الدرس السابع من سلسلة دروس فقه السيرة النبوية للشيخ أحمد الأحمد: رحلة النبي الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق

يقدم لنا فضيلة الشيخ وصفاً مفصلاً ورسماً يسيراً لفقه السيرة النبوية؛ وتتناول السلسلة أولاً أسباب دراسة السيرة وكيف دونت وحفظت، بالإضافة إلى إبراز الروابط بينها وبين الأديان السماوية، ورسم معالم سياقها التاريخي والجيوغرافي في شبه الجزيرة العربية.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد. فهذه هي المقالة السادسة في سلسلة فقه السيرة النبوية، بعنوان:
رحلة النبي الأولى إلى الشام ثم كدحه في سبيل الرزق.

عَهِدَ عبدُ المطلب بكفالة حفيده محمد إلى عمّه أبي طالب، فضمّه إلى وَلَدِهِ، وحنا عليه، وظل فوق أربعين سنة يبسط عليه حمايته، ويقف كالسيف في وجه من يعاديه.

خرج أبو طالب في تجارة إلى الشام، فتعلق به محمد، فأخذه معه، وقد أتم من العمر اثنتي عشرة سنة، وحين حطوا رحالهم في بصرى من أرض الشام، التقوا على غير ميعاد براهب اسمه بحيرا، وكان عليماً بالإنجيل، فجعل يتفرّس في محمد، ثم سأله عن أشياء ذات دلالات، فوجدها كما عنده في الكتاب تماماً، ثم نظر في ظهره فرأى خاتم النبوة، فهلل وكبر، وقال: يا أبا طالب ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حيّا! قال: فإنه ابن أخي، مات أبوه وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه هنا ليبغنّه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم. فَأَسْرَعَ به أبو طالب عائدا إلى مكة [1].

فهذا يدل على أن أهل الكتاب كان عندهم علمٌ ببعثة النبي، ومعرفةٌ بعلاماته، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٤٦].

ولعل قائلا يقول: إن أهل الكتاب ينكرون وجود علامات في كتبهم تشير للنبي محمد.
أقول: إن هذه الكتبَ محرفة، بدليل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: ٧٩].

وكان محمد يمتلك ذوقا رفيعاً، وحساً مرهفاً، مما جعله يرعى الغنم ويكتسب؛ ليخفف عن عمه الفقير بعض مؤونة الإنفاق، وهو تعبيرٌ أخلاقيٌّ رفيعٌ عن الشكرِ والوفاء ورد الجميل. وإنما ألهمه الله رعاية الغنم دون غيرها من المصالح، كما رعاها أنبياء الله من قبل، قَالَ رَسُولُ اللهِ: (مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ) [2] ربما ليعتادوا سياسة الأمم بعد رعاية الغنم؟

وكان سهلا على الله أن يهيئ لحبيبه محمد من أسباب الرفاهية، ووسائل العيش؛ ما يغنيه عن الكدح، ورعاية الأغنام؛ سعيا وراء القوت.

ولكن شاء الله أن يجعل خير مال الإنسان، ما اكتسبه بكدّ يمينه، وعرق جبينه، وشرَّ المال ما أصابه الإنسان دون تعب.
كما أنه لن يكتب لأية دعوة النجاح والقبول لدى الناس، إذا اتخذها صاحبها سلما لكسب المال.

ومما حدث للنبي وهو يرعى الغنم أنه طلب من بعض زملائه الرعاة أن يحفظ شياهه مرتين؛ لينزل إلى مكة فيسمر، ويلهو كما يلهو الفتيان، وفي كلا المرتين يضرب الله عليه النوم، فلا يرى ولا يسمع شيئا، يقول: فَوَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بَعْدَهَا أَبَدًا بِسُوءٍ مِمَّا يَعْمَلُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِنُبُوَّتِهِ [3].

إذن كان محمد يجد في نفسه ما يجده كل شاب من النوازع الفطرية، فكان يحسُّ بمعنى السمر واللهو، ويشعرُ بما في ذلك من متعة، حتى لا يأتيَ مغالٍ فيقولَ في سيدنا محمد ما قالت النصارى في عيسى بن مريم.

ثم إنه لو خلق على فطرة ملائكية خالية من تلك النوازع، ربما يُفَسَّرُ بأنه شذوذ في تركيبه النفساني، وربما يُبْنَى عليه بأنه ليس هناك عنايةٌ إلهيةٌ تصرفه عما لا يليق. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

[1] سيرة ابن إسحاق: ج1 ص 75
[2] أخرجه البخاري: 4/ 349
[3] الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك ج 4 ص 245 وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.