الدرس الرابع من سلسلة العهود المحمدية للدكتور محمود المصري: ترجمة الإمام الشعراني – مؤلفاته

يقدم لنا فضيلة الشيخ في هذه السلسلة ترجمة الإمام الشعراني، يتناول فيها حياته الشخصية والعلمية، وأخلاقه وعقيدته وتصوفه، وعلاقته بالمجتمع ودوره كإمام ومعلم وكاتب ومربي، ويقف شارحاً عند أحد أهم مؤلفاته، ألا وهي “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية”. والترجمة هو علم أصيل من لآلئ التراث العلمي الإسلامي وإن قل رجاله والعمل به والبحث فيه في عصرنا الحديث.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أورد محمد محي الدين المليجي في تذكرة أولي الألباب في مناقب الشعراني سيدي عبد الوهاب أو ما يسمى بالمناقب الكبرى أكثر من مئة كتاب اطلع عليها هو، وذكر أن له ما يزيد عن ثلاثمئة، بعضها في خمسة مجلدات. [1]

وكانت مؤلفات الشعراني رحمه الله متميِّزةً بتنوُّعها؛ إذ شملت كلَّ أنواع العلوم والمعارف الشريعة، إضافة إلى علوم الآلة إضافة، إلى علوم أخرى مثل الطب وغيره، كما تميَّزت بتجديدها في العلوم وبالابتكار، حتى إن المستشرق فولرز أكّد أن أربعة وعشرين منها تعدّ ابتكارًا محضًا أصيلا لم يُسبق إليه أبدًا، ولم يعالج فكرتها أحدٌ قبله. [2]

من مؤلفاته التي حاول فيها التوفيق بين المذاهب الفقهية الأربعة: كتاب كشف الغمة عن جميع الأمة، ثم خرّج الأحاديث التي استدلّ بها لمذاهبهم في الكتاب في كتاب مستقل أسماه المنهج المبين في بيان أدلة المجتهدين، وكان من أهم كتبه الفقهية التي لم يُسبق إلى فكرتها كتابُ الميزان الشعرانية، الذي يُرجِع فيه سبب اختلاف الفقهاء إلى أن الشريعة جاءت من حيث الأمر والنهي على مرتبتين: تخفيف وتشديد، والمكلَّفون لا يخرجون عن قسمين: قوي وضعيف، فالقوي خوطِب بالتشديد، والضعيف خوطب بالتخفيف. فلا يُؤمر القوي بالنزول إلى الرخصة، ولا يكلَّف الضعيف بالصعود إلى العزيمة. وقد رُفع الخلاف في جميع أدلَّة الشريعة وأقوال علمائها –في رأي الشعراني- عند كلِّ من عمل بهذا الميزان؛ لأنه لا يخرج قولٌ من أقوال الأئمة جميعهم عن مرتبتي الميزان: التخفيف والتشديد. [3]

من مؤلفاته المهمَّة في الطريق والسلوك والترجمة الذاتية: لطائف المنن، وهو كتاب يتحدَّث فيه عما منّ الله به عليه من الخصال والأخلاق، لكن في حقيقته هو كتاب تربوي، يؤثر في قارئه، يبيّن الأخلاق العالية والسلوك الرفيع ودقائق القضايا التربوية. وكان يريد من إخوانه أن يتخلَّقوا بهذه الأخلاق التي منَّ الله بها عليه، وكان هذا هو الغرض من تأليف الكتاب. وهو أهم مصدر للسيرة الذاتية للإمام الشعراني.

ونأخذ مثالا واحدًا على ما ورد من كتبه حول خلق من أخلاقه رحمه الله، يقول: “ومما أنعم الله به عليّ عدم خروجي من بيتي إلا إذا علمت من نفسي القدرة بإذن الله على هذه الثلاث خصال: تحمُّل الأذى عن الناس، وتحمُّل الأذى منهم، وجلب الراحة لهم.” [4] فتصوروا ماذا يمكن أن يحدث في العالم لو أن كلَّ إنسان تخلَّق بهذا الخلق.

ومن كتبه المهمَّة في السلوك أيضا الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية، ويتحدث فيه عن الآداب التي على العبد التحلّي بها في حياته، وعن الآداب الخاصة بطلبة العلم، وعن آداب المريدين والشيوخ.

ومن مؤلفاته ذات الصلة بالسلوك والتصوف ما نقله من كلام شيخه المرصفي في رسالة سماها “الأنوار القدسية”. كذلك فقد كان كثير السؤال لشيخه الخواص، وكانت ثمرة مذاكراته مع شيحه كتابين: الأول: درر الغواص في فتاوى سيدي علي الخواص، ويتضمَّن الفتاوى التي كان الشعراني يسألها عنه طول صحبته له، والشعراني عالم كبير فلا يسأل إلا المسائل الدقيقة الغامضة. والكتاب الثاني الذي ألَّفه الشعراني عن الخواص هو الجواهر والدرر جمع فيه ما تلقّاه من شيخه الخواص واستفاده منه حال صحبته له.

ومما ألَّفه في سير علماء الصوفية الأجلاء وتراجمهم وآثارهم كتاب لواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية، أو لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، المعروف بالطبقات الكبرى، وقد نظَّر في مقدمة الكتاب للتصوُّف وأصّل له، ومن ذلك قوله: “ثم اعلم يا أخي رحمك الله أن علم التصوف، عبارة عن علم انقدح في قلوب الأولياء حين استنارت بالعمل بالكتاب والسنة، فكل من عمل بهما انقدح له من ذلك علوم وأدب وأسرار، وحقائق تعجز الألسن عنها، نظير ما انقدح لعلماء الشريعة من الأحكام، حين عملوا بما عملوه من أحكامهم، فالتصوف إنما هو زبدة عمل العبد بأحكام الشريعة، إذا خلا عمله من العلل وحظوظ النفس.” [5]

وكذلك ألَّف في تراجم القوم: كتاب إرشاد الطالبين إلى التخلق بأخلاق العاملين، وكتاب وصايا العارفين، وكتاب الكوكب الشاهق في الفرق بين المريد الصادق وغير الصادق، وغير ذلك.

ومن كتبه كتاب اختصر فيه كتاب الفتوحات المكية سماه “لواقح الأنوار القدسية” الذي اختصره في كتاب “الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر”. يقول الشعراني: “طالعت من كتب القوم ما لا أحصيه وما وجدت كتابا أجمعَ لكلام أهل الطريق من كتاب الفتوحات، لاسيما ما تكلَّم فيه من أسرار الشريعة وبيان منازع المجتهدين التي استنبطوا منها أقوالهم.” [6]

وقد أفرد الشعراني كتابًا للدفاع عن الشيخ محي الدين هو “تنبيه الأغبياء على قطرة من بحر علوم الأولياء”، وكتابًا آخر سماه “القول المبين في الردِّ عن الشيخ محي الدين”.

ومن مؤلفاته تنبيه المغترين الذي بيّن فيه أخلاق التصوف الحقيقية الملازمة للشريعة، وكيف أن كثيرًا من متصوفة النصف الثاني من القرن العاشر خرجوا عن ذلك المسار، وأنه أدرك مئة من متصوِّفة النصف الأول من القرن كانوا غاية في الزهد والورع والصفاء، وكانت تلامذتهم كذلك.

ولعلّ من أهم مؤلفاته في السلوك الكتابُ العظيم الذي جعل فيه مصدرَ السلوك سنَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كتاب “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية”. وهذا الكتاب هو شرح لأحاديث الترغيب والترهيب للحافظ المنذري. وهو موضوع هذه الدروس.

ومن اللافت أن نرى الشعراني في هذا الكتاب لا يترك شيئا طلبه الشارع من المكلفين صغيرًا ولا كبيرًا إلا ذكره، سواء كان الطلب على جهة الوجوب أو الندب، وسواء كان مما يتصل بعلاقة الإنسان بربه أو بنفسه أو بمجتمعه، وكذلك الأمر بالنسبة للمنهيات في القسم الثاني من الكتاب، وذلك لكون الشعراني يعتبر الأحكام والآداب الشرعية هي الأساس في سلوك طريق التصوف، وهي التي تبلغ بالنفس إلى مرتبة التطهير والتزكية.

وللشعراني كتاب يشبه هذا الكتاب من حيث المبنى والغرض التأليفي، وهو كتاب البحر المورود في المواثيق والعهود، ويختلف عنه بأن العهود التي فيه هي مما أخذه شيوخُه عليه في أوائل القرن العاشر، لكنه أيضا حرَّرها في إطار الكتاب والسنة.

ومن كتبه التي أفردها لتقريب تراث ابن عربي والذبِّ عنه كتاب اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، وهو نوع من التأليف لم يُسبق إليه، كما شهد بذلك صاحب كشف الظنون، حاول الشعراني أن يوفِّق فيه بين أقوال المتكلمين والصوفية، معتمدًا على كلام الشيخ محي الدين في الفتوحات. [7]

المصادر والمراجع:
– الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر، لعبد الوهاب الشعراني، ضبطه عبد الله محمود محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 2012م.
– لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، لعبد الوهاب الشعراني، اعتنى به أحمد عزو عناية، دار التقوى، 2004م.
– المناقب الكبرى، لمحمد محي الدين المليجي، مطبعة أمين عبد الرحمن، القاهرة، 1932م.

 

[1] المناقب الكبرى، لمحمد محي الدين المليجي 67.
[2] ذكرها الشعراني في لطائف المنن 90، وذكر إجازات علماء زمانه من المذاهب الأربعة لمؤلفاته 93 وما بعد.
[3] انظر لطائف المنن 77.
[4] لطائف المنن للشعراني 588.
[5] الطبقات الكبرى 12.
[6] الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر للشعراني 7.
[7] انظر لطائف المنن 92، 93. وفيه كلام المؤلف على كتبه.