الدرس السادس سلسلة العهود المحمدية للدكتور محمود المصري: العهد الأول – في طلب الإخلاص والصدق

يقدم لنا فضيلة الشيخ في هذه السلسلة ترجمة الإمام الشعراني، يتناول فيها حياته الشخصية والعلمية، وأخلاقه وعقيدته وتصوفه، وعلاقته بالمجتمع ودوره كإمام ومعلم وكاتب ومربي، ويقف شارحاً عند أحد أهم مؤلفاته، ألا وهي “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية”. والترجمة هو علم أصيل من لآلئ التراث العلمي الإسلامي وإن قل رجاله والعمل به والبحث فيه في عصرنا الحديث.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

1: أخذ علينا العهد العامُّ من رسول الله ﷺ -ونرجو من فضل ربِّنا الوفاء- أن نُخلِص النِّيَّة لله تعالى في علمنا وعملنا وسائر أحوالنا، ونُخَلِّص سائر أعمالنا من الشوائب، حتى من شهود الإخلاص، ومن حضور استحقاقنا ثوابًا على ذلك، وإن خطر لنا طلب ثوابٍ شهدناه من باب المنَّة والفضل[1] .

إخلاص النية لله هو كما قال الجنيد رحمه الله: ما أُرِيد بِه اللهُ من أيِّ عملٍ كان. قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: ۳]. أما تخليص الأعمال من الشوائب، حتى من رؤية الإخلاص؛ فهو مرتبة متقدِّمة من الإخلاص، عبَّر عنها رُوَيْم بقوله: الإخلاص ارتفاع رؤيتك من الفِعل[2] . فالإمام الشعراني يشير في العهد إلى مقامَين للإخلاص: الأول: إخلاص لله، والثاني: إخلاص بالله. صاحب الأول مخلِص، وصاحب الثاني مخلَص.

إن وجود سرِّ الإخلاص في العلم والعمل والحال هو الروح للعلم والعمل والحال. فكما أن العلم يحتاج إلى العمل به ليكون ذي قيمة، فإن العلم والعمل يحتاجان إلى الإخلاص ليكون القبول من الله تعالى. لذلك حصر الله عزَّ وجلَّ العبادة المشروعةَ المأمورُ بها بكونها على جهة الإخلاص، فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنة: ٥]، فليست العبادة المأمور بها هي على أيِّ وجه كان، وإنما هي على جهة الإخلاص حصرًا، وهذا لا يكون إلا إذا أتى العبدُ هذه الأعمال من جهة الامتثال لأمر الله تعالى، غيرَ مشوبةٍ بالغفلة، ولا بطلب الثوابِ والهرب من العقابِ.

وإذا حصل الإخلاص فإن قليل العمل عند الله كثير، ولهذا عندما طلب سيدنا معاذ بن جبل وصيةً من رسول الله ﷺ، قال له: (أخلِصْ دينَك يكفِك العملُ القليل) [3] . وذلك أن المعوَّل عليه في العمل القبول، والقبول مُناطٌ بالإخلاص، كما ورد عن النبي ﷺ: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهُه) [4] . وأما لو خلا العمل من الإخلاص فإن مصيرَه النار، كما ورد عن عبادة بن الصامت أنه قال: يُجاء بالدنيا يوم القيامة، فيُقال: مِيزوا ما كان منها لله عزَّ وجلَّ، فيمتازوا، ويُرمى ما عداه في النار. قال المنذري رحمه الله: إن مثل هذا لا يُقال من قِبل الرأي والاجتهاد، فسبيله سبيل المرفوع[5] .

وقد تظاهرت الأحاديث والآثار التي تدلُّ على ربط قبول العمل بالإخلاص، ونذكر منها قوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيَّة، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكِحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) [6] . وهو الحديث الذي قال فيه العلماء: إنه نصف الإسلام، ولذلك افتتح البخاري صحيحه بهذا الحديث العظيم.

ومن ذلك قوله ﷺ: {إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ} [7] .

وقوله ﷺ: (إنما يُبعث الناس على نياتهم) [8] .

ثم بعدَ ذلك فإن العلم والعمل والإخلاص يحتاج كلٌّ منهم إلى الصدق، وهو نسبة الشيء لصاحبه، أي التبرُّؤ من الحول والقوة في العلم والعمل والإخلاص، فلا حول ولا قوَّة إلا بالله، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} [البيِّنة: ٥]. وهذا الربط بين الإخلاص والصدق، نجده فيما رواه البيهقيُّ مرسلًا (أن رجلًا قال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإخلاص، قال: فما اليقين؟ قال الصدق) [9] .

ومن مشكاة النبوة هذا جاء قول ابن عطاء الله رحمه الله: الأعمال صورٌ قائمة، وروحها وجود سرِّ الإخلاص فيها. وسرُّ الإخلاص في العمل هو الصدق فيه[10] .

ويحتاج من يريد الإخلاص في أعماله إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ حتى يرِقَّ حجابه، ويدخل حضرة الإحسان التي يعبد الله فيها كأنه يراه، وهناك يشهدُ العملَ كلَّه خلقًا لله تعالى، ليس للعبد فيه مُدخَلٌ إلا كونُه محلًّا لبروز ذلك العملِ لا غير؛ لأن الأعمال أعراض، والأعراض لا تظهر إلا من جسمٍ، وهناك يذهب من العبد الرياء والكِبر والعُجب وسائر الآفات؛ لأن هذه الآفات إنما تجيء للعبد من شهود كونه فاعلًا لذلك العمل، مع غفلته عن شهود الخالق له، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الرياء والتَّكبُّر والعُجب من العبد بعمل غيره أبدًا، وما رأينا أحدًا نام إلى الصباح، وأصبح يرائي أو يُعجب أو يتكبَّر بفعل جاره القائم طول الليل أبدًا.

إن هذه الآفات المحبطة للأعمال لا تأتي إلا من نسبة العمل إلى النفس، والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: ٩٦]، فإذا تحقَّق الإخلاص بالتخلُّص من تلك النسبة، كانت ثمرته أن يُحفظ أهل الإخلاص من الفتن في الدنيا، كما ورد عن النبي ﷺ في مدح المخلصين: (طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلُّ فتنةٍ ظلماء) [11] . وكانت ثمرته أيضًا أن يكونوا من أهل الفلاح في الآخرة، كما ورد عن النبي ﷺ أنه قال: (قد أفلح من أخلص قلبَه للإيمان، وجعلَ قلبَه سليمًا، ولسانَه صادقًا، ونفسَه مطمئنَّة، وخليقَتَه مستقيمةً، وجعل أذنه مستمعةً، وعينَه ناظرةً) [12] .

المصادر والمراجع:
● الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1417هـ.
● التعرُّف لمذهب أهل التصوف، لمحمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم الكلاباذي، دار الكتب العلمية، بيروت.
● الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه (صحيح البخاري)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، ت محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية)، ط1، 1422هـ.
● حكم ابن عطاء الله: شرح العارف زروق، لأحمد بن زروق، ت عبد الحليم محمود، دار الشعب، 1985م.
● حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، السعادة، مصر، 1974م.
● سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
● السنن الكبرى، لأحمد بن الحسين الخراساني، أبو بكر البيهقي، ت محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 2003م.
● شعب الإيمان، لأحمد بن الحسين الخراساني، أبو بكر البيهقي، ت عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط1، 2003م.
● فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
● الفردوس بمأثور الخطاب، لشيرويه بن شهردار الديلميّ، ت السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1986م.
● لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية، لأبي المواهب عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني، ت صهيب ملا محمّد نوري علي، دار التقوى، ط1، 2015م.
● المجتبى (السنن الصغرى للنسائي)، لأحمد بن شعيب الخراساني النسائي، ت عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1986م.
● مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1994م.
● المستدرك على الصحيحين، للحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، ت مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
● مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1995م.
● المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

[1]العهود المحمَّديَّة 1/ 85.
[2] التعرُّف للكلاباذي 99.
[3] أخرجه الحاكم في المستدرك في الرقاق 4/ 341، وصحَّحه، ولم يوافقه الذهبي.
[4] أخرجه من حديث أبي أمامة الباهلي النسائي 6/ 25، وقال الحافظ في الفتح 6/ 28: إسناده جيِّد.
[5] البيهقي في السنن الكبرى 1515. وانظر الترغيب والترهيب 1/ 76.
[6] البخاري في كتاب الأيمان والنذور (باب النية في الإيمان) 8/ 140، ومسلم في كتاب الإمارة (بَابُ قَوْلِهِ ﷺ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)، وأحمد 168، من حديث عمر بن الخطاب.
[7] مسلم في كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ (بَابُ تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ، وَخَذْلِهِ، وَاحْتِقَارِهِ وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَالِهِ)، 4/ 1986، وأحمد 7827، من حديث أبي هريرة.
[8] أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد (باب النية) 2/ 2414، بإسناد حسن، كما في الترغيب والترهيب 1/ 25.
[9]شعب الإيمان 6857.
[10] انظر شرح زروق على الحكم العطائية 35.
[11] أخرجه البيهقي من حديث علي في الشعب 6861، ويشهد له حديث ثوبان عند أبي نعيم في الحلية 1/ 16، والديلمي في الفردوس 2/ 448.
[12] أخرجه من حديث أبي ذر الإمام أحمد 21310، والبيهقي في الشعب 108، وأبو نعيم في الحلية 5/ 216، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده حسن.