إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين (37) بحث مفصل بقلم الشيخ علي هاني

يقدم لنا فضيلة الشيخ بحثاً في المنظور القرآني لعلاقة الإسلام والمسلمين باليهود والنصارى، وذلك من خلال دراسة الآيات الواردة بخصوصهم، وتركيز البحث في الدرجة الأولى على آية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وعلى ما يشبهها في المائدة والحج، ملخصاً وشارحاً ومستدلاً بأهم ما جاء في كتب التفسير في هذا الموضوع.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الدليل الخامس عشر:جميع الأنبياء أخذ عليهم وعلى أممهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.
جميع الأنبياء أخذ عليهم الميثاق الغليظ المشدد أنه إذا بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه أو إذا بعث نبي بعدهم أن يؤمنوا به على اختلاف الرأيين في تفسير الآية الآتية، وهذا في الحقيقة عهد لأتباع الأنبياء، فالأنبياء وأتباعهم مأخوذ عليهم العهد بالإيمان بنبينا، لأن الله سبحانه كان يرسل الأنبياء لأقوامهم، فإذا جاء رسول آخر فالمتوقع أن يتمسك كل بدينه القديم، فلأجل أن لا يحصل هذا، أخذ الله الميثاق على كل نبي أنه إذا بعث الله نبيا آخر أن تتبعه أنت ومن معك، والمراد الحقيقي أمته، تأكيدا لوجوب اتباعه، لأجل أن لا يعملوا كما عمل اليهود مع سيدنا عيسى وكما عمل اليهود والنصارى مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس المراد فقط أن يؤمنوا به بل أن يتبعوه اتباعا تاما وأعظم ذلك أن ينصروه.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} آل عمران
وهذه الآية الكريمة لو لم يوجد غيرها في الرد على من يقول: يجوز أن يبقى اليهود والنصارى وغيرهم على دينهم أو أنه لا يجب عليهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكفي الايمان به ـ أقول لو لم يوجد غير هذه الآية في الرد عليهم لكفت ولأخرست كل ناعق، فهي نص صريح جدا لا يقبل مثل هذه الاحتمالات والترهات التي يقولها هؤلاء ويرد عليهم ردا مسكتا.
وزيادة في البيان أذكر تفسر الآية حتى تتضح اتضاحا تاما، تكون ختام الأدلة والقول الفصل في موضوعنا.
علاقة الآية بما قبلها ومقصودها:
بين سبحانه وتعالى فيما مضى من سورة آل عمران أن التولي عن الرسل كفر، وبين أحوال اليهود الذين عاصروا الرسالة المحمدية،وكيف كانوا يتعصبون لما عندهم، وينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشددا في التمسك بما عندهم، فهم يقولون: نؤمن بما أنزل علينا، فبين الله سبحانه خطأهم في هذا، وأن الله تعالى أخذ الله الميثاق من جميع الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا بكل نبي يأتيهم تأخر عنهم وينصروه[1] ، وأشهدهم عليه، فمهما جاءهم رسول مصدق لما معهم ومهما أوتي من علم وحكمة ورسالة وإن عظم أمره وبلغ أن يؤمنوا به وينصروه، وأخذ الميثاق منهم على ذلك، وحكم تعالى بأن من تولى عن ذلك الميثاق ولم يعمل به كان من الفاسقين، وهذا لكي لا يرفض أحد رسالة النبي الذي يأتي ناسخا لشرع من قبله لكن اليهود والنصارى لم يوفوا بهذا الميثاق وكفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاءهم مصدقا لما معهم، وهذا يدل على ظلمهم وعنادهم، فبدل أن يؤمنوا به وينصروه كما أخذ الميثاق عليهم خالفوه وحاربوه وحرفوا، وكانوا أول كافر به، وما وفوا بالعهد والميثاق، الذي يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات متصلا متساندا مستسلما، ينتدب لها المختار من عباد الله؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده اللاحق به، والوحدة في الرسالة الإلهية ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات،لقد أخذ الله – سبحانه – موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله، موثقا على كل رسول، والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل؛ ويجمعهم كلهم في مشهد، والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة: هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل: هذا المشهد الهائل الجليل، يرسمه التعبير، فيجف له القلب ويجب لكن هؤلاء اليهود والنصارى كانوا على نقيض هذا الميثاق.
إذ:
الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي: اذكر يا محمد وقت أن أخذ الله الميثاق من النبيين.
{وَإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِيّنَ}:
أخذ الله ميثاق جميع النبيين الذي أعطوه لله سبحانه في الإيمان بالرسول الذي يأتي من بعدهم، أو بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلما لزمهم ذلك فأولى أن يلزمهم بواسطتهم بل هم المقصودون أصالة إذ كل أمة يجب أن تصدق بما جاءها به نبيها، بدليل قوله: {فمن تولّى بعد ذلك} إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما المقصود أممهم، وإنما أخذ على الأنبياء أنفسهم تغليظا على أممهم وتأكيدا ليَكون هذا الميثاق محفوظاً لدى سائر الأجيال مراعى يشعر بعظمته كل أحد، والعهد مع المتبوع عهد مع التابع، فميثاق النبيين على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك والمقصود أصالة أممهم من باب أولى، وأيضا هذا أعلى وأشرف لقدره صلى الله عليه وسلم من أخذه على أممهم وأقوامهم.
الميثاق: العقد المؤكد المحكم بيمين المؤكد تأكيدا كثيرا بحيث يربط ويوثق الذي يعطيه نفسه به ويجعل الذي أمامه يثق بما يقول ويعتمد عليه فيوجب أمنا شديدا ووثوقا واطمئنانا، مأخوذ من الوثاق، وهو ما يشد به ويوثق.
لما آتيتكم:
في اللام قراءتان: بالفتح (لَمَا) وهي قراءة أكثر القراء، وبالكسر (لِما) وهي قراءة حمزة
أولا: توجيه قراءة الفتح:
في توجيه فتح اللام قولان:
القول الأول:
اللام في (لما) ابتدائية، و(ما): اسم موصول مبتدأ، و(آتيتكم) صلة الموصول، والعائد على الموصول محذوف والتقدير: لما آتيتكموه، وخبره قوله: {لتؤمنن به}، والتقدير: للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ـ لتؤمنن به، وفي لتؤمنن به لام القسم لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين، والمجموع بيان للميثاق المأخوذ، والمعنى: للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم آمنتم به ونصرتموه البتة.

القول الثاني: وهو الأصح
(ما): شرطية، فتكون في محل نصب على المفعول به للفعل بعدها، (آتيتكم)، و(آتيتكم): فعل الشرط في محل جزم، وهذا الفعل مستقبل معنى لكونه في حيز الشرط، و{ثم جاءكم} في محل جزم بالعطف على {ءاتيتكم}، اللام في (لما): موطئة للقسم تشعر بأن في الكلام قسما تضمنته سابقها، وجملة القسم (لتؤمنن): سادة مسد سادّ مسد ّجواب القسم والشرط جميعاً؛ واللام في قوله {لتؤمنن به} واقعة في جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وهو كما تقول في الكلام: أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، كأنك قلت استحلفك، والمعنى لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة وإن عظم أمره وبلغ أيّ مبلَغ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، فالأساس في الموافقة أنه إن جاء كتاب الرسالة،وشريعتها التي هي حكمتها الحاكمة هو أن تؤمنوا بكل رسول يجئ بعدكم مصدقا لما معكم كإيمانكم بكتابكم، وجعل (ما) شرطية أحسن لأن دخول اللام الموطئة على الشرطية أشهر، والمعنى عليه أسلس وأوضح، والشرط في موارد المواثيق أعرف.
وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج الواحدي الزمخشري.
ثانيا: القراءة الثانية بكسر اللام:
اللام للتعليل علّل جواب القسم {لتؤمنن}، أي لتؤمنن لأجل كذا وهي حرف جر متعلق بقوله: {لتؤمننّ به}.
و(ما) عليه:
أ) إما موصولة: والتقدير عليه: أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين لتؤمنن به ولتنصرنه لأجل الكتاب الذي نزل عليكم والحكمة التي علمكم إياها، شكراً على ما آتيتُكم، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل لأنهم الأفاضل، وخيار الناس، {لتؤمنن} بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق.
ب) أو مصدرية: والتقدير عليه: أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه، لأجل أني آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه.
مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
(مِن): بيان للموصول وصلتِه، دخلت تبيينا (لما) كقولك: ما عندي من القمح رطل، وهذا خاتم من فضة، وهي تفيد فائدتين في مثل هذا السياق:البيان والتعميم، مثل {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}، ويكون على المعنى هذا تقديره: إن الله تعالى قال لهم: مهما أو إن أوتيتم كتابا وحكمة وإن عظم أمره وبلغ ما بلغ، ثم يجيئكم به رسول مصدق لما معكم من ذلك الكتاب والحكمة، والله لتؤمنن به، ولتنصرنه. فأقروا بذلك، وأعطوا عليه مواثيقهم،، وعبارة ابن كثير والمنار والمراغي[2] تشير للسر البلاغي في التعبير بـ(ما) وتنكير كتاب وحكمة حيث قال ابن كثير:” يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم، عليه السلام، إلى عيسى، عليه السلام، لَمَهْمَا آتى الله أحدَهم من كتاب وحكمة، وبلغ أيّ مبلَغ، ثم جاءه رسول من بعده، ليؤمنَنَّ به ولينصرَنَّه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته”[3] ، وقال رشيد رضا:”وهي أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع النبيين وعلى أتباعهم بالتبع لهم بأن ما يعطونه من كتاب وحكمة وإن عظم أمره فالواجب عليهم أن يؤمنوا بمن يرسل من بعدهم مصدقا لما معهم منه وأن ينصروه”[4].
والحكمة: إتقان العلم ومعرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلظ ولا اشتباه وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، والإصابة في القول والعمل ووضع كل شيء موضعه، بحيث يحفظهم في صراطي معاشهم ومعادهم من الزيغ، ومن ذلك العِلم بالله ودقائق شرائعه ومعاني كتابه وتفصيل مقاصده، وما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام وأسرار الشريعة ومقاصدها، مأخوذة من الحَكَمة – بالتحريك – وهي ما أحاط بحنكي الفرس من اللجام لمنعه من الانحراف والزيغ، وفي ذلك معنى ما يضبط به الشيء، والحكمة تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال.

فحاصل الكلام أنه – تعالى – أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم، ولا شك أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء مصدقا لما معهم فوجب على الجميع أن يؤمنوا به “.
ثُمَّ:
للتراخي الزمني، أي مهما تراخى مجيء الرسول لا بد من الإيمان به فلا يقال نحن من ألف سنة على هذا الشرع فكيف نغيره، فـ(ثم) لدفع شبهتهم من أنهم على شرعهم من قديم.
جَاءَكُمْ رَسُولٌ [5]
أي من عندي، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده (مصدق لما معكم)، وذلك بأن أتى بدين وكتاب موافق لما معكم في العقائد، والأخلاق، والأصول.
وأضاف الرازي والخازن وجها آخر في التصديق وهو: أن الله وصفه في كتب الأنبياء المتقدمة وشرح فيها أحواله فإذا جاءت صفاته وأحواله مطابقة في كتبهم المنزلة فقد صار مصدقاً لها فيجب الإيمان به والانقياد
وفي المراد بالرسول قولان:
القول الأول: المراد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه، وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء، فأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم ليؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه، وهذا احتجاج على اليهود، قال عليّ كرّم الله وجهه:” ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه[6] ” وهذا غاية التشريف للرسول عليه السلام،، فهو أوحد الكافة في الرتبة،
واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين، والتنكير للتعظيم والوحدة وليس للجنس، كقوله تعالى: ” وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة ” إلى قوله: ” ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه ”
اختاره: علي وابن عباس وقتادة والسدي وابن جزي والقرطبي والواحدي وأبو حيان ابن الجوزي. أبوا علي الجبائي الهواري، وأبومسلم والطبرسي والقشيري.
ويرد على هذا القول إشكال بناء على أن الميثاق قد أخذ على النبيين أنفسهم وهو أن هذا الرسول ما جاء في عصر أحد منهم. وكان الله تعالى يعلم ذلك عند أخذ الميثاق عليهم لأن علمه أزلي أبدي. وأجيب عنه بأنه ميثاق مبني على الفرض أي إذا فرض إن جاءكم وجب عليكم الإيمان به ونصره.
ويكون المراد منه بيان مرتبته صلى الله عليه وسلم مع النبيين إذا فرض أن وجد في عصرهم، وهو أنه يكون الرئيس المتبوع لهم، فما قولك إذاًفي أتباعهم لاسيما بعد زمنهم؟ وإنما كان له صلى الله عليه وسلم هذا الاختصاص؛ لأن الله تعالى قضى في سابق علمه بأن يكون هو خاتم النبيين الذي يجيء بالهدى الأخير العام الذي لا يحتاج البشر بعده إلى شيء معه سوى استعمال عقولهم واستقلال أفكارهم، وأن يكون ما قبله من الشرائع التي يجيئون بها هداية موقوتة خاصة بقوم دون قوم.
القول الثاني:
أخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه،فإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، فأخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر وينصره، وعلى هذا أيضا يجب عليهم أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتمهم، فكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لو أدركوه لوجب عليهم الإيمان به واتباعه ونصرته، وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم، فهذا لا يضاد القول الأول ولا ينفيه، بل يستلزمه ويقتضيه.
وهذا قول سعيد بن جبير والحسن البصري وطاووس وقتادة والسعدي الشوكاني.
مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ:
المراد به حصول الموافقة في التوحيد، والنبوات، وأصول الشرائع.
وأيضا يدخل في هذا التصديق أن وصفه صلى الله عليه وسلم وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكورا في تلك الكتب، كان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم.
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.
{لتؤمنن به} أي أنتم وأممكم {ولتنصرنه} أي على من يخالفه.
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ
الإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق، {قال ءأقررتم} أي يا معشر النبيين أأقررتم بالإيمان به والنصرة له.
ومادة (ق، ر، ر): الإقرار والقرار والقرّ والقارورة ونحو ذلك: من السكون والثبوت، يقال: قرَّ الشيءُ يقرُّ: إذا ثبت ولزم مكانه والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته، وأقره غيره، زيدت عليه همزة التعدية، فقيل أقر الشيءَ:إذا أثبته ونطق بما يدل على ثبوته.
وَأَخَذْتُمْ:
الأخذ التناول، والمراد القبول وهو غايته؛ لأن آخذ الشيء يقبله، وهو مستعمل كذلك في التنزيل قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)} [البقرة: 48]
عَلَى ذَلِكُمْ: العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع.
إِصْرِي:
(الإصر): عقد الشيء وحبسه بقهره وبثقل، واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو: ما يعقد ويشدّ مع ثقل،يقال أصرته فهو مأصور” والمأصَر: محبس السفينة،(إصري) ميثاقي الشديد المؤكد الموثق الثقيل الذي يحبس صاحبه ويشده ويعقده ويمنعه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه، سمي بذلك لما فيه من الثقل، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن عهد التقيد بنوع من القيود.
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا
{قالوا أقررنا} أي: قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين.
{قال} الله لهم: {فاشهدوا} على أنفسكم وعلى أممكم بذلك
• والشهادة على أنفسهم: بمعنى التوثق والتحقيق، أي: ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه، ونظيره قوله
{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] وهذا من باب المبالغة.
• والشهادة على أممهم: بتبليغ ذلك الميثاق.
• {وأنا معكم من الشاهدين}: الله شاهد على الجميع كما شهد النبيون على الأمم، وهذا تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جل جلاله وتقوية الإلزام، وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله.
ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيدا آخر فقال: {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
فمن تولى بعد ذلك:
حذف (من) فلم يقل من بعد ذلك يدل على أمرين:
الأمر الأول: أن التهديد لمن تولى بعد تقرر الميثاق والتوكيد والإقرار بأن أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته.
الأمر الثاني: تعميم التهديد لكل من يتولى في جميع مدة ما بعد الميثاق فتشمل جميع الأمم التي تأتي بعد.
والكلام في الظاهر للأنبياء لكنه في الحقيقة لأتباعهم، فكأن المعنى قوله: {فمن تولى بعد ذلك} أي من تولّى مِمن شهدتم عليهم، وهم الأمم، ولذلك لم يقل فمن تولّى بعد ذلك منكم كما قال في الآية التي خوطب فيها بنو إسرائيل في سورة [المائدة: 12]: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل} -فلو أن أحداً بعد كلّ هذا التأكيد على أخذ المواثيق والعهود المؤكّدة أعرض عن الإيمان بنبيّ كنبيّ الإسلام محمد الذي بشرت به الكتب القديمة وذكرت علائمه، فهذا المعرض فاسق وخارج على أمر الله تعالى، ونعلم أن الله لا يهدي الفاسقين المعاندين، كما، ومن لا يكون له نصيب من الهداية الإلهيّة، فإن مصيره إلى النار.
قال الفخر الرازي:” {فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوما “[7] .
قال سيد قطب:” وفي ظل هذه الحقيقة يبدو الذين يتخلفون من أهل الكتاب عن الإيمان بالرسول الأخير صلى الله عليه وسلم ومناصرته وتأييده، تمسكا بدياناتهم – لا بحقيقتها فحقيقتها تدعوهم إلى الإيمان به ونصرته، ولكن باسمها تعصبا لأنفسهم في صورة التعصب لها! – مع أن رسلهم الذين حملوا إليهم هذه الديانات قد قطعوا على أنفسهم عهدا ثقيلا غليظا مع ربهم في مشهد مرهوب جليل.. في ظل هذه الحقيقة يبدو أولئك الذي يتخلفون فسقة عن تعليم أنبيائهم. فسقة عن عهد الله معهم. فسقة كذلك عن نظام الكون كله المستسلم لبارئه، الخاضع لناموسه، المدبر بأمره ومشيئته “[8].

 

[1] وأيضا: النبيون بعد ما آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة لا يتأتى لهم أن يدعوا إلى الشريك وكيف يتأتى لهم ذلك؟ وقد أخذ منهم الميثاق على الإيمان والنصرة لغيرهم من النبيين الذين يدعون إلى توحيد الله سبحانه.
[2] وكذلك يشير له عبارة السمرقندي والثعلبي والسمين والطوسي والطبرسي، قال الثعلبي، والمعنى: أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، للاّم في قوله لتؤمننّ به.قال السمرقندي، ومعناه فما آتيتكم يعني، أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به قال، الطوسي: وتقديره أي شئ آتيتكم. ومهما آتيتكم، قال الطوسي: ” وتقديره أي شئ آتيتكم، ومهما آتيتكم” التبيان (2/ 513)، السمين الحلبي: وقوله: {مِّن كِتَابٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] يقول علي هاني: وقد نص ابن عاشور في موضع آخر على أن من البيانية في مثل هذا تفيد أيضا فائدتين: البيان والتعميم.وهذا الرأي أي جعل من بيانية تفيد مع التنكير التعميم والتعظيم أفضل من رأي الزمخشري والبيضاوي والقونوي حيث قال: الزمخشري -وقرأ حمزة: «لما آتيتكم ». بكسر اللام ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة قال القونوي: أشار به إلى أن من تبعيضية باعتبار كل واحد لكن لا يختص بقراءة حمزة فالتنبيه عليه هناك أولى نعم في صورة كون ما شرطية من بيانية لكن ملاحظ فيه التبعيض.
[3] تفسير ابن كثير (2/ 67).
[4] المنار (3/ 288).
[5] قال الطباطبائي: “ومن اللطائف الواقعة في الآية أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} – إلى قوله: – {ثم جاءكم رسول}، ومعلوم أن الرسول أخص مصداقا من النبي، فعلى ظاهر ما يفيده اللفظ يكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير دلالة على العكس”
[6] زاد المسير (1/300).
[7] التفسير الكبير (8/ 279).
[8] ظلال القرآن (1/ 421).