سلسلة الأربعون الرمضانيَّة | المقالة الرابعة | د. محمود مصري

 

 

          •  الباب الأول: مكانة الصيام في الإسلام

      •  3: الصوم لا يعدله شيء:


      • عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: “أتيت رسول الله  فقلت: مرني بأمر آخذه عنك، فقال: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ»”. أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبّان [1].

 

يبيّن لنا هذا الحديث الشريف مكانة الصيام بين العبادات في الإسلام، من خلال الحثِّ على الإكثار من الصيام؛ إذ لا يماثله شيء من الأعمال الصالحة التي يمكن أن يقوم بها بالعبد، ومن هنا كان الصيام عند بعض العلماء هو أفضل العبادات، لكن لا يسلّم هذا لقوله ﷺ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ» [2].

– قال الإمام العيني جمعًا بين القولين: “إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: «خير الْأَعْمَال أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا»[3].

قلت: ويستَأنس لهذا الرأي بحديث أَبِي فَاطِمَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مُرْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهُ)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ لاَ مِثْلَ لَهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ أَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ وَأَعْمَلُهُ، قَالَ: (عَلَيْكَ بِالسُّجُودِ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَ اللَّهُ لَكَ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ بِهَا خَطِيئَةً»” [4].

وإن قول النبي : عليك بالصوم؛ هو خطاب لأبي أمامة، أي الزمه، لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فهي وصيَّة النبي للأمّة، لما فيه من الخصوصيات التي تجعله من العبادات المميّزة التي يُحصَّل فيها ما لا يُحصَّل في غيرها.

– وقد عمل أبو أمامة بهذه النصيحة والتزمها إلى آخر عمره. يقول رجاء بن حيوة – راوي الحديث عن أبي أمامة – فما رُؤي أبو أمامة ولا امرأته ولا خادمه إلا صيامًا، وكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهارًا؛ إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهارًا، عرفوا أنه قد اعتراهم ضيف” [5].

ونذكر من كرامات صوم أبي أمامة ما روته مولاة له قالت: “كان أبو أمامة يحب الصدقة ولا يقف به سائل إلا أعطاه، فأصبحنا يومًا وليس عنده إلا ثلاثة دنانير، فوقف به سائل، فأعطاه دينارًا، ثم آخر فكذلك، ثم آخر فكذلك، قلت: لم يبق لنا شيء، ثم راح إلى مسجده صائمًا، فرققت له واقترضت له ثمن عشاء، وأصلحت فراشه، فإذا تحت المرفقة ثلاثمئة دينار، فلما دخل ورأى ما هيَّأت له، حمد الله وابتسم، وقال: هذا خير من غيره، ثم تعشّ، فقلت: يغفر الله لك جئت بما جئت به، ثم تركته بموضع وضيعه! قال: وما ذاك؟ قلت: الذهب، ورفعت المرفقة، ففزع لما رأى، وقال: ما هذا ويحك؟ قلت: لا علم لي، فكثر فزعه” [6].

 

– والصوم (لا مثل له) من وجوه متعدِّدة جمع بينها. يقول الإمام السندي رحمه الله مبيّنًا بعض تلك الوجوه: “فإنه لا مثل له في كسر الشهوة، ودفع النفس الأمارة والشيطان، أو لا مثل له في كثرة الثواب..، ويحتمَل أن يكون المراد بالصوم كفّ النفس عما لا يليق، وهو التقوى كلُّها، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] [7].

– ويقول الإمام المناوي رحمه الله في ذلك: “إذ هو يقوي القلب والفطنة، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق، وإذا صام المرء اعتاد قلّة الأكل والشرب، وانقمعت شهواته، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، ودخل في الخير من كلِّ وجه، وأحاطت به الحسنات من كلِّ جهة” [8].

 

ونحن نذكر هنا بعض تلك الوجوه مرتَّبة على مقامات الإسلام والإيمان والإحسان، وسيأتي لاحقًا في الشرح عددٌ منها، نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى: [9].

  •   فمن مقام الإسلام فإن الصوم جُنَّة: قال ابن عبد البرّ: “حَسْبُك بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنْ النَّارِ فَضْلًا لِلصَّائِمِ” [10].
    وذلك أن الصوم سبيل المسلم لتحصيل التقوى.
    قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]. ومن هنا فهم الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم حقيقة الصوم، وأنه لا يقتصر على صوم الجوارح عن الطعام والشراب، وإنما يمتدّ ذلك إلى كلّ المخالفات، فعن كثير بن هشام عن جعفر قال: سمعت ميمونًا يقول: “إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب” [11].
  •   ومن مقام الإيمان فإن الصومَ سببٌ لتحصيل الفضائل ومكارم الأخلاق؛ إذ الأخلاق بالتخلّق، والصائم قد عرف أنه مُطَالَبٌ بتجنُّب الفسق في القول والعمل، ففي القول نهاه رسول الله عن الرَّفث والصَّخب، فلا يتكّلم بما لا ينبغي من القول الفاحش ولا يرفع صوته بالكلام التافه أو الرديء، وفي الفعل مُطالَبٌ بتجنّب الفسوق الذي جاء (قول الزور والعمل به) في الحديث عنوانًا عليه.

والحقيقة أن المسلم مُطالَبٌ في هذا في رمضان وغيره، إلا أنه مؤكّدٌ عليه في رمضان، ومرجوٌّ استمراه بعد رمضان فيما لو تعوّد عليه الصائم. قال القرطبي رحمه الله: “لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكَّد بالصوم” [12].

  •     ومن مقام الإحسان فإن الصوم مدرسة للتربية على مستوى الفرد والمجتمع، فهي مدرسةٌ لتربية النفس وإصلاحها، والتعوّد على مجاهدتها وكسر شهوتها، والتعوّد على مقابلة الإساءة بالإحسان، عملا بالهدي النبوي، حيث قال : «فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ». وقد وعدَ الله تعالى من يجتهد بتلك المجاهدة أن يرى العونَ الإلهي وتيسير أسباب الهداية، فقال : ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].

وعلى مستوى المجتمع فالصوم مدرسة لتربية قيم التراحم والتعاون في المجتمعات المسلمة، بما يكون فيها من تنمية حسِّ الشعور بالآخرين، وظهور أخلاق الفتوّة والإيثار.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يعمل بوصية رسول الله ، وأن يشرح صدورنا لقبول نصحه لأمته وهديه لها في العبادات والمعاملات والأخلاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أحمد 36/ 455، والنسائي في الصيام (فضل الصائم) 4/ 165، وابن خزيمة 2/ 913، وابن حبان 8/ 211، والحاكم 1/ 582، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.

[2] ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها (بَابُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوُضُوءِ) 1/ 101. وقال مصباح الزجاجة: هَذَا الحَدِيث رِجَاله ثِقَات أثبات إِلَّا أَنه مُنْقَطع بَين سَالم وثوبان، لَكِن لَهُ طَرِيق أُخْرَى مُتَّصِلَة أخرجهَا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده وَأَبُو يعلى الْموصِلِي والدارمي فِي مُسْنده وَابْن حبَان فِي صَحِيحه.

[3] عمدة القاري 10/ 260.

[4] المعجم الكبير للطبراني 22/ 321.

[5] الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للساعاتي 22/ 362.

[6] تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 121.

[7] حاشية السندي على النسائي 4/ 165.

[8] فيض القدير 4/ 330.

[9] تقدّم تخريج الأحاديث التي سنشير إليها إشارة هنا في المقال الأول (الحديثان: السابع والسابع عشر).

[10] انظر فتح الباري لابن حجر 4/ 104.

[11] لطائف المعارف لابن رجب 155.

[12] انظر فتح الباري لابن حجر 4/ 104.