الدرس الثامن من سلسلة العهود المحمدية للدكتور محمود المصري: العهد الثالث – في فِعل الخير ليُستَنَّ به

يقدم لنا فضيلة الشيخ في هذه السلسلة ترجمة الإمام الشعراني، يتناول فيها حياته الشخصية والعلمية، وأخلاقه وعقيدته وتصوفه، وعلاقته بالمجتمع ودوره كإمام ومعلم وكاتب ومربي، ويقف شارحاً عند أحد أهم مؤلفاته، ألا وهي “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية”. والترجمة هو علم أصيل من لآلئ التراث العلمي الإسلامي وإن قل رجاله والعمل به والبحث فيه في عصرنا الحديث.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

3: أخذ علينا العهد العام من رسول الله ﷺ أن نكون في أعمال الخير من أهل الرَّعيل الأوَّل، فنبدأ بفعل الخير قبل الناس مسارعةً للخير، وليستنَّ بنا الناس[1] .

ويضرب لنا الشعراني رحمه الله أمثلة على ذلك، فيقول: وذلك كما إذا رأينا إنسانًا يسأل الناس، ولا أحدَ يعطيه شيئًا، فنعطيه أمام الناس تحريضًا لهم على العطاء، ولا نعطيه سرًّا، وكذلك نحرص على أن نقوم من الليل من أوَّل ما يقع التجلِّي، وينادي الحقُّ تعالى: “هل من سائلٍ فأعطيَه سؤلَه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من مبتلًى فأعافيَه؟ [2] وذلك ليتأسّى بنا إخواننا وجيراننا، فربّما قام أحدهم يتهجَّد حين يرانا، فيُكتب لنا وله الأجر. ومن هذا الباب أيضًا إظهار التصبُّر على البلايا والمحن في هذا الزمان؛ ليتأسّى الناس بنا في الصبر وعدم التسخُّط، فإن رأينا الصبر بلغ حدَّه أظهرنا الضعف حتّى يرتفع، كما وقع لأيوب عليه السلام. [3]

وبناء على ما تقدَّم يقرِّر الشعراني رحمه الله أنه ينبغي لكلّ عامل سترُ عمله ما استطاع؛ إلا في محلٍّ يُقتدى به في فعله وفي كيفيته.

ويؤيّد ذلك ما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله، قال: “كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَر،َ فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ}. تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا؛ بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ.” [4]

كما ثبت عنه ﷺ أنه قال: “من أحيا سنَّة من سنني، قد أميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها، من غير أن يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة، لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا يَنقُص ذلك من أوزار الناس شيئًا.” [5]

قال الشعراني: ومعنى: “لا يرضاها الله ورسوله”: أي لا يشهد لها كتاب ولا سنَّة بالصِّحة”.

غير أن الشعراني ينقل لنا تحذير شيخه الخوّاص رحمه الله مما قد ينتج عن إظهار العمل من علل نفسانية، وهو قوله: “لا ينبغي إظهار الأعمال إلا للأكابر من العلماء والصالحين الغوّاصين على دسائس النفوس، وأما أمثالنا ربّما يُظهر الواحد أعماله رياء وسمعة، وتلَبِّس عليه نفسه، وتقول له: إنك بحمد الله من المخلصين، وإنّما تُظهر هذه العبادة ليقتديَ بك الناس.” ويوجّه الشيخ الخوّاص مَن تحدِّثه نفسه بهذا أن يختبرها “بما لو جاء أحدٌ يفعل ذلك الخير، وينقاد الناس له مثله أو أكثر، فإن انشرح لذلك فهو مخلص، وإن انقبض خاطره فهو مراء.” ويُفسّر ذلك الانشراح بأن الله هيَّأ من كفاه مؤونة ذلك، فإذا قالت نفسه: إنما تشوَّشتُ لفوات الخير العظيم الذي كان يحصُل لك من حيث هو خير، فليقل لها: “إني معتمد على فضل الله لا على الأعمال، فإن دخلتُ الجنَّة فإنما هو برحمة الله تعالى؛ لا بعملي.”

ومن هنا نفهم تصرُّفات أئمّة كبار من أمثال النووي، الذي كان إذا درَّس في المدرسة الأشرفية بدمشق يوصي الطلبة ألا يجيئوا دفعة واحدة؛ خوفًا من كبر الحلقة.

المصادر والمراجع:
● الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لمحمد بن حبان الدارمي البُستي، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، ت شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1988م.
● سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد القزويني، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
● سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى الترمذي، ت أحمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض (جـ 4، 5)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1975م.
● لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية، لأبي المواهب عبد الوهَّاب بن أحمد الشعراني، ت صهيب ملا محمّد نوري علي، دار التقوى، ط1، 2015م.
● المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري، ت مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
● المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، ت محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

 

[1] العهود المحمَّدية 97.
[2] مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَالْإِجَابَةِ فِيهِ) من حديث أبي هريرة 1/ 521.
[3] انظر ابن حبَّان في (ذِكْرُ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى مَنِ امْتُحِنَ بِمِحْنَةٍ فِي الدُّنْيَا فَيَلْقَاهَا بِالصَّبِرِ وَالشُّكْرِ يُرْجَى لَهُ زَوَالُهَا عَنْهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى)، والحاكم في (ذِكْرُ أَيُّوبَ بْنِ أَمُوصَ نَبِيِّ اللَّهِ الْمُبْتَلَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
[4] مسلم في الزكاة (بَابُ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَأَنَّهَا حِجَابٌ مِنَ النَّارِ) 2/ 704.
[5] أخرجه الترمذي في أبواب العلم (بَابُ مَا جَاءَ فِي الأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَاجْتِنَابِ البِدَعِ) 5/ 44، وحسَّنه، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم (بَابُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ) 1/ 76.