البناء الهرمي للحضارات الإنسانية: رؤية في بيان تصحيح حضارة الإسلام للحضارات الإنسانية يقدمها الحبيب أبو بكر المشهور

كيف تبنى الحضارات الإنسانية؟ سؤال مهم ويطرح دائما يجاوب عنه من خلال تلك المحاضرة التي تعد طرحا عقليًّا للداعية الأديب الحبيب أبو بكر المشهور، ويبين وجهة نظر الدين الإسلامي في الحضارات الإنسانية، وتحديد مفهوم حضارات الشعوب، وتفسير بعض الظواهر عند العلماء الماديين وعند الدين الإسلامي، وبيان على ماذا ترتكز الحضارات الإنسانية، وأكثر ما يهتم به الباحثون فيها، وتأثير الإسلام في الحضارات الإنسانية وتصحيحه لها، ودوره في نقل الحضارة، ومسئولية الإسلام وأهله في كل عصر وزمن ومرحلة.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ومنه يستمد العون، ويتحقق الحفظ والصون، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم الذي أتم الله به النعمة ووحد به الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: ۱۱۰]، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من أحيى منهج التفاؤل بين الشعوب إلى يوم الدين.
وبعدُ تعتبر الحضارات الإنسانية من وجهة الدين الإسلامي الحنيف ركاماً معرفياً وتراثياً مادياً جامداً، لا روح فيه ولا حياة … لأن أصل الحياة كلها ما نصت عليه الآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: ٥٨]
والمعلوم أن كافة حضارات الشعوب المشار إليها بمفهوم الإنسانية يقصد بها من وجهة نظر المدرسة الحديثة (مدرسة الاستشراق) [1] ما بناه وحققه الإنسان قبل تطور معرفي وتفعيل مادي لظواهر الحياة.
وبهذه الرؤية يفسر العلماء الماديون (ظاهرة الديانة والتدين)، بينما يفسر الدين الإسلامي ظاهرة (التطور المادي ومنجزات العقل الإنساني) بأنها ثمرةٌ من ثمرات التفاعل بين (مواهب المخلوق أمام موجودات الخالق)، سواء كانت جارية على يد مسلم مؤمن بالله تعالى، أو على يد كافر ملحد أو وثني جاحد، فالإسلام يفسر التاريخ وحضاراته من حقيقة الإيمان بالخالق وتنفيذ أوامره، بينما الكافر والملحد يفسر التاريخ وحضاراته بالتطور العقلاني للإنسان واستخدامه للوسائل وحسن تفاعله مع الظواهر، ولا مكان هنا لما وراء الطبيعة غير حركة القوانين ونواميس الحركة ذاتها.

ومسميات الحضارات الإنسانية كما يقررها علماء التاريخ تنحصر في التالي:
الحضارة الصينية والهندية والسومرية والآشورية والبابلية والفينيقية والمصرية القديمة والفارسية، ويليها في الترتيب التاريخي القديم الحضارة الإغريقية، بل تعتبر هي الوارثة للحضارات السابقة، لأن الإغريق فلسفوا العلم وصاغوا له النظريات والفروض، وبقيت مؤلفاتهم وكتبهم محفوظة في العصور اللاحقة إلى اليوم.
وتتركز هذه الحضارات بمجموعها على ما تفسره العقول البشرية وتكتشفه من أمور الحياة وما بعد الحياة، ولا علاقة لها بمسألة الوحي والأنبياء والرسالات السماوية بل يفسرها البعض منهم بأنها تصورات فكرية. واعتقادات عقلانية تطورت بفعل الزمن إلى الخوف من المجهول ثم تأليهه وعبادته …
وأكثر ما يتناوله الباحثون حول الحضارات مسألة التجارة والحروب والآثار والتفوق العلمي من هندسة وتخطيط وتعدين وفلك ورياضيات ومعادلات جبرية وهندسية ودراسة الطبائع والأمزجة والعناصر والطب البشري بأنواعه، وعُرفت العديد من العواصم التاريخية مقرونة بهذا التطور الإنساني الهائل.
ولما جاء الإسلام وامتدت حضارته الفكرية والمادية في كثير من البلاد حاول البعض أن يرضخوا الإسلام وحضارته إلى ذات النمط الإنساني المجرد … فيحولون التاريخ المادي القديم إلى مادة معرفة وفكر وفلسفة تؤثر على العقل الإسلامي وتعيد صياغته، حتى إن حركة التدوين والاقتباس التي ظهرت في العصر العباسي فسرها الكثير بأنها قائمة على الفلسفة الإغريقية والسريانية والفارسية، من خلال الترجمة الحرة لموروثات الحضارات السابقة، وأنشأت لمثل هذه الحركة الاقتباسية العديد من دور المعرفة كبيت الحكمة ببغداد، ودار الحكمة بالقاهرة، وجامع القيروان بتونس، وجامع القرويين بالمغرب، والجامع الكبير بصنعاء، وجامع قرطبة بالأندلس وغيرها.
والصحيح أن الإسلام وحضارته لم يتأثر بالحضارات الإنسانية السابقة، وإنما جاء مصححا لأبعادها المادية المجردة، وموازناً بين الروح والمادة، ومعيداً شرعياً للاعتبارات العقلانية مربوطةً بالتوحيد للخالق، ومجردةً عن النظر في المادة وظواهرها، إلا من حيث التفاعل العلمي والعقلي المشروع، ولهذا استجابت المادة للعقل الإسلامي وتطورات بتطوره.
ولهذا برز في مجال الحضارة الإسلامية عشرات المفكرين والعلماء ورواد الفلسفة والطب والرياضيات والهندسة، مقرونةً بإيمان هؤلاء المفكرين برسالة الإسلام الخالدة وبهدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، من أمثال ابن الهيثم والبيروني وابن سينا والخوارزمي والكندي وابن خلدون وعشرات من حملة الوعي الإسلامي المتطور.
ولولا هؤلاء العلماء لما كانت الحضارة الأوروبية المعاصرة موجودةً أو حتى معلومةً في تاريخ الحضارات، ولهذا قال بعضهم: (لا نبالغ إذا قلنا: إن أوروبا مدينة للعرب بخدمتهم العلمية … تلك الخدمة التي كانت العامل الأكبر في النهضة العلمية الأوروبية في القرنين الثالث والرابع عشر).
والعجيب أن رواد الفكر المادي في العالم شهدوا للإسلام دوره في نقل الحضارة كوسيط بين الإغريق والحياة الحديثة؛ ولكنهم أغفلوا موقفه الروحي ودعوته الإيمانية، وتجاوزوا دورها في إعادة الاعتبار الشرعي للدعوات الشرعية السابقة، وأغفلوا الحديث عن ذلك ليستثمروا الإسلام مادياً ويحاربونه روحياً وشرعياً، وهذا ما فعلوه ولا يزالوا يفعلونه.
وقد تأثر بلغتهم المادية جمهورٌ واسعٌ من طلاب المعرفة ورواد الدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية، ثم ما لبثت أقلامهم كعادتها أن نسبت كثيراً من ثمرات العلم التي جاءت على أيدي العلماء المسلمين إلى الحضارة الأوروبية، دون إشارة إلى الرواد العرب والمسلمين الذين تكلموا عن التطور والجاذبية و الدورة الدموية قبل داروين وديكاريت وهارفي.
فالإغفال المتعمد شمل التجاوز للجانبين الروحي الشرعي وآثاره، والمادي النظري وأسراره، ليُوصَف العربُ والمسلمون في لاحق العصور بالشعوذة والتنجيم والخرافات والأساطير، ثم ما لبثوا أن وصفوهم بالجهلة والبرابرة والقتلة والكهنوت، ثم جاء العصر الأخير ليصفوا الإسلام بالتطرف والإرهاب ودمار الشعوب.
إن دراسة الظواهر بكافة أحوالها مسألة هامة لتحديد مسار الظاهرة وحدوثها وآثار مسيرتها من كل الوجوه، فظاهرة التعدي على الإسلام والتحدي له مسألةٌ قائمةٌ منذ عصر البعثة إلى الهجرة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن قوة الدعوة ومشروعية مظهرها الإيجابي حدَّ من أصوات الشر وأضعف قدراتها.
وبهذا المظهر الإسلامي الإيجابي عبَّرت الحضارة الإسلامية عن نفسها ورسمت خطوط السلام والأمان والرحمة والمحبة والإخاء بين الشعوب، وفتحت أبواب العلوم ودراسة الحضارات وتقييمها وإدانة الفاسد منها وإحياء ما يجب إحياؤه منها، وحذرت الأتباع من أهل الإسلام من مغبة الاستتباع الأهوج للأمم السالفة … حملة الحضارة المادية المجردة …
وأشار معلم الأمة وداعيها إلى تحرير العقل من عبادة المادة والهوى والنفس والشيطان إلى عبادة الله، وأن هذا المبدأ هو مبدأ الأنبياء عليهم السلام عبر تاريخ الأمم والحضارات، وأن كل أمة مهما عظمت آثارها وحضارتها إنما يشهد لها بالسلامة أو العكس من خلال مواقفها من دعوات الأنبياء، والأنبياء عليهم السلام هم حَمَلة الأمانة الشرعية بين الشعوب والداعون لها.
وما من نبي إلا وكانت له مع الكفر وحَمَلة منهجه الظلماني مواقف، وربما طغى الكفر بظلمانيته في بعض المراحل والأزمنة ليجهض الديانة الشرعية، أو يطمسها، أو يفرغها من داخلها ويستثمرها لصالح الدجل والشيطان، وهذا كتاب الله العظيم بين أيدينا أعظم شاهد على دور الكفر والكفرة من حماة الحضارات الإنسانية المجردة ضد الديانات الشرعية في عموم مسيرة التاريخ الإنساني.
ولأن الأمر خطيرٌ في تقرير حقائق المصير الإنساني فالإسلام وأهله مسؤولون أمام الله أشد المسؤولية مع كل عصر وزمن ومرحلة، عن إقامة منهج العدل وحمايته وإيضاح العلاقة بين مفهوم الحضارة الإنسانية المجردة والحضارة الإنسانية المرتبطة بالشرائع السماوية، ودور الإسلام في إعادة الوجه الشرعي للقراءات الحضارية في تاريخ الأمم السالفة، وما يترتب على هذا المفهوم من ضوابط حوار الحضارات وتقارب الأديان التي تُلَوِّح بها قوى التأثير العولمي في المرحلة المعاصرة.
هذا من جهة … ومن جهة أخرى ما يجب ترسيخه لدى شباب المسلمين ودارسيهم من تصحيح مفهوم القراءة لمدلول الحضارات وضوابط هذه القراءة، بحيث يتفهم الجيل موقعَ الإسلام الحضاري وتفردَه الإيجابي في الأطروحات التاريخية، وعلاجه الناجع أمام فشل كافة المفاهيم المادية المجزأة، سواء المفاهيم المعاصرة القائمة على العقل المجرد، أو المفاهيم القديمة ذات الارتباط بالحضارات الإغريقية والهندية والسومرية وغيرها.
فللإسلام قراءته الحضارية المتميزة، وله موقعه التاريخي الجامع بين تفعيل العقل الإنساني وثمراته، وبين توحيد الخالق وتسخيره لما في العالم الكوني لبني الإنسان، وفق المنهج السماوي القائم على الرسالات الشرعية، والله الموفق.

 

[1] المقصود بالاستشراق اهتمام العالم الغربي بالعالم الشرقي، ودراسة علمائه لعادات وتقاليد واعتقادات دول الشرق، وتفسيرها تفسيراً يتناسب مع السياسات الحديثة.