إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (38) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل السادس عشر[1] : أن الله تعالى أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
و جعل المتولي عنه كافرا وعلق حب الله سبحانه على طاعته صلى الله عليه واتباعه
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}آل عمران
قال أبو السعود: “{{قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} أي في جميع الأوامرِ والنواهي فيدخلُ في ذلك الطاعة في اتباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دخولاً أولياً، وإيثارُ الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة، والإشعارِ بعلّتها فإن الإطاعة المأمورَ بها إطاعته عليه الصلاة والسلام من حيث إنه رسولُ الله لا من حيث ذاتُه ولا ريبَ في أن عنوان الرسالة من موجبات الإطاعةِ ودواعيها.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} إما من تمام مقولِ القول فهي صيغة المضارعِ المخاطَب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام متفرِّعٌ عليه مَسوقٌ من جهتِه تعالَى فهي صيغةُ الماضي الغائب وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى فَإِنْ أَسْلَمُواْ تلويحٌ إلى أنه غيرُ محتمَلٍ منهم
{فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} نفي المحبة كنايةٌ عن بغضه تعالى لهم وسُخطِه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لتعميم الحكمِ لكل الكفَرَة والإشعار بعلّته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم، والإيذان بأن التولّيَ عن الطاعة كفرٌ وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين”.[2]

الدليل السابع عشر: القرآن نص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل للناس جميعا
لم يستثن أحدا بل أتى بألفاظ العموم (جميعا)، (كافة) وحصر الفلاح بمتبعه.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ[3] آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} الأعراف
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} سبأ
والحقيقة أن أدلة هذا الموضوع لا تنتهي، ومن أراد استقصاءها لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ففيما ذكرنا كفاية لمن طلب الحق منصفا.

*************

 

[1] نص على هذا الدليل والأدلة بعده شيخي الشيخ الفاضل بلال النجار حفظه الله في رسالة الرد على عدنان إبراهيم 41
[2] إرشاد العقل السليم (2/25).
[3] قال أبو السعود: “{فالذين آمنوا بِهِ} تعليمٌ لكيفية اتّباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيانٌ لعلو رتبةِ متّبعيه واغتنامِهم مغانمَ الرحمةِ الواسعةِ في الدارين إثرَ بيانِ نعوتِه الجليلة والإشارةِ إلى إرشاده عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في أوامره ونواهيه {وَعَزَّرُوهُ} أي عظّموه ووقّروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه {ونصروه} على أعدائه في الدين {واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ} أي مع نوبته وهو القرآنُ عبّر عنه بالنور المنبىءِ عن كونه ظاهراً بنفسه ومُظهِراً لغيره أو مظهِراً للحقائق كاشفاً عنها لمناسبة الاتّباعِ ويجوزُ أن يكون معه متعلقاً باتّبعوا أي واتّبعوا القرآنَ المنزل مع اتباعه صلى الله عليه وسلم بالعمل بسنته وبما أُمِرَ به ونُهيَ عنه أو اتبعوا القرآنَ مصاحبين له في اتباعه {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما فُصّل من الصفاتِ الفاضلة للإشعار بعليتهاللحكم وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وسمو طبقتهم فيالفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بتلك النعوت الجليلة {هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرُهم من الأمم فيدخُل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً حيث لم ينجو عما في توبيتهم من المشقة الهائلةِ وبه يتحقق التحقيقُ ويتأتّى التوفيقُ والتطبيق بين دعائِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام وبين الجوابِ لا بمجرد ما قيل من أنه دعا لنفسه ولبني إسرائيلَ أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيلَ على استجازتهم الرؤيةَ على الله عزَّ وجلَّ وعلى كفرهم بآياته العظامِ التي أجرها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرّض بذلك في قوله تعالى والذين هم بآياتنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماعُ أوصافِ أعقابِهم الذين آمنوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وغيرِه من أهل الكتابين لطفاً بهم وترغيباً في إخلاص الإيمانِ والعمل الصالح{قل يا أيها الناسُ أنى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} لما حكي في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف مَنْ يتّبعه من أهلهما ونيلِهم لسعادة الدارين أمرعليه الصلاةُ والسلامُ ببيانِ أنَّ تلكَ السعادةَ غيرُ مختصةٍ بهم بل شاملةٌ لكل من يتبعه كائناً مَنْ كان ببيان عمومِ رسالتِه للثقلين مع اختصاص رسالةِ سائرِ الرسلِ عليهم السلام بأقوامهم وإرسالِ موسى عليه السلام إلى فرعون وملته بالآيات التسعِ إنما كان لأمرهم بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانهوتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فتنة الباغية وإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسرِ وأما العملُ بأحكام التوارة فمختص ببني إسرايل {جَمِيعاً} حالٌ من الضمير في إليكم {الذى لَهُ ملك السماوات والارض} منصوبٌ أو مرفوعٌ على المدح أو مجرورٌ على أنه صفةٌ للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلقٌ بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدّمِ عليه وقولُه تعالى {لاَ إله إلا هو} بيانٌ لما قبله مَنْ ملَك العالمَ كان هو الإله لا غيرُه وقوله تعالى {يُحْيِي وَيُمِيتُ} لزيادة تقرير ألوهيتِه والفاءُ في قوله تعالى {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} لتفريع الأمرِ على ما تمهّد وتقرّر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ على طريقة الالتفاتِ إلى الغيبة المبالغة في إيجاب الامتثالِ بأمره ووصف الرسول بقوله {النبى الامي} لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقريرِ أمرِه وتحقيق أنه الكتوب في الكتابين ووصفُه بقوله تعالى {الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته} أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسلِ عليهم السَّلامُ من كُتُبه ووحيِه لحمل أهلِ الكتابين على الامتثال بما أُمروا به والتصريحُ بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمانَ به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به {واتبعوه} أي في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من أمور الدين {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علةٌ للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاءً لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفي تعليقه بهما إيذانٌ بأن من صدّقه ولم يتبعْه بالتزام أحكام شريعتِه فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلال”إرشاد العقل السليم (3/280) بتصرف.