوالاً كان هو عليها تساوي أحوال مَن يؤاخذه سيد طنطاوي والذى يبدو لنا أن الاية الكريمة تتسع لهذين التفسيرين، إلا أن التفسير الأول الذى جرى عليه صاحب الكشاف أشمل وأنسب لسياق الآية؛ لأن المقصد الرئيس الذى تدعو إليه الآية الكريمة هو نهى المؤمنين عن سوء الظن بمن أظهر الإِسلام وعن الاعتداء عليه. وأمرهم بان يعاملوا الناس بظاهرهم أما بواطنهم فأمرها إلى الله وحده. البقاعي وبعّض زمان القتل – كما هو الواقع – بقوله 91: 92 {من قبل} أي 93 قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام
[106] يقول علي هاني: الأفضل في الآية أن تحمل على التعميم والاستيعاب لكن القول الرائع الذي ذكره البقاعي ينطبق على مواضع أخرى.
[107] قال الطباطبائي: والمعنى: إذا طلقتم النساء بعد النكاح وقبل الدخول فلا عدة لهن للطلاق ويجب تمتيعهن بشيء من المال والسراح الجميل.قال الآلوسي: وفائدة المجئ بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة، إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق، له دخل في إيجاب العدة، لاحتمال الملاقاة والجماع سرا..أي: أن الحكم الذى اشتملت عليه الآية الكريمة، ثابت سواء تم الطلاق بعد عقد الزواج مباشرة، أم بعده بمدة طويلة. تزوجتموهن {ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} تجامعوهنقال الآلوسي وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخى الطلاق له ودخل في إيجاب العدة لاحتمال الملاقاة والجماع سراً كما أن له دخلاً في النسب، ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحاً لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 6 23] غير محبوب كالنكاح من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الذي به تكثر الأمة ولهذا ورد كما أخرج أبو داود. وابن ماجه. والحاكم. والطبراني.
[108] قال الزمخشري ” {لَمْ تَكُنْ آمنت مِن قَبْلُ} صفة لقوله نفساً. وقوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا} عطف على آمنت. والمعنى أنّ أشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً
قال رشيد رضا: أي يوم يأتي بعض آيات ربك الموجبة للإيمان الاضطراري لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إتيانها إيمانها بعده في ذلك اليوم، ولا نفسا لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وعملا صالحا ما عساها من خير فيه، لبطلان التكليف الذي يترتب عليه ثواب الإيمان والعمل الصالح، فإنه أي التكليف مبني على ما وهب الله المكلف من الإرادة والاختيار بالتمكن من الإيمان والكفر وعمل الخير والشر وإنما الثواب والعقاب مبني على هذا التكليف. ابن عاشور وجملة: {لم تكن آمنت من قبل} صفة {نفساً}، وهي صفة مخصّصة لعموم: {نفساً}، أي: النّفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة. وتقديم المفعول في قوله: {نفساً إيمانها} ليتمّ الإيجاز في عود الضّمير.
[109] قال القرطبي: من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني. وقال ابن عطية لما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل يتشعّب إن لم يأتِ بالقوم فجعل يستعطف ربه أن يا رب لو شئت أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أخفّ عليّ وهذا وقت هلاكهم فيه مفسدة عليّ مؤذٍ لي انتهى
قال البقاعي: ولما لم يكن إهلاكهم مستغرقاً للماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل وإياي قبل أن نقترب 54 من هذه الحضرة المقدسة ونحن بحضرة قومنا كقدرتك علينا حين تشرفنا بها، وقد أسبلت علينا ذيل عفوك وأسبغت علينا نعمتك ونحن في غير هذه الحضرة فلم تهلكنا، فإنعامك علينا ونحن في حضرة القدس وبساط القرب والأنس أولى.
تفسير الجلالين: أي قبل خروجي بهم ليعلن بنو إسرائيل ذلك ولا يتهموني
قال رشيد رضا: أي فلما أخذتهم رجفة الجبل وصعقوا قال موسى يا رب إنني أتمنى لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان فأهلكتهم وأهلكتني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل فيقولوا قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم – أي وإذا لم تفعل من قبل فأسألك برحمتك أن لا تفعل الآن- وهذا مفهوم التمني فقد أراده موسى ولا يبعد أن يكون قد نطق به إذا كانت لغته لا تدل عليه كلغتنا وكان من إيجاز القرآن الاكتفاء بذكر التمني الدال عليه.
[110] قال البقاعي ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر 39: {ولا تعجل بالقرآن} أي بتلاوته.
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة 40 فقال: {من قبل أن} 41 ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى قال ابن عاشور: وجملة {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} ناشئة على ما تقدم من التنويه بالقرآن وما اشتمل عليه من تصاريف إصلاح الناس. فلمّا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على صلاح الأمّة شديد الاهتمام بنجاتهم لا جرم خطرت بقلبه الشريف عَقِب سماع تلك الآيات رغبةٌ أو طِلْبة في الإكثار من نزول القرآن وفي التعجيل به إسراعاً بعِظة الناس وصلاحهم، فعلمه الله أن يكِل الأمر إليه فإنه أعلم بحيث يناسب حال الأمة العامَّ.
ومعنى {من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي من قبل أن يتم وحي ما قضي وحيه إليك، أي ما نُفذ إنزاله فإنه هو المناسب. فالمنهي عنه هو سؤال التعجيل أو الرغبة الشديدة في النفس التي تشبه الاستبطاء لا مطلق مودة الازدياد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ” ودَدنا أن موسى صبَر حتى يقص الله علينا من أمرهما أو من خبرهما ”
ويجوز أن يكون معنى العجلة بالقرآن العجلة بقراءته حال إلقاء جبريل آياته.
في يقضى قولان:
القول الأول: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك. ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك. ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. مِن قَبْلِ} أن يفرغ جبريل عليه السلام من قراءته، فيكون في الآية تعليم حفظ الأدب، وهو الاستماع إلى من يتعلم منه
السمرقندي الثعلبي من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك الواحدي ابن عباس السمعاني البغوي الزمخشري، عن ابن عباس والحسن والجبائي القرطبي البيضاوي – ابن جزي الخازن أبو حيان ابن كثير الجلالين أبو السعود
القول الثاني: الضحاك ولا تطلب الإنزال من الله تعالى، واصبر حتى يأتيك جبريل بما ينزله الله تعالى.
الطوسي أي لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك وحيه.
[111] تقدم هذا المعنى في بحث بعد ومن بعد قال البقاعي (19/62): لا تغني} أي لا تجزي وتسد وتكفي، ولما كان رد الجمع لحال اجتماعهم أدل على العظمة، عبر بما يحتمل ذلك فقال: {شفاعتهم} أي عن أحد من الناس {شيئاً} فقصر الأمر ورده بحذافيره إليه بقوله: {إلا} ودل باثبات الجار على أنه مع ما يحده سبحانه لا مطلقاً فقال: {من بعد أن يأذن.
[112] قال السامرئي {ما أرسلنا من قبلك} القصد فيها للاستيعاب هذا هو الشأن منذ القديم ابتداء من قبلك إلى الأقدم وأما {ما أرسلنا قبلك} في الأنبياء فلم يذكر من لعدم إرادة الابتداء وإنما هو إخبار أن الذين قبلهم لم يؤمنوا فمن لابتداء الغاية قال الكرماني (1/150) حمود بن حمزة بن نصر، أبو القاسم برهان الدين الكرماني، ويعرف بتاج القراء، أسرار التكرار في القرآن المسمى البرهان في توجيه متشابه القرآن لما فيه من الحجة والبيان: قَوْله {وَمَا أرسلنَا من قبلك} وَفِي الْأَنْبِيَاء {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِغَيْر {من} لِأَن {قبل} اسْم للزمان السَّابِق على مَا أضيف إِلَيْهِ و {من} تفِيد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَمَا فِي هَذِه السُّورَة للاستيعاب وَقد يَقع {قبل} على بعض مَا تقدم كَمَا فِي الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة} ثمَّ وَقع عقيبها {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِحَذْف {من} لِأَنَّهُ بِعَيْنِه {قَوْله} {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض.
[113] درة التنزيل وغرة التأويل، أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ)، الناشر: جامعة أم القرى،، الطبعة: الأولى.
[114] قال ابن جماعة في كشف المعاني في المتشابه من المثان أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي (1/230) / الناشر: دار الوفاء ـ المنصورة/ الطبعة: الأولى، 141: (بَعْد) يستغرق الزمان المتعقب للعلم من غير تعين ابتداء وانتهاء فحذف من يفيد الاستيعاب لكن من غير تأكيد فحيث يكون السياق لا يتطلب التأكيد والمراد مع ذلك العموم تحذف (من).
[115] قال الخطيب الإسكافي في درة التنزيل (2/800): ” وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا. وقد نص البقاعي على العموم في آيات كثيرة. و قال الإسكافي أيضا (1/898): أما دخول “مِن ” وحذفها فهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.
[116] قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويل (1/141): فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة “من ” في قوله تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ” وفي سورة السجدة: “ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ” وفي ص: “كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا… “.وردت هذه الآي الثلاث بزيادة “من “فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها “من “كقوله تعالى في سورة مريم: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” وفي آخرها: ” وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ” وفي طه: “أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم “، وفي يس: “ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون “وفي سورة ق: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ” فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها “من ” فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟ والجواب والله أعلم: أن “من ” إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف.
[117] قال البقاعي (9/319): {مرجواً} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا: {قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد.
وقال البقاعي(18/455): {إنهم كانوا} أي كوناً هو كالجبلة. ولما كان الإنسان إما أن يكون مطيعاً في مجموع عمره أو في بعضه… على الطاعة، وكانت الطاعة تجبُّ ما قبلها، وتكون سبباً في تبديل السيئات حسنات فضلاً منه سبحانه، فكان كل من القسمين مطيعاً في جميع زمانه، نزع الجارّ فقال: {قبل ذلك} أي في دار العمل.قال البقاعي(12/238): ولما كان المراد استغراق الزمان، لم يأت بالجار إعلاماً بأن المتقدمين كلهم كانوا أرغد عيشاً وأمكن حالاً فقال: {قبلهم من قرن} أي شاهدوا ديارهم، ورأوا آثارهم؛ ثم وصف كم بقوله: {هم} أي أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي أمتعة {ورئياً *} أي منظراً، وقال البقاعي(12/253): ولما كان التقدير بعدما أرشد إليه السياق من مفعول {ينذر}: فإنا قادرون على إهلاكهم وجميع ما نريد منهم، عطف عليه قوله: {وكم أهلكنا} 39 بما لنا من العظمة، ولما كان المراد التعميم، أثبت الظرف عرياً عن الجار، وأكد الخبر بإثبات من بعده فقال: {قبلهم من قرن} كانوا أشد منهم شدة، وأكثر عدة، وأوثق عدة، فلم يبق إلا سماع أخبارهم، ومشاهدة آثارهم.، وقال البقاعي: (16/118): -ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله: {ألم يروا} أي:يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار: {كم أهلكنا} على ما لنا من العظمة، ودل قوله: {قبلهم} – بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار – على أن المراد:جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم} قال البقاعي (18/414): {كذبت} وسم الفعل بالتاء إشارة إلى هوانهم في جنب هذا المجد ولما كان هؤلاء الأحزاب المذكورون لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل المجد قاطبة قد استغرقوا زمانها ومكانها، أسقط الجارّ فقال: {قبلهم}.وقال البقاعي (19/184): ولما كان المراد تعميم الزمان أسقط الجارّ فقال: {قبلهم} أي المتكئين. و قال البقاعي (19/213): وعبر بالكون دلالة على العراقة في ذلك ولو بتهيئهم له جبلة وطبعاً فقال: {كانوا} أي في الدنيا. ولما كان ذلك ملازماً للاستغراق في الزمان بميل الطباع، نزع الجار فقال: {قبل ذلك}.
[118] لخص د صالح الشتري في كتاب المتشابه اللفظي في القرآن الكريم وأسراره البلاغية / طباعة مجمع الملك فهد ص 328:: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر.
[119] يقول علي هاني وإليك خمسة مواضع فيها (من قبل) بذكر (من) يتضح فيها قوة السياق:1) {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1512) 2) الموضع الثاني: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) الموضع الثالث: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) الموضع الرابع: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
[120] قال في ملاك التأويل: فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة “من ” فى قوله تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فى الأرض ” وفى سورة السجدة: “ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم ” وفى ص: “كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا… “.
وردت هذه الآى الثلاث بزيادة “من “فيها وسائر ما ورد فى القرآن من مثل هذه الآى لم ترد فيها “من “كقوله تعالى فى سورة مريم: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ” وفى آخرها: ” وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد ” وفى طه: “أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون فى مساكنهم “، وفى يس: “ألم يروا من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون “وفى سورة ق: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا ” فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها “من ” فيسأل عن وجه زيادتها فى الآى الثلاث الأول وسقوطها فى هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن “من ” إنما تزاد فى هذه الآى حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرف وقد لخص د صالح الشتري: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر
[121] قال في درة التنزيل: (2/799) الآية الثانية:للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا، فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}الأنبياء (21/7)، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع، فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21 فإن قال: فقد جيء بـ(من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ(من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.. قال في درة التنزيل: (2/799) الآية الثانية:للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها. والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه، وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا، فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}الأنبياء (21/7)، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع، فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21 فإن قال: فقد جيء بـ(من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ(من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.
[122] قال الزمخشري -{فِينَا} فيما بيننا {مَرْجُوّا} كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاوراً في الأمور ومسترشداً في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. قال قال ابن عطية: قوله: {مرجواً} معناه: مسوداً؛ نؤمل فيك أن تكون سيداً سادّاً مسدّ الأكابر قال سيد قطب -(قالوا: يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا! أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) ابن عاشور: والإشارة في {قبل هذا} إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.
[123] رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
[124] قال الطبري: يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش، من قرن، يعني من جماعة من الناس، إذا سلكوا في خلافي وركوب معاصيّ مسلكهم، هل تحس منهم من أحد: يقول: فهل تحسّ أنت منهم أحدا يا محمد، فتراه وتعاينه أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يقول: أو تسمع لهم صوتا، بل بادوا وهلكوا، وخَلَت منهم دورهم، وأوحشت منهم منازلهم، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدّموه، فكذلك قومك هؤلاء، صائرون إلى ما صار إليه أولئك، إن لم يُعاجلوا التوبة قبل الهلاكهذا تخويف لكفار مكة
قال الفخر الرازي: ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن} لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب
[125] {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}
[126] قال سيد قطب: ولقد كان في هلاك الأولين الذاهبين لا يرجعون، على مدار السنين وتطاول القرون.. لقد كان في هذا عظة لمن يتدبر. ولكن العباد البائسين لا يتدبرون. وهم صائرون إلى ذات المصير. فأية حالة تدعو إلى الحسرة كهذا الحال الأسيف ?!قال ابن عاشور: و {قَبْلَهُم} ظرف ل {أهْلَكْنَا} ومعنى {قَبْلَهُم:} قبل وجودهم.
[127] ابن عاشور: فأمّا إصرارهم على الحنث وإنكارهم البعث فلا يخفي تسببه في العذاب لأن الله توعدهم عليه فلم يقلعوا عنه، وإنما يبقى النظر في قوله: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} فإن الترف في العيش ليس جريمة في ذاته وكم من مؤمن عاش في ترف، وليس كل كافر مُترفاً في عيشه، فلا يكون الترف سبباً مستقلاً في تسبب الجزاء الذي عوملوا به. فتأويل هذا التعليل: إما بأن يكون الإتراف سبباً باعتبار ضميمة ما ذُكر بعده إليه بأن كان إصرارهم على الحنث وتكذيبهم بالبعث جريمتين عظمتين لأنهما محفوفتان بكفر نعمة الترف التي خولهم الله إياها على نحو قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] فيكون الإِتراف جُزءَ سبب وليس سبباً مستقلاً، وفي هذا من معنى قوله تعالى: {وذَرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً} [المزمل: 11]. وإما بأن يراد أن الترف في العيش عَلّق قلوبهم بالدنيا واطمأنوا بها فكان ذلك مُملياً على خواطرهم إنكار الحياة الآخرة، فيكون المراد الترف الذي هذا الإِنكار عارض له وشديد الملازمة له، فوزانه وزان قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12].
[128] هَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
[129] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
[130] قال ملاك التأويل: فصل: ومما تعلق بهذه الآية من المغفل زيادة “من ” في قوله تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ” وفي سورة السجدة: “ألم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ” وفي ص: “كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا… “.
وردت هذه الآي الثلاث بزيادة “من “فيها وسائر ما ورد في القرآن من مثل هذه الآي لم ترد فيها “من “كقوله تعالى ـ ـ في طه: “أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم “، ـ ـ فهذه خمسة مواضع لم ترد فيها “من ” فيسأل عن وجه زيادتها في الآي الثلاث الأول وسقوطها في هذه الخمس مع اتحاد المقصود أو تقاربه؟
والجواب والله أعلم: أن “من ” إنما تزاد في هذه الآي حيث يراد تأكيده ضمن الآي من المعطيات ولإشارة إلى الوعيد وهى أبدا في أمثال هذه المواضع محرزة معنى التأكيد لا تنفك عن ذلك ثم إن حذفها أوجز من إثباتها ولكل مقام مقال، فحيث ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر فهذا إن شاء الله يوضح ما ورد من الحذف ولإثبات في هذا الحرفوأما آية طه فأوضح في إيحاء الرجاء في نفسها وما نتظمت به ألا ترى ما قوله تعالى “أفلم يهد لهم ” وما تضمن تذكيرهم بهذا إلى قوله “لأولى النهى ” من عظيم الحلم وعلى الرفق وكذا ما بعد فإن هذا من منتظم تلك الآي الثلاث
لخص د صالح الشتري: ما قال أبو جعفر بن الزبير فقال: أجاد أبو جعفر حيث تأمل الآيات وخرج بنتيجة مفادها أنه إذا ورد في هذه الآي ما قبله استيفاء تفصيل وعيدين في أمة بعينها أو أكثر أو تكرر التهديد وشدة التخويف من مقتضى السياق وفحوى الكلام فذلك موضع زيادتها والتأكيد بإثباتها وحيث لا يتقدم تفصيل علللى ما ذكرناه أو تكون آي التهديد لا تبلغ في اقتضاء مقتضاها نفوذ الوعيد فهذا يناسبه الإيجاز بحذفها إذ لا يراد من تأكيد الوعيد ما يراد في الآي الأخر
قال د صالح الشتري: فسورة السجدة تتميز بالشدة والإشارة إلى إنفاذ الوعيد فانظر إلى قوله تعالى{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} وكان ختم السورة بقوله {وانتظر إنهم منتظرون} وقد وقعت الآية بين هذين الوعيدين والتهديدين فناسب ذكر من وأما آية طه فلم يرد فيها من التغليظ في الوعيد وتوالي التهديد ما في سورة السجدة وهذا في الحقيقة استقراء واستخلاص جيد من أبي جعفر بن الزبير قال أبو جعفر بن الزبير في موضع آخر:
وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18) وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.يقول علي هاني: كلامه الثاني هنا مؤيد لكلام السامرائي قال الخطيب الإسكافي في درة التنزيل: أما دخول “مِن ” وحذفها فقد بيّنّاه في قوله: (.. ولئن اتبعت أهوائَهم منقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128).وقال في سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26).للسائل أن يسأل في هذه الآية عن موضعين: ـ ـ ـ والثاني: أنه قال في السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ) فأدخل ((من)) على (قبلهم) هنا ولم يدخلها هناك مع تساوى المكانين والمعنيين. وأما دخول “مِن ” وحذفها فقد بيّنّاه في قوله: (.. ولئن اتبعت أهوائَهم من
بعد ماجاءك من العلم..)، وفي موضع.. بعدما جاءك..)، وهو أن القائل إذا قال: (كم أهلكنا قبلهم) فكأنه قال: في الزمن المتقدم على زمانهم، وإذا قال: (من قبلهم) فكأنه قال: من مبتدأ الزمان الذي قبل زمانهم، والزمان من أوله إلى أخره ظرف للإهلاك، لا يختص به بعضه دون بعض.قال أبو جعفر بن الزبير في ملاك التأويلفي موضع آخر:
الآية السابعة من سورة طه قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) (طه: 128)، وفي سورة السجدة: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) وأما زيادة ((من)) في قوله في آية السجدة: (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإنها مقصود فيها استغراق عموم لمناسبة ما تقدم هذه الآية من حصر التقسيم في قوله: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18) وأعقب: (به) ما يفهمه قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) (السجدة: 26)، إذ ليس هنا الوارد كالوارد في سورة طه من قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) (طه: 128)، فهذا يشعر بخصوص يناسبه سقوط (من) الاستغراقية، وما في آية السجدة يشعر بعموم واستغراق تناسبه (من) في قوله: (مِنْ قَبْلِهِمْ)، فجاء كل على ما يناسب ويجب، والله أعلم.قال السامرائي: ومن الاختلاف في هاتين الآيتين في غير العطف قوله تعالى في السجدة: (من قبلهم من القرون) وفي طه: (قبلهم من القرون) بدون (من) وذلك أنه ذكر في سورة السجدة هلاك ووفاة من هم في زمانه فقال: {وقالوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 10-11].فبدأ بهلاك من هو أقرب إليه فجاء بـ (من) الدالة على ابتداء الغاية، ولم يرد مثل ذلك في (طه) فإنه ذكر قوم موسى وأحوالهم، وهم قبل الرسول بمدة طويلة وليسوا من قبله.ثم انظر كيف ختم آية السجدة بقوله: (أفلا يسمعون) وذلك لأنهم يسمعون بماحصل للأقرب إليهم، فإنّ خاتمة الأقرب مما يؤخذ عن طريق السماع بخلاف الأقدمين.. وهذه إشارات تهديك إلى خاتمة آية (طه) لتنظر جلالة هذا الكلام وارتفاعه.ومن ذلك قوله تعالى: قال البقاعي: ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى: {أفلم يهد} أي يبين {لهم كم أهلكنا قبلهم} أي كثرة إهلاكنا لمن تقدمهم {من القرون} بتكذيبهم لرسلنا، حال كونهم {يمشون في مساكنهم} ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعداءنا ونفعل ما شئنا! والأحسن أن لا يقدر مفعول، ويكون المعنى: أو لم يقع لهم البيان الهادي، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً: {إن في ذلك} أي الإهلاك.
[131] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
[132] قال البقاعي: ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً، كان كأنه قيل: يا ليت شعري! ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار: {ياليتني مت} و لما كانت كذلك أشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جار: {قبل هذا} أي الأمر العظيم {وكنت نسياً} أي شيئاً من شأنه أن ينسى {منسياً *} أي متروكاً الفعل لا يخطر على بال، فولدته،
[133] الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك الآلوسي وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت. وإطلاق التأويل على ذلك – مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما، وحملها البقاعي على العموم والأحسن ما قدمت قال البقاعي ولما كان البيان في جميع الوقت الذي بينه وبين الطعام الذي قبله، نزع الخافض فقال: {قبل أن يأتيكما} أي أخبرتكما بأنه يأتيكما طعام كذا، فيكون سبباً لكذا، فإن المسبب الناشىء عن السبب هو المال.
الزمخشري: لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك الآلوسي وحاصله لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت. وإطلاق التأويل على ذلك – مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالتأويل بالنسبة إلى ما
[134] قال سيد قطب: وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير، (قل: لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا)، والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!، فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد! وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع. قال البقاعي: ولما كانت المخلوقات – لكونها ممكنة – ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالاً، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال: {قبل أن تنفد} أي تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل.
[135] من الذين حملوا الآية على حقيقة التسبيح أبو مسلم والرازي و سيد قطب وسيد طنطاوي ودروزة وجمع القولين البقاعي، قال الفخر الرازي: قال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره، وذلك لأنه تعالى صبره أولا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائما مظهرا لذلك وداعيا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات. قال سيد قطب: وسبح بحمده فترات من الليل والنهار.. كن موصولا بالله على مدار اليوم.. (لعلك ترضى).. قال سيد طنطاوي: أي: وعليك – أيها الرسول الكريم – أن تكثر من تسبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وفي ساعات الليل وفي ” أطراف النهار ” أي: في الوقت الذى يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الثاني منه، إذا في هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله – تعالى – والثناء عليه بما هو أهله، جلاء للصدور، وتفريج للكروب وأنس للنفوس، واطمئنان للقلوب. ويرى كثير من المفسرين، أن المراد بالتسبيح هنا، إقامة الصلاة والمداومة عليها.قال دروزة: و ما ذكر في الآية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات وإليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روي عن بعض القدماء كقتادة وغيره. انتهى ثم إن ذهبنا إلى أن آية سورة طه في الصلوات الخمس كما ذهب إليه كثير من العلماء فالتبعيض واضح لأن صلاة الفرض لا تستغرق كثيرا من الوقت بخلاف قيام الليل في الآيتين الأخريين من الذين حملوها على الصلوات الخمس جمهور المفسرين قال أبو السعود – {وَمِنْ آنَاء الليل} أي من ساعاته جمع إِنّى بالكسر والقصر، وآناء بالفتح والمد {فَسَبّحْ} أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاءُ إيذاناً باختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً}.
[136] ففي « صحيح مسلم » عن جرير بن عبد الله: ” كُنَّا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر فقال: إنكم سَتَرَوْنَ ربَّكم كما ترون هذا القمر لا تُضامُون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تُغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ” يعني بذلك العصر والفجر. ثم قرأ جرير {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} كذا
[137] في المحاضرات المفرغة التي سميت في الموسوعة الشاملة لمسات بيانية وهي تختلف عن المطبوع، وقد أبدى السامرائي في معاني النحو سببا آخر.
[138] الدكتور فاضل صالح السامرائي / على طريق التفسير البياني / دار الفكر (2/130)
[139] قال الخطيب الإسكافي: للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك} {وما أرسلنا قبلك} – فرق؟ ولأي معنى خص موضع ب من وموضع بحذفها.والجواب أن يقال: إن من لابتداء الغاية، وقبل اسم للزمان الذي تقدم زمانك، فإذا قال: (وما أرسلناك من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل حدوثه، ويستوعب بذكر طرفيه ابتدائه وانتهائه.وإذا قال: (وما أرسلنا قبلك) فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك، فهو في الاستيعاب كالأول إلا أن الأول أوكد للحصر بين الحدين، وضبطه بذكر الطرفين، والزمان قد يقع على بعض ما تقدم فيستعمل فيه اتساعا.فأكثر ما في القرآن: (وما أرسلنا من قبلك) ولم يجيء بحذف من إلا في موضعين: أحدهما: هذا وهو {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}الأنبياء (21/7)، والآخر: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام) الفرقان:(25/ 20)
فأما الأول الذي في الأنبياء فإنه حذفت منه (من) بناء على الآية المتقدمة وهي: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون) الأنبياء: 6 فلما كان الزمان الذي تقدمهم هو الزمان الذي تقدم النبي المذكور في قوله: (وما أرسلنا قبلك) وكانت قبل إذا عريت من من موضوعة للزمان المتقدم كله، صار بناءه على ما قبل مذكورا كالتوكيد الواقع ب من في سائر المواضع.فأما قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين) فإنما لم يؤكد ب من، لان المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم، وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة) الفرقان: 21
فإن قال: فقد جيء بـ(من) في قوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) الحج: 52 فالقصد ذكر حال الرسول والنبي، وهو المعتمد بالخبر، فأكد مع ذلك بـ(من) قلت: القصد ب من في هذا الموضع توكيد ذكر الرسول وذكر حاله. ألا تراه قال: (من رسول ولا نبي) فجمعهما في نفي ما نفي عنهما إلا ما أثبته لهما بعد.
[140] قال ابن عاشور: و {من قبلك} يتعلق ب {أرسلنا} ف {من} لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة، أي من أول أزمنة الإرسال. ولولا وجود {من} لكان {قبلك} في معنى الصفة للمرسَلين المدلول عليهم بفعل الإرسال.
[141] قال في بصائر ذوي التمييز: قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} وفي الأَنبياءِ {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} بغير (مِن) لأَن (قبل) اسم للزَّمان السّابق على ما أُضيف إِليه، و (مِن) يفيد استيعاب الطَّرفين، وما في هذه السّورة للاستيعاب. وقد يقع (قبل) على بعض ما تقدم؛ كما في الأَنبياءِ، وهو قوله: {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} ثم وقع عقِبه {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فحذف (مِن) لأَنَّه هو بعينه.
[142] وقال ابن عرفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… (109)}أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قبل قبلك.
[143] قال الكرماني: قَوْله {وَمَا أرسلنَا من قبلك} وَفِي الْأَنْبِيَاء {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِغَيْر {من} لِأَن {قبل} اسْم للزمان السَّابِق على مَا أضيف إِلَيْهِ و {من} تفِيد اسْتِيعَاب الطَّرفَيْنِ وَمَا فِي هَذِه السُّورَة للاستيعاب وَقد يَقع {قبل} على بعض مَا تقدم كَمَا فِي الْأَنْبِيَاء فِي قَوْله {مَا آمَنت قبلهم من قَرْيَة} ثمَّ وَقع عقيبها {وَمَا أرسلنَا قبلك} بِحَذْف {من} لِأَنَّهُ بِعَيْنِه {قَوْله} {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض
[144] قال النيسابوري- الحسن بن محمد: قال: {وما أرسلنا من قبلك} وفي ” الأنبياء ” {قبلك} [الأنبياء: 7] بغير ” من ” لأن قبلاً اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و ” من ” تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب
[145] قال الفخر الرازي: فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم} والمعنى: أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولا إلا من البشر، فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى، وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضا طعن قديم فلا يلتفت إليه.
[146] قال السامرائي:
في سورة الأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {7}) وهي تحتمل البعيد والقريب، وذكر (من) تفيد الابتداء أي ابتداء الغاية وهو امتداد من الزمن الذي قبلك مباشرة أي من زمان الرسول – صلى الله عليه وسلم – إلى زمن آدم. وليس هناك فاصل.
[147] قال البقاعي:{مسقطين الجار إشارة إلى دوام خوفهم، تنبيهاً على أن الخوف الحامل على الكف عن المعاصي يشترط فيه الدوام، بخلاف الرجاء الحامل على الطاعات، فإنه يكفي فيه ما تيسر كما تأتي الإشارة إليه بإثبات الجار: {إنا كنا قبل} أي في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعدد والنعمة والسعة، ولنا بهم من جوالب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين *} أي عريقين {إنا كنا} أي بما طبعنا عليه وهيئنا له.