الدرس الثالث من سلسلة العهود المحمدية للدكتور محمود المصري: ترجمة الإمام الشعراني – عقيدته وتصوفه

يقدم لنا فضيلة الشيخ في هذه السلسلة ترجمة الإمام الشعراني، يتناول فيها حياته الشخصية والعلمية، وأخلاقه وعقيدته وتصوفه، وعلاقته بالمجتمع ودوره كإمام ومعلم وكاتب ومربي، ويقف شارحاً عند أحد أهم مؤلفاته، ألا وهي “لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمَّدية”. والترجمة هو علم أصيل من لآلئ التراث العلمي الإسلامي وإن قل رجاله والعمل به والبحث فيه في عصرنا الحديث.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تبنّى الشعراني رحمه الله عقيدة أهل السنة والجماعة من أشاعرة وماتريدية، ودافع عنها في مؤلَّفاته، فنراه يقول مثلا: “ثم لا يخفى عليك يا أخي أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة يدور على كلام قطبين: أحدهما الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي، والثاني الشيخ الإمام أبو الحسن الأشعري، فكلُّ من تبعهما أو أحدَهما اهتدى، وسلِم من الزيغ والفساد في عقيدته.” [1]

وأما عن آيات الصفات فهو يرى التفويض فيها من غير منعٍ للتأويل -مع التنزيه- عند الحاجة. يقول رحمه الله: “إن أهل الله تعالى قاطبة أجمعوا على أنه يجب الإيمان بآيات الصفات وأخبارها على حدِّ ما يعلمه الله تعالى، وعلى حدِّ ما تقبله ذاته المقدسة، وما يليق بجلاله، ولا يجوز لنا ردُّ شيء من ذلك، ولا تكييفُه، ولا نسبة ذلك إلى الحقِّ جل وعلا على حدّ ما ننسبه إلينا.” ويفسح المجال للتأويل السليم من باب الرخصة [2].

ويحكم الشعراني بفساد عقيدة الحلول والاتحاد قائلا: “لا حلول ولا اتحاد؛ إذ القول بذلك يؤدي أنه تعالى في أجواف السباع والحشرات والوحوش، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا”. وينقل عن الشيخ محيي الدين بن عربي في باب الأسرار: “من قال بالحلول فهو معلول، وهو صاحب مرض لا يزول، ومن فصل بينك وبينه، فقد أثبت عينك وعينه.. ولم يقل بالاتحاد إلا أهل الإلحاد …” [3]

أما بالنسبة لموقفه من الفلاسفة فنرى أنه يختلف عن موقف الإمام الغزالي رحمه الله، فهو لا يهاجمهم وينفِّر منهم؛ بل كان يصفهم بالعقلاء ولا يحطُّ من قدرهم، وذلك ينسجم مع ما كرَّس نفسه لخدمته من مشروع التوفيق بين مختلف أطياف الفكر الذي تحمله الأمَّة، لكنه يوافق الغزالي بأن الطريق الموصلة إلى الله هي الإيمان مع العلم والعمل به، وليس الفلسفة [4].

نشأ الشعراني في أسرة صوفية، وكانت لجدِّه زاوية في ساقية أبي شعرة يتلقَّى فيها الناس العلم ويقيمون فيها الأذكار، وكان في طفولته كثيرَ التهجد والعبادة، وكانت نصيحة شيوخه له ألا يتفرغ للتصوف إلا بعد التبحر في العلم. وكان يعرّض نفسه لأقسى المجاهدات من تحمّل الجوع والسهر والإقبال على العبادات، واعتزال الناس [5]. وكانت زوجته تقول له: أشتهي من الله أن أراك ليلة واحدة نائمًا عندنا طول الليل، كما يفعل الناس، فيقول لها: نحن ما دخلنا هذه الدار للنوم، وإنما دخلناها للجدِّ والتعب والاجتهاد في العبادة، وسوف ننام نومًا طويلا في القبر إن شاء الله تعالى، إذا متنا، إلى قيام الساعة [6].

ثم بعد ذلك صاحب شيوخ التصوف الذين كان لهم الأثر الكبير في حياته. إذ يضيف الشعراني في لطائف المنن أن سلوكه على الشيوخ ساعده على “إزالة الموانع التي توقفه عن العمل بما علمه” [7].

كان من أبرز شيوخ الشعراني في التصوف: الإمام شيخ الإسلام زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، ألبسه الخرقة، واعتنى به عناية فائقة، ومنهم الشيخ نور الدين علي الشوني الذي صاحبه منذ قدومه القاهرة، ومن شيوخه الذين أثَّروا فيه من جهة الاجتهاد في العبادة الشيخُ محمدٌ بنُ عَنان، ومن شيوخه في التصوف الشيخ نور الدين المرصفي الذي كان يلقَّب بجنيد زمانه، وكان الشعراني متأثرا بزهده وورعه، وطريقته في تربية المريدين التي كانت تعتمد على الترفُّق بهم. ومنهم الشيخ محمد الشناوي، الذي أخذ عنه التواضع للفقراء والأدب معهم والتلطُّف بهم والتفتي عليهم [8].

أما عمدته في التصوف فهو الشيخ العارف بالله تعالى سيدي علي الخواص البُرلُّسي، الذي كان أكثر الشيوخ الذين ينقل عنهم في كتبه. كان الخواص رحمه الله أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، لكنَّه كان علامة زمانه في السلوك والتربية والإرشاد. وعند شيخه الخواص تعلَّم الشعراني كيف تكون مجاهدة النفس وقطع العلائق الدنيوية ومحوها من القلب. ووصف الشعراني هذه المجاهدات بكونها كثيرة ومتنوعة، وانتهت بأمره بالعزلة حتى صفا وقته مع الله، وكان يهرب من الناس ويرى نفسَه خيرًا منهم، فقال له شيخه: اعمل على قطع أنك خير منهم، يقول الشعراني: “فجاهدت نفسي حتى صرت أرى أرذلهم خيرًا مني، ثم أمرني بالاختلاط بهم والصبر على أذاهم وعدم مقابلتهم بالمثل، فعملت على ذلك حتى قطعته.. ثم أمرني بالاشتغال بذكر الله سرًّا وعلانية والانقطاع بالكلية إليه، وكلُّ خاطر خطر لي مما سوى الله عز وجل صرفته عن خاطري فمكثت على ذلك شهرًا، ثم أمرني بترك الشهوات مطلقا فتركتها واكتفيت بما يسد الرمق.. وصارت العلوم النقلية تزاحم العلوم الوهبية في صدري، ثم أمرني بالتوجُّه إلى الله تبارك وتعالى في أن يطلعني على أدلَّتها الشرعية، فلما اطلعت عليها وصار لوح قلبي ممسوحًا من العلوم النقلية لاندراجها تحت الأدلَّة، ترادفت عليَّ حينئذ العلوم الوهبية.” [9]

وكانت زاوية الشعراني منارة للعلم والتصوف تؤوي إليها طلبة العلم وفقراء الصوفية، وفيها مسجد للصلاة، وكان لها أوقاف خاصة لإقامة شؤونها (وهذا له أهميته في كلِّ عصر من أجل استقلال التعليم عن كلِّ تدخُّل من أي جهة داعمة). وتنعَّم الطلبة والفقراء في الزاوية أيَّما تنعُّم، وذلك بفضل رعاية الشعراني المباشرة لهم. وكان يقوم بالرعاية الاجتماعية للمجاورين، فيساعدهم في الزواج وفي الحجِّ وفي كلِّ ما يحتاجونه من طعام وكساء، وكان يقوم على تربيتهم وتهذيبهم وتدريجهم في السلوك حسب استعداداتهم [10].

تميَّز التصوف الذي قدمه الشعراني رحمه الله بالتنظير للأدب الصوفي العالي، فكانت آثاره مجسِّدة للتصوف السلوكي العملي الذي هو امتداد لمدرسة الإمام الغزالي رحمه الله، فضلا عن التربية العملية للمريدين ومتابعتهم وخدمتهم في أدقِّ الشؤون [11]. وكان شعاره في التصوف: التصوف كلُّه أخلاق فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف. وكان يعرِّف الصوفي على أنه “عالم عمل بعلمه على وجه الإخلاص.” [12]

والشعراني يردُّ على من يقول بأن العلوم الدنيوية تحجب عن الله، بأن الذي يشهد ذلك الحجاب إنما هو محجوبٌ عن موضع الدلالة فيها على الحقِّ، ويقول: فعُلم أن جميع العلوم التي تحجب أكثر الناس هي عند أهل الله لا حجاب فيها. غير أنه يرى ترتيب الأولوية في تلقّي العلوم: الأهمُّ فالمهمُّ، والأهمُّ هو الذي يُسأل عن تضييعه يوم القيامة [13].

وكان الشعراني يجمع في ذكره بين طرق مختلفة كالرفاعية والقادرية والأحمدية والشاذلية والنقشبندية والسهروردية والوفائية والمدينية وغيرها [14]. إلا أنه كان يقول: ما رأيت في كلام القوم أوسع من كلام السادة الشاذلية [15].

المصادر والمراجع:
– الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية، لعبد الوهاب الشعراني، المطبعة العامرة الشرفية، ط1، 1317هـ.
– بهجة النفوس والأحداق فيما تميز به القوم من الآداب والأخلاق، لعبد الوهاب الشعراني، ت أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2013م.
– التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، لزكي المبارك، دار الكتب والوثائق القومية، ط1، 2009م.
– الدرر واللمع في الزهد والورع، لعبد الوهاب الشعراني، ت أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2013م.
– شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن أحمد ابن العماد العَكري الحنبلي، ت محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، ط1، 1986م.
– الطبقات الكبرى المسمى لواقح الأنوار القدسية في مناقب العلماء والصوفية، لعبد الوهاب الشعراني، مكتبة الثقافة الدينية، 2005م.
– عبد الوعاب الشعراني إمام القرن العاشر، لعبد الحفيظ فرغلي علي القرني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985م.
– القواعد الكشفية الموضحة لمعاني الصفات الإلهية، لعبد الوهاب الشعراني، ت مهدي أسعد عرار، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006م.
– الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، لعبد الرؤوف المناوي، ت أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت.
– لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، لعبد الوهاب الشعراني، اعتنى به أحمد عزو عناية، دار التقوى، 2004م.
– المناقب الكبرى، لمحمد محي الدين المليجي، مطبعة أمين عبد الرحمن، القاهرة، 1932م.
– اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني، ضبطه عبد الوارث محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2018م.

 

[1] القواعد الكشفية الموضحة لمعاني الصفات الإلهية للشعراني 90.
[2] المصدر السابق 241، 248.
[3] اليواقيت والجواهر للشعراني 1/ 84.
[4] الكواكب الدرية للمناوي 2/ 482.
[5] انظر لطائف المنن 5.
[6] انظر شذرات الذهب لابن العماد 10/ 545، والمناقب الكبرى 25.
[7] انظر لطائف المنن 5.
[8] الطبقات الكبرى 1/ 201، 215، 231، 239، والمناقب الكبرى 52، 62.
[9] لطائف المنن للشعراني 106، والطبقات الكبرى 2/ 266، المناقب الكبرى 57، والتصوف الإسلامي والإمام الشعراني 39.
[10] انظر المناقب الكبرى 72 وما بعد، وشذرات الذهب لابن العماد 10/ 546.
[11]] انظر لطائف المنن 705 وما بعد.
[12] الدرر واللمع في الزهد والورع للشعراني 73. وانظر بهجة النفوس والأحداق فيما تميز به القوم من الآداب والأخلاق للشعرني 1/67.
[13] انظر آداب العبودية 1/ 96.
[14] عبد الوعاب الشعراني إمام القرن العاشر لفرغلي 184.
[15]] لطائف المنن للشعراني 236.